ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الرابع


الإشتراكيّة العربيّة

تحدّد بالنسبة الى أهداف النهضة العربيّة

 

 

ان عدّة اسئلة تعرض بهذه المناسبة(1): هل يصحّ ان تسمى المواد التي وضعت في الدستور إشتراكية؟ وهل في الإشتراكية اعتدال وتطرف، أم أن الإشتراكية واحدة ومجال الإعتدال والنظر هو في التطبيق وحده، فأما ان تتحقق دفعة واحدة، او تضطر الى تأجيل بعض اهدافها تبعاً للظروف؟ وهل الإشتراكية التي يحتاجها العرب تحدد بالنسبة الى مصالح بعض الأفراد من ذوي النفوذ والإقطاع؟

لئن سجل مشروع الدستور الجديد خطوة الى الأمام من حيث النص على فكرة الإصلاح الإجتماعي فإن هذه الخطوة ما تزال جد ضعيفة وهزيلة. حتى اذا قيست بما تتضمنه دساتير وتشريعات بعض الدول الرأسمالية في العالم، لذلك يكون الإدعاء بأن مشروع الدستور اعتنق الاشتراكية المعتدلة من قبيل اللغو والمبالغة.

اما التذرع بصفة الاعتدال ففيه مغالطة وتمويه. فالإشتراكية مهما تنوعت صفاتها واختلفت فيها الإجتهادات حدود واحدة واضحة تفرقها عن النظام الرأسمالي. ان الإشتراكية تعني دوما تأميم المرافق العامة والصناعات الحيوية الكبرى. كما تعني التوزيع العادل للاراضي واشراف الدولة او وضع يدها على التجارتين الخارجية والداخلية.

ولئن جاز التفريق بين اشتراكية متطرفة واخرى معتدلة فلا نجد ان ثمة ما ينطبق عليه صفة الاعتدال مثل اشتراكية حكومة العمال في بريطانيا. هذه اشتراكية معتدلة في بلاد عرفت دوما بالاعتدال والاتزان والتطور البطيء الذي يتجنب العنف والصدمات. ومع ذلك فأين من اصلاحات حكومة العمال البريطانية ما ورد في مشروع الدستور السوري؟. لقد حققت حكومة العمال الشيء الكثير من برنامجها الاشتراكي في مدة خمس سنوات، وما تزال ماضية في تطبيقه، ولما اضطرتها الاحداث الدولية وبعض المصاعب الداخلية الى تأجيل تنفيذ قسم من هذا البرنامج، لم تتنازل عن هذا القسم الذي اضطرت الى تأجيله، ولم تقل ان القسم الذي حققته هو كل اشتراكيتها، وهكذا يكون الاعتدال في مراحل التحقيق لا في اصل المبادئ والبرامج.

وما دمنا في صدد الاشتراكية الانكليزية، فلنتخذ منها مناسبة لتوضيح معالم اشتراكيتنا المستمدة من حاجات الشعب العربي في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة. ان الاعتدال الذي تتصف به الاشتراكية الانكليزية يظهر في المبدأ والأسلوب معا. فهي و مبدئها ليست جذرية تعيد النظر في جميع الأسس التي يقوم عليها النظام الإقتصادي والإجتماعي الانكليزي، لذلك لم تلجأ الى اعادة توزيع الثروة والأراضي كما حدث في بلاد اخرى، وهي في اسلوبها ليست انقلابية بل تطورية تحقق ما يمكن تحقيقه بالطرق السلمية. وتفسير ذلك في شيئين: رقي المجتمع الانكليزي ونضجه السياسي وانسجامه القومي، وامتلاك الدولة الانكليزية للمستعمرات.

فاذا قارنا بهذه الحالة حالة البلاد العربية ظهر لنا الفرق واضحاً: فتأخر المجتمع العربي وضعف انتاجه والتفاوت المخيف بين طبقاته يجعل كل معالجة لا تتناول الأسس بالقلب والتبديل معالجة سطحية فاشلة. كما ان ضعف البلاد العربية كدول مجزأة منقوصة السيادة يحرمها من استغلال أكثر قواها الذاتية. فضلا عن القوى الاضافية التي تستمتع بها دولة ذات امبراطورية كبربطانيا. ففي حين يشارك العامل الإنكليزي الى حد ما بصورة آلية، في الفوائد التي لدولته من مستعمراتها، فيكون بهذا المعنى، وضمن حدود معينة رأسمالياً، اي مستثمراً لجهود غيره نجد الرأسمالي العربي يفقد بعض ثمرات قدرته الاستثمارية لمصلحة الدول والشركات الإستعمارية المتحكمة في بلاد العرب.

 

والآن اذا عرّفنا الاشتراكية تعريفاً واقعياً سليماً، وقلنا انها ليست غاية في ذاتها بل وسيلة ضرورية لتضمن للمجتمع أعلى مستوى من الإنتاج مع أبعد حد من الانسجام والتضامن بين المواطنين، نجد، على ضوء هذا التعريف، ان بلوغ المجتمع العربي في وضعه الراهن لهاتين الغايتين يتطلب نظاما اشتراكياً يكون أعمق اسساً وأشمل نطاقاً، وأعنف تحقيقاً من النظام الذي ارتضاه الانكليز وفق حاجاتهم التي هي دون حاجات الشعب العربي ارهاقاً والحاحاً.

اذن فليس الاعتدال والتطرف في المبادئ الإشتراكية امراً تابعاً لهوى الأشخاص واجتهادهم النظري، بل هو مرتبط بحاجات المجتمع. ومتى فهمت هذه الحاجات فهماً صحيحاً، فلا يعود ثمة مجال للاعتدال والتطرف. بل تتوجب تلبية هذه الحاجات الحياتية بأمانة وصدق عزيمة. اما اذا وضعت المبادئ والبرامج بمعزل عن حاجات المجتمع سواء أكانت رخوة سطحية كالتي يتبناها واضعو مشروع الدستور او عنيفة مجردة مصطنعة كنظرية الشيوعيين، فإنها بابتعادها عن تلمس حاجات المجتمع الحقيقية، ستتسبب في استفحال المرض بدلاً من تخفيفه وشفائه.

ان انكلترا التي يسير تاريخها منذ مئات السنين في اتجاه تقدمي صاعد، عندما بدأت تخسر بعض سيطرتها العالمية سارعت الى التعويض عن هذه الخسارة في القوة الخارجية باستغلال قوتها الداخلية على شكل أصح ونطاق أوسع مما كان في الماضي. وهكذا اخذت بالاشتراكية المعتدلة التي تنمي قدرة الشعب الانكليزي بتحسين حالة طبقته العاملة. أما الامة العربية التي يسير تاريخها منذ مئات السنين في هبوط وتدهور فليس لها اية قوة خارجية، بل على العكس هي موضع اعتداء المستعمرين الطامعين، وما ذلك الا لانعدام قوتها الداخلية.

فالاشتراكية التي توافقها وتلبي حاجاتها ليست للتعويض والإصلاح والترميم، بل للانقاذ من خطر الفناء وللخلق من جديد. لذلك لن تكون الإشتراكية العربية الا انقلابية في فكرتها، ثورية في اسلوبها، حتى تؤدي مهمتها.

المسألة الآن هي إحياء عشرات الملايين من أفراد الشعب العربي ولو اقتضى الامر موت عشرات أو مئات من الإقطاعيين العرب.

ميشيل عفلق

12 آب 1950

(1) مقالة كتبت بمناسبة مناقشة الجمعية التأسيسية في سوريا للمواد الاقتصادية في الدستولا، نشرت في جريدة البعث، العدد 462.

 

الصفحة الرئيسية للجزء الرابع