ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


الديمقراطية والوحدة عنوان المرحلة الجديدة

 

 

يا أبناء امتنا العربية المجيدة(1)

يا أبناء العراق المنتصر

أيها البعثيون المناضلون

تأتي الذكرى الثانية والأربعون لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي حاملة هديته التاريخية إلى جماهير الأمة العربية وأجيال المناضلين وألوف الشهداء، الذين شقوا دروب البطولة وتوجوها بغار النصر.

انه النصر الذي كان بالنسبة إلى العدد القليل أمرا محسوما منذ بداية الحرب، ثم اخذ يتأكد شيئا فشيئا، مع صور الصمود البطولي وتوالي الانتصارات، ليشمل العراق بكل فئاته، وليصل إلى تلك الأعداد المتزايدة من المناضلين والمثقفين العرب الذين أهلتهم تجاربهم النضالية وثقافتهم الأصيلة وحسهم القومي السليم، لرؤية الجديد المبدع في انتصارات العراق، وفي تجربته الثورية المتميزة بعقلانيتها، وروح البطولة المنبثة فيها، وبالفكرة القومية الإنسانية الشاملة التي تشكل منطلقها والشعلة الهادية لها في مسيرتها.

هذا النصر أصبح اليوم حقيقة معترفا بها على مستوى العالم كله. أما بالنسبة لجماهير الشعب العربي في كل مكان، فقد دخل في حياتها في الحاضر والمستقبل، كعامل نهضة داخل كل قطر عربي وفي نفس كل مواطن عربي، وكعنصر صمود في مواجهة أعداء الأمة وعدوانهم ومؤامراتهم، وكحافز توحيد بين الإطار العربية.

إن كلمة نصر مهما تضمنت من معاني الغلبة والتفوق، والشجاعة والبطولة، والدقة والعمق، والاحاطة في النظرة، لا تستطيع أن تلخص معاني حرب استمرت ثماني سنوات، وتعد من أشرس الحروب التي عرفها هذا القرن. فهي تجربة ثمينة نادرة في حياة العرب الحديثة. وإذا كان العراقيون قد عاشوها يوما بيوم بكل ما أحاط بها من ظروف، ودفعوا ثمنها دما زكيا وجهدا وصبرا وذكاء وابتكار ، فإن أبناء الأمة في الأقطار الأخرى من الوطن الواحد سواء من شارك منهم فيها أم من لم يشارك، مدعوون إلى استلهامها، ودراستها بعمق، ليتعرفوا من خلالها على أنفسهم وحقيقة إمكاناتها الثرة، وعلى المستوى الجديد الناهض الذي بلغوه والذي جسدته حرب العراق ولخصته. فكما أن النصر العراقي هو نصرهم، فكذلك هذه الحرب هي حربهم، لأن الأمة كانت مستهدفة من خلال تخطيط الأعداء لاجتياح العراق، لذلك كان من الطبيعي أن يشارك فيها مناضلون من مختلف أقطار الوطن العربي، وان يمتزج دمهم بدم العراقيين دفاعا عن سلامة الأمة، وعن مستقبل النهضة العربية في أقطارهم وفي الوطن العربي كله.

الانتصار العراقي رصيد للأمة العربية

هي حرب العراق وحرب العرب، لأن العراق والعرب عرفوا كيف يكشفون المؤامرة الخبيثة ذات الامتدادات الصهيونية والإمبريالية الكامنة وراء حرب إيران الخميني، الذي دفعه تعصبه وأحلامه التوسعية إلى سلوك طريق العدوان، عوضا عن الانصراف إلى بناء المجتمع وإسعاد الشعب.

فالحرب العدوانية هي رصيد سلبي في تاريخ البلد الذي يتورط فيها. في حين أن الحرب الدفاعية، الصامدة الظافرة، هي حق وعدل ومجد يضاف إلى تاريخ الأمة التي قبلت التحدي وتغلبت عليه، وحولته إلى وسيلة من وسائل نهوضها وقوتها.

إن النصر العراقي وليد حالة نهضوية مستقبلية يعيشها العراق منذ ما يربو على العشرين عاما، فهو بطبيعته متجه نحو المستقبل، المستقبل العربي. إنها حالة بعثية متحدة بإمكانات العراق في أقصى مداها، توفرت لها قيادة تاريخية هي وليدة المعاناة النضالية والظروف القاسية التي مرت بها الأمة، تمثلت في الرفيق العزيز صدام حسين الذي استطاع بما يمتلكه من وعي قومي أصيل، ومن فكر نير يستوعب معطيات العصر ومتطلباته، أن يفجر الطاقات العراقية الفذة، ويوجهها لبناء نهضة شاملة في مختلف نواحي الحياة، وفق نظرة حضارية متفتحة، أخذت كل أبعادها، وبرهنت على تفوقها الحاسم في مواجهة العدوان الذي مثل نقيضها.

لقد قدم الرفيق صدام حسين من خلال مسيرة النهوض في العراق، ومن خلال قيادته المقتدرة الظافرة للحرب، وما زال يقدم في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الأمة، أنموذجا للعقل العربي الحديث المستوعب للعلم وتطبيقاته العملية، وللنواحي الروحية والإنسانية التي تكمل الشخصية الحضارية الجديدة للإنسان العربي، كما يقدم أنموذجا للتعامل المبدئي مع الأهداف، والتطبيق المبدع لها، وللقدرة على استخلاص دروس التجارب النضالية الحزبية والقومية لبناء التجربة المتفوقة، وأنموذجا للعلاقة الصميمية بين القائد والشعب، وللانتماء العميق إلى الأمة وتاريخها، متسلحا بإرادة نادرة لا يمتلكها إلا القادة التاريخيون.

إن هذا النصر، على ما فيه من عظمة وروعة لن يكون آخر ما يستطيعه شعب العراق، وتزخر به أعماق الأمة العربية من قدرات ومفاجآت. فالحالة التي يعيشها العراق هي ابعد ما تكون عن القطرية، لأا تجربة بعثية، بفكر قومي، وبروح قومية، ولأن الأمة في حالة التجزئة لا بد أن تتمثل، بين حين وآخر، في قطر يكون مستجمعا لعدد من الشروط الجوهرية الضرورية، لكي تجد فيه الأمة مجالا للتعبير عن روح النهوض فيها.

فالنصر العراقي حالة متفاعلة مع الحالة العربية العامة، وليست خارج القدرة العربية، بل هي التعبير الأعمق واللأصدق عنها، وهي قابلة للتعميم والانتشار. بل إن هذا هو قانونها وقدرها وضمانتها ضد محاولات التآمر، بل هو ضمانة لنهضة الأمة.

وقد تحقق للعراق خلال الحرب شيء أساسي ونادر في الواقع الراهن للأقطار العربية، هو هذا الحد العالي من التجانس والتطابق بين ما هو عراقي وما هو عربي، بين ما هو عراقي عربي وما هو إسلامي، كل هذا بالانسجام مع روح العصر، أي مع ما هو إنساني.

كما تحقق لتجربة العراق الثورية شيء ثمين، بأن تتمكن رغم ظروف الحرب من تطوير المشاركة الشعبية الديمقراطية، وأن يأخذ الالتفاف الشعبي الواعي المتصاعد حول قيادتها بعدا نضاليا عميقا. وجاء النصر ليفتح للممارسة الديمقراطية آفاقا واسعة لتطويرها وإغنائها واستكمال مؤسساتها.

إن نصر العراق نصر للفكر القومي، فكر النهضة العربية، الفكر الحضاري المتشبع بروح الإسلام، والمنفتح على حضارة العصر، والمؤمن بالعلم والتقدم، لان المعركة كانت فكرية بقدر ما كانت عسكرية، بل أنها الحرب الأولى الجدية التي يخوضها العرب تحت لواء الفكر ويدافعون فيها، بأنهار من الدماء الزكية عن خيارات فكرية وحضارية أساسية لوجودهم ومستقبلهم كأمة.

إن عناصر الخير والصحة وقوى المستقبل في الأمة تدرك ذلك، وتدرك أن حماية النصر العراقي موكلة إليها، بأن يدخل هذا النصر في وعي الجماهير العربية على امتداد الوطن الكبير، بكل العوامل الأساسية التي جعلته ممكنا، بل محتوما، وبكل أبعاده التحررية والتقدمية والوحدوية، حتى تتهيأ عوامل الانطلاق والاقتدار للأمة بكاملها.

فالانتصار العراقي، هو منعة وقدرة للعراق العربي، وهو رصيد للأمة العربية فيه قوة وقدوة لها في حاضرها ومستقبلها، في صراعها مع أعدائها الرئيسيين: الإمبريالية والكيان الصهيوني، وفيه ردع للأعداء المحتملين مثل إيران التي جعل منها الضعف العربي عدوا، وقد تجعل منها الوحدة العربية جارا صديقا وحليفا.

يا أبناء شعبنا العربي

اثنتان وأربعون سنة، انقضت على تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، وما يزال يستلهم البداية البسيطة والقوية التي انطلق منها، ويستخلص دروس المسيرة الطويلة من النضال على طريق تحقيق أهداف الأمة، التي بلورتها عقيدة البعث.

فحزب البعث، ليس فكرا حسب، انه فكر ونضال ومعاناة.. أي انه تجربة صادقة متطورة، مندمجة في المصير العربي، هدفها الأبعد والأعلى هو الوحدة العربية، بمضمونها الشعبي التحرري التقدمي الديمقراطي. لذلك فهي رغم تطورها المستمر، تشعر في حالة التجزئة العربية، أنها تجربة غير مكتملة.

حزب البعث ليس فكرا حسب، انه روح وجو ومستوى.. وخيارات البعث الفكرية، وان تكن قد استدعتها ظروف المرحلة، فإنها وضعت بالمقاييس التاريخية لا الظرفية، وعلى ضوء قيم التراث الخالد، ومفاهيم الحضارة العالمية المعاصرة.

ففي أول توجه له نحو شباب الأمة وجماهيرها الشعبية، أعلن البعث إيمانه بالاشتراكية العربية مقابل الاشتراكية الأممية، أعلن إيمانه بالإسلام الثوري العربي الإنساني في وجه الجمود. هاجم التقليد والتبعية الثقافية لأوروبا و أعلن إيمانه بالحرية والتقدم، وبالعلم والتحرر، وفضح خدع الفكر الشعوبي الذي يخفي أحقاده التاريخية على العرب وراء شعارات التحرر والثورة، وأعلن تصميمه على أن تكون النهضة العربية أصيلة، جذرية، إنسانية، لا اثر فيها للتعصب والعنصرية والطائفية، ولكل ما يحط من كرامة الإنسان، ويعوق انطلاق مواهبه. كان من أوائل الذين نادوا في العالم بالحياد الايجابي وعدم الانحياز، فعبر بذلك عن نظرة مستقبلية.

البعث ونهضة الأمة

وإذا كان البعثيون اليوم، يشعرون كما كانوا يشعرون خلال عشرات السنين الماضية أنهم غير مفاجئين بالتطورات الفكرية التي تحدث على المستوى العالمي أو على المستوى الإقليمي فلأن البعث، بمنطلقه المتجرد، قد فكر واجتهد في ما يصلح أساسا لنهضة الأمة، لمستقبل مديد، رغم إيمانه العميق بالتطور والتجدد، ورغم استعداده للتجاوب مع الحاجات والتطورات المستجدة.

أليس ما يجري الآن من تطورات مفاجئة في البلدان الاشتراكية والتي تؤكد على العلاقة بين الاشتراكية والديمقراطية والأبعاد الحضارية والروحية والقومية كان البعث قد تعرض له منذ البداية وخلال مسيرته الطويلة، ونماه وتوقعه!

أليس الإيمان بقدرة الإسلام المتجددة على التأثير الروحي والحضاري في مصير الإنسانية، من القناعات الأساسية للبعث سواء أكان ما يتعلق منها بالإسلام كدين وحضارة للعرب، وبمكانة الإسلام في النهضة العربية، أو ما كان متعلقا بأبعاده العالمية، وعلاقة الشعوب الإسلامية بالأمة العربية؟ إن اقتران بداية الحزب برؤية عميقة إلى الإسلام كان من أهم العوامل التي أعطت البعث ذلك البعد التاريخي الحضاري الذي ميزه، وكانت وراء صموده وتجدده واستمراره واستقراره.

ولا يعود مستغربا أن يكون البعث في بداية الأربعينات، أول من نقد العلمانية المستوردة من الغرب، وألح على الصلة العضوية المصيرية بين العروبة والإسلام دون تفريط بالمحتوى التحرري والتقدمي لمفهوم الثورة العربية. ذلك أن البعث نبع من فكرة حية أصيلة صادقة، تهتدي بيسر ونفاذ إلى الأمور الجوهرية والمصيرية، وتجعله دوما في حالة إعادة بناء، فلم يسجن نفسه في قوالب نظرية وعقائدية، وكان طوال مسيرته يستلهم الحرية.

ولأن نظرة البعث كانت نظرة حية، فلم تحجب عنها عروبة الإسلام صفته العالمية، وانه دين يتوجه لكل البشر. لذلك كانت للشعوب الإسلامية مكانة في تفكير الحزب منذ بدايته. ولكن الحزب كان أيضا ومنذ بدايته، واضحا وحاسما في موضوع قومية الأمة، وأنها الأساس والشرط الضروري لفهم علاقة الإسلام بالعروبة، وعلاقة العرب بالشعوب الإسلامية. فوحدة العرب كانت المقدمة الضرورية لتوحيد الشعوب التي دخلت في الإسلام، ووحدتهم الآن تفسح المجال واسعا لتعميق الروابط الوحدوية بين الشعوب الإسلامية.

أيها المناضلون العرب

إن البعث، قبل أن يولد كحزب، نشأ وترعرع في جو وطني خالص، وقد طبعت هذه النشأة مسيرته النضالية، فلم يعرف المهادنة ولا المساومة مع أعداء الوطن والأمة، وهو من قبل أن يعلن عن تأسيسه، ومنذ حركة نصرة العراق عام ١٩٤١، يؤكد الإيمان بالوحدة العربية، لأنه نشأ على حب العروبة، فكان عربيا في الفكر والتصور والممارسة، واعتبر أن تحقيق أول خطوة وحدوية بين سورية ومصر، كان أكبر إنجاز له. وحارب الانفصال بكل ما أوتي من قوة، واخرج من صفوفه الذين هادنوه وتعاونوا معه، ولم يقبل البعث قبل مؤامرة ٢٣ شباط ١٩٦٦، المساومة مع المغامرين الطائفيين، وآثر أن يخسر السلطة في سورية على أن يخسر نفسه ومبدئيته وهويته التاريخية، وأن تثلم الثقة القائمة بين البعث وبين جماهير الأمة العربية. فعمل مع مناضليه في العراق بعد أن استردوا السلطة الثورية على إزالة الالتباسات الناجمة عن فترة الحكم في سورية، والتشويهات التي ألحقتها بصورة الحزب، بإبراز قوميته وعروبته وصلته الحية بالتراث الخالد، وحبه للشعب، وتحقيق ما يصبو إليه من نهضة وبطولة.

المشروع القومي والتطور الحضاري

فمن خلال العراق ونهضته وصموده وانتصاره العظيم، عبر البعث مرة أخرى، في فترة من أدق الفترات التي مرت على الأمة العربية وأخطرها في العقدين الأخيرين، عن مشروعه القومي وعن تصوره الحضاري، حيث تأتلف العروبة الأصيلة وتتحد مع الإسلام السمح، ومع التقدم وروح العصر، من اجل حركة نهوض شامل وعميق، تحرر الإنسان العربي في عقله ومواهبه وشخصيته كلها، وتطلق طاقات الشعب العربي في جميع أقطاره وتدفعه في طريق الوحدة والتقدم والإبداع.

أيها المناضلون العرب

أيها الرفاق البعثيون

كان هم البعث منذ البداية، أن يمثل التجرد القومي في نضاله، وان يرتفع فوق عوامل التجزئة وان يتجاوز الوسط الذي خرج منه ونشأ فيه لكي يمثل الحاجات الأساسية للأمة. بالرغم من انه نشأ في قطر معين من أقطار المشرق هو سورية العربية، فانه كان يدرك انه نتاج الأمة. لذلك كان حريصا على التفاعل مع قضايا الوطن الكبير، ومتنبها إلى ضرورة إنضاج صيغة وحدوية في الفكر والنضال، صيغة مبدئية حرة ومرنة تستوعب كل ما هو ايجابي في خصوصيات أقطار الوطن العربي، وتسمح بالتفاعل فيما بينها، وتدفع بعوامل التطور فيها، وتكون مفتوحة على المستقبل بلا حدود.

كان الحزب منذ نشأته يملك الطموح لان يمثل الأمة، وان يمثل القومية العربية بكل تجرد، لا ينحاز إلى قطر ولا يرجح قطرا على آخر،  إلا ضمن المقاييس القومية التي تقرر بان الانحياز لا يكون إلا للنضال. فعندما يكون النضال مستعرا في قطر، فهذه هي الأمة، وهذا ما يستحق أن تنحاز إليه.

ومنذ بدايته راهن البعث على عمق الاتجاه الوحدوي عند العرب في جميع أقطارهم، وعلى كون هذا التوجه يشكل ابرز سمات المرحلة التاريخية. فكان يتطلع بضميره وعقله إلى ثلاث جهات في الوطن الكبير، يعتبرها أساسية بالنسبة للمستقبل العربي: إلى دور العراق القومي، والى دور مصر النهضوي، والى أهمية أقطار المغرب العربي.

كان للعراق منذ عشرينات هذا القرن، الريادة في التوجه القومي والتطلع إلى حمل رسالة الوحدة. وكانت مصر منذ أواسط القرن الماضي تحمل مشعل النهضة والتجدد والفكر والثقافة. وكانت أقطار المغرب العربي تتمخض عن الثورات التحريرية تحت راية العروبة الإسلامية.

في الأربعينات، قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، عبأ البعث الجماهير ضد فظائع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ودعا إلى دعم حركات التحرير في أقطار المغرب العربي كافة. وفي الخمسينات رفع شعار الوحدة مع مصر قبل عامين من قيام دولة الوحدة، ولم يكن يرى في ذلك تناقضا مع دعوته في الأربعينات إلى اتحاد سورية والعراق. إذ أن البعث كان يعتبر أن مصر، وهي القطر الأكبر والأسبق إلى النهضة الحديثة، ما تزال بحاجة إلى المزيد من التفاعل القومي.

فوحدة سوريا مع مصر هي بالدرجة الأولى من اجل هذا التفاعل الحيوي. والشيء الذي تحقق لمصر في هذا المجال، في الثلاثين سنة الأخيرة، إنما هو تقدم أساسي نوعي، سيكون له أثره الحاسم على القضية القومية كلها. لذلك، عندما استجاب الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر إلى نداء الوحدة الذي أطلقه البعث في ١٧ نيسان ١٩٥٦، جند البعث كل إمكاناته، وقاد سورية على طريق تحقيق وحدة ١٩٥٨ مع مصر. وعندما وضع أمام خيار حل الحزب في دولة الوحدة، أو لا وحدة، اختار الوحدة لأنه كان يخشى إضاعة الفرصة التاريخية التي سنحت، رغم ما يعنيه ذلك بالنسبة له، وهو الشريك في صنعها، ورغم ما كان يدركه وما أثبتته التجربة من أن التناقض بين الحزب والوحدة كان توهما لا أساس له، وان وجود الحزب هو من أهم ضمانات استمرار الوحدة وتطويرها وتعميمها.

الوحدة بنت النصر

يا أبناء امتنا المجيدة

الوحدة هي بنت النصر. وقد كانت وحدة سورية ومصر عام ١٩٥٨ ثمرة انتصار مصر الثورة، قبل ذلك بعامين، في معركة تأميم القناة، وفي صد العدوان الثلاثي. كما كانت ثمرة انتصار حزب البعث على دكتاتورية الشيشكلي، قبل قيام الوحدة بأربع سنوات، وانتقاله الى مركز قيادة الحركة الشعبية في سورية، والمساهمة الفعالة في قيادة حركة النضال الوطني والقومي المتضامنة مع ثورة عبد الناصر والمتفاعلة معها في العديد من الأقطار الأخرى. وقد سارت سورية كلها وراء حزب البعث في تلك المواقف حتى أثمرت الوحدة. فتحقيق أول وحدة تجاوزت العوامل الجغرافية، وكانت برهانا عمليا على واقعية التطلعات الوحدوية، أخذ في منظور البعث معنى الفرصة التاريخية، لان تبدأ الخطوة الأولى للدخول في عصر الوحدة.

يا أبناء امتنا العربية المجيدة

إن الأصل والأساس في العمل الوحدوي في فكر البعث هو النضال الجماهيري والتحرك الشعبي. هذا هو المبدأ، وهو القانون الذي أثبتته تجارب السنوات الثلاثين الأخيرة، والدروس المستنبطة منها، بان الضمانة لاستمرار الوحدة ونموها هي حركة الجماهير الشعبية. غير أن هذا لا يتعارض مع أية خطوات وحدوية على الصعيد الرسمي، إذا توفرت لها بعض الظروف والصفات الايجابية التي تجعلها قادرة على تفهم تطلعات الجماهير ورغباتها وحاجاتها، وقادرة أيضا على أن تتجاوب معها في حدود ظروفها وإمكاناتها.

وفي هذا الإطار يهمنا أن نقرر حقيقة أولى حول مجلس التعاون العربي، وهي انه ابن النصر الذي حققه العراق، والذي جاء ثمرة التفاعل بين الأقطار التي تجاوبت مع المعركة وشاركت فيها. فهذه المشاركة، وهذا التجاوب، يشكلان أساسا معنويا للقاء والتعاون، وقاعدة شعبية في الوقت نفسه. ذلك أن مشاركة هذه الأقطار للعراق أثناء الحرب، لم تكن مقتصرة على الأنظمة، بل تعدتها إلى قطاعات واسعة من الجماهير.

أما اتحاد أقطار المغرب العربي فانه يلتقي مع تطلع شعبي قديم لجماهير هذه الأقطار نحو وحدة المغرب العربي وتعزيز عوامل التقارب مع أقطار المشرق والتفاعل معها، باتجاه الوحدة العربية الشاملة. إن التفاعل على المستويين الشعبي والرسمي، هو الذي ينضج العملية التاريخية للوحدة العربية من جهة، ويشكل الضمانة الرئيسية لإبعاد الخطوات الوحدوية في هذا الجزء من الوطن العربي أو ذاك، عن احتمالات العزلة والضيق، من جهة ثانية.

إن مصداقية هذه الخطوات الوحدوية، تكون في الانفتاح على الجماهير. فالأنظمة التي امتلكت القدرة على اتخاذ مبادرات على هذا المستوى، يفترض فيها، أيضا، الشجاعة في تطبيق الديمقراطية، ودعم الخطوات الرسمية الفنية بالوعي القومي والاجتماعي الذي هو ثمرة المشاركة الجماهيرية. فالمشكلات التي قد تنشأ من عدم اكتمال الشروط للممارسة الديمقراطية، أو عن الخلل في ممارستها، يقابلها أضعاف أضعافها من الخير والعطاء والخلق والإبداع واكتساب الفضائل، التي لا تتفتح ولا تأخذ مدياتها إلا في جو الحرية.

إن الصيغ التعاونية التي قامت في الوطن العربي مطالبة أيضا أن تبرهن باستمرار عن انفتاحها بعضها على بعض، وأن تؤكد حرصها على الوصول إلى الهدف الأساسي الذي هو الوحدة الشاملة وليس الوحدات الجزئية. فعدم افتتاحها بعضها على بعض ثقافيا، واقتصاديا، وسياسيا سيكون عقبة في طريق الوحدة، حيث تنشأ المصالح والعادات وتتعمق الإقليمية، ويصبح من العسير التغلب عليها.

الديمقراطية عملية إنقاذ للأمة

يا أبناء شعبنا العربي الأبي

إن عنوان المرحلة التاريخية التي تبدأ الآن هو: الديمقراطية والوحدة، واعتبار الديمقراطية عملية إنقاذ للأمة كما هي الوحدة. فالديمقراطية هي الحقيقة الأولى التي تطرح نفسها اليوم طرحا حيا تتلازم فيه الأبعاد الفكرية والنضالية والسياسية والاجتماعية، فهي حاجة إنقاذ أمام ما أصاب هذه الأمة في العقود الأخيرة من تداع وترد وهبوط وانقسام وضياع، أوصلها إلى نوع من الشلل وضع الجماهير في حالة المتفرج على النكسات والهزائم، وشجع الأعداء على التطاول والعدوان. إا فترة قاسية من حياة الأمة، وكاشفة لما خلفه غياب الديمقراطية من آثار مدمرة في بنيان العمل القومي.

إن الطروحات الفكرية حول الديمقراطية، على أهميتها، ومهما كانت قيمتها، تبقى مجردة إذا لم تلامس حقيقة ما تمثله الديمقراطية في المرحلة المقبلة من عودة للروح التي غابت عن الأمة، عندما غيبت الجماهير.

والحقيقة الثانية مرتبطة بالأولى ومستنبطة منها وهي: إن القضية القومية أصعب وأكثر تعقيدا من أن يستطيع تيار واحد، أو حزب واحد، أن يفي بحاجاتها وان يقوم بحلها أو يستوعبها. فإذن هي بحاجة إلى جهود الجميع، والى آراء ووجهات نظر مختلفة تتكامل ويصحح بعضها بعضا.

والحقيقة الثالثة تتلخص في أن الديمقراطية عندما تصبح حقيقة واقعة في الحياة العربية، تكون المصدر لشرعية جديدة تأتي من حصيلة الحوار والنضال والاختبار العملي النضالي، ومدى التجاوب مع أماني الشعب وإرادة الجماهير، ومدى تمثل هذه الحركات لتطلع الجماهير إلى النهضة والتقدم والدخول الحاسم في الحياة العصر. لان الشرعية التي تقدمها الديمقراطية لا تكتمل إلا بالتوجه نحو العدالة الاجتماعية ونحو تحرير الطاقات الجماهيرية من ضغط الحاجات اليومية. فكما أن الديمقراطية والوحدة تشكلان حالة إنقاذ، فان الاشتراكية تشكل بدورها الضمانة الأساسية لحيوية هذين الهدفين ولربطهما بمصلحة العدد الأكبر.

تلك هي الحقائق الأولية التي تطرح نفسها. وإذا كانت الديمقراطية مطلوبة كعلاج لحالة سلبية مزمنة أصابت الجسد العربي، والحركة الشعبية، فإنها مطلوبة أيضا لتعميق حالة الاستنفار وتكثيف الوعي بالأخطار المحيطة والأمراض الداخلية. فالمطلوب من المرحلة الجديدة، يتلخص في أمرين أساسيين:

- عودة تاريخية للحركة الشعبية العربية بوزن يكون في مستوى الأخطار ووسائل الأعداء.

- وتغيير للعقلية والنظرة إلى الجماهير والى المواطنين، والى حقوق الإنسان، تغييرا أساسيا مستندا إلى المنطق الحضاري الإنساني للنهضة العربية.

إن العودة إلى الديمقراطية بعد غياب طويل، عملية صعبة وتحتاج إلى جهود جميع المفكرين والقيادات الوطنية، والى حصيلة تجاربهم الناضجة من أجل رعاية هذه العودة، ومن أجل أن تجتاز خطواتها الصعبة ومراحلها الضرورية.

يا أبناء امتنا العربية المجيدة

إننا نقف اليوم أمام حالة نهضوية متقدمة تبشر بالانتقال إلى مرحلة تاريخية جديدة تتسم بالنضج والإقدام وروح المبادرة، وبعودة الجماهير العربية إلى ساحة العمل القومي لصنع الأحداث واستئناف النضال الوحدوي.

هذه الحالة، ما كان ممكنا أن نصل إليها لولا النصر العراقي، ولولا الانتفاضة الفلسطينية. إن الانتفاضة الرائعة التي يخوضها شعبنا الفلسطيني البطل بكل فئاته، وفي مقدمتهم الأطفال، منذ سنة ونصف السنة في مواجهة السلطات الصهيونية الغاصبة لوطنه وأرضه، وضعت القضية الفلسطينية في موضعها الصحيح على الطريق السليم، وفضحت ، أمام العالم، الأسس العدوانية الإغتصابية التي قام عليها الكيان الصهيوني، والتي دعمها الغرب الاستعماري وحماها بكل وسائله وأسلحته.

فاستلام الأطفال والشباب لقضية فلسطين، دليل قاطع على أن نضال هذا الشعب لا يحده زمن، وانه مفتوح الآفاق حتى يؤتي ثماره بتحرير فلسطين، لأن الأجيال الشابة متجددة باستمرار. ومن معاني ذلك، أن أصحاب الأرض الحقيقيين، أصحاب البلاد، عندهم من القدرة على الصمود والنضال، ولأن يحاربوا بأبسط الأسلحة والأدوات إلى أمد غير محدود حتى يرضخ العدو الغاضب الدخيل، فيرحل عن وطنهم.

الانتفاضة والنضال الفلسطيني

لقد جمعت الانتفاضة مقومين أساسيين للنضال الفلسطيني: المقوم الوطني المبني على الارتباط بالأرض، وبتاريخ النضال الفلسطيني. والمقوم العربي الذي يعبر عن الانتماء القومي، وعن مكان قضية فلسطين في حركة الوحدة العربية في مرحلة النهضة. فهؤلاء الأطفال والفتية حملوا الراية عن آبائهم بشعور مؤمن وواثق بأن الأمة حاضرة في نضالهم، وفي تطلعهم للمستقبل، وبأم يقاتلون ويصمدون بقوة الأمة العربية كلها، وبأن النضال المفتوح وغير المحدود الذي يخوضونه، إنما هو جزء من النضال العربي على طريق الوحدة والنهضة.

إن الكاشف الأساسي لحقيقة الأوضاع العربية، والمعيار الذي يقف على رأس المعايير الوطنية والقومية والديمقراطية في الوطن العربي الآن، هو التجاوب مع الانتفاضة في الأرض المحتلة، وتقديم الدعم الحقيقي لها، وان تكون هي المادة اليومية لنضال الجماهير العربية، وللتعبير عن مدى تقدمها لاسترداد زمام مصيرها وحقها في المشاركة في توجيه سياسة وطنها وأمتها، لأن هذا هو الجو الذي يحمي الانتفاضة ويعمقها.

إن قضية فلسطين تمر الآن في مرحلة بالغة الدقة والأهمية، وإن حزب البعث الذي وضع دوما تحرير فلسطين هدفا ثابتا ومركزيا له، يحرص على تأكيد تمسكه بقضية التحرير الكامل لفلسطين، ويعتبر أن أي موقف جدي ومسئول منها، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار معيارين رئيسيين:

- استعداد شعب فلسطين للنضال حتى التحرير.

- واستعداد الأمة العربية الدائم لجعل قضية فلسطين قضيتها المركزية في نضالها على طريق الوحدة والنهضة.

الأوضاع القومية والعمل المستقبلي

أيها الرفاق البعثيون

يا أبناء شعبنا العربي

في هذا الوقت الذي تستقبل فيه الأمة، بشيء كثير من الاستبشار والعزم المتجدد، مرحلة جديدة، موسومة بالنهوض، وبإرادة تحقيق خطوات عملية، على طريق الوحدة القومية، يحز في نفس كل عربي مخلص أن يرى سورية، هذا القطر العربي الرائد في النضال القومي، والعمل الوحدوي، بعيدة عن أي دور أو أية مشاركة في العمل العربي، بل إن النظام الحاكم قد فرض عليها دورا مضادا لكل تاريخها الوطني، ولريادتها الوحدوية.

فماذا يقول أولئك الذين ما يزالون يقفون من هذا الوضع الشاذ الذي تعيشه سورية منذ أكثر من عشرين سنة، موقف المتفرج، وأولئك الذين ما يزالون يتعاملون مع النظام المتسلط عليها، بمنطق الحسابات السياسية، وبخاصة أولئك المثقفون والسياسيون الذين يفترض بان يزنوا مواقفهم في ضوء المصلحة القومية. ماذا يقول هؤلاء جميعا لشعب سورية الذي تعرض خلال هذه السنوات الطويلة للقمع والإفقار والجازر. وماذا يقولون لألوف المعتقلين في سجون هذا النظام، الذي أوصل سورية إلى حد أبعد فيه جيشها وأبعدت فيه جماهيرها عن معركة تحرير أرضها الوطنية، ووضع موقعها الجغرافي السياسي في خدمة العدوان الذي استهدف الأمة كلها من خلال استهداف العراق، واستهدف مصير القومية العربية التي يتستر النظام السوري بشعاراتها؟ وماذا يقولون لسكان المخيمات الفلسطينية، ولأبناء شعب لبنان، الذين أمعن هذا النظام فيهم تقتيلا وتدميراً..؟ بعد أن فتت طاقات سورية واستخف بتاريخها وبقيهما الوطنية وتقاليدها النضالية وعطل دورها الطليعي في العمل القومي.

إن هذه الممارسات الشاذة وتلك المواقف التي لا تقل شذوذا، هي نتاج مرحلة سلبية لا بد أن تنتهي. مرحلة، أوصلت أبناء قطر عريق في النضال كسورية إلى الوقوف مكبلين مكتوفي الأيدي أمام محنة بلدهم التي تشكل ابرز صورة لما أصاب الجسد العربي من شلل جراء اغتيال الديمقراطية وروح النهضة.

فلا بد للعرب وهم يفتتحون هذه المرحلة الايجابية الجديدة التي تستلهم روح الصمود في الأمة وروح النهضة والوحدة، أن يقفوا إلى جانب سورية لكي تعود إلى دورها الطبيعي في مسيرة النهضة القومية والعمل القومي المستقبلي.

أيها الرفاق البعثيون

أيها المواطنون العرب في كل مكان

ومما يعزز حالة النهوض التي نشهدها، عودة مصر إلى القيام بدورها العربي، رغم المؤامرات التي تستهدف هذا الدور لتشويهه وتعطيله. فالاهتمام بمصر وبدورها القومي وبإمكاناتها المستقبلية، كان وسيبقى من أهم خيارات البعث، والمعبر عن تصوره الحضاري للوحدة العربية ومستقبل نهضة الأمة. ولقد كنا دوما نعيش مع شعب مصر معاناته ونراهن على وطنيته العريقة، وعروبته الصادقة، وعلى الرصيد الثقافي والحضاري والنضالي الكبير الذي تملكه مصر.

إن عروبة مصر وارتباطها المصيري بتاريخ الأمة ومستقبلها هي حقيقة كبرى من حقائق هذا العصر، ومن حقائق النهضة العربية، يدركها العرب خارج مصر، في مشرق وطنهم ومغربه، منذ انتشار الوعي العربي في بدايات هذا القرن، وهم يتطلعون إلى اليوم الذي يسهم فيه الوعي القومي الوحدوي في مصر، بالتفاعل والمشاركة المصيرية مع باقي أجزاء الوطن العربي، في إنضاج المستوى الجديد الذي تتطلبه المرحلة القادمة للعمل القومي.

يا أبناء امتنا العربية

إن للمغرب العربي أهمية كبرى في حياة العرب وحضارتهم ونضالهم الطويل، وهذه الأهمية كانت دوما موضع اهتمام البعث، لأنه ينظر لأقطار المغرب العربي باعتبارها جرءا مهما وأصيلا في كيان الأمة حاول المستعمر دوما أن يقيم حاجزا بينه وبين المشرق العربي. وكان الحزب يحمل الإعجاب الكبير للمزايا التي تجلت في نضال أقطار المغرب العربي خلال مواجهتها الضارية للتحدي الاستعماري الغربي، وكانت منتبها إلى خصوصية هذا النضال الذي واجه أنموذجا خاصا من الاحتلال الأجنبي، استهدف جوهر الشخصية الوطنية والقومية، فكانت المواجهة حضارية بين استعمار استيطاني حاول أن يسلب الجوهر الروحي لأقطار المغرب، وبين شعب استمد من القوة الروحية التي منحته إياها شخصيته الإسلامية، سر نجاحه في كفاحه وصموده التاريخي أمام هذا النوع من السلطة الاستعمارية الغازية. فهي خصوصية تنطوي على أصالة وايجابية، يأتي الإسلام وتطابقه التام مع العروبة، كأظهر حالة فيها، وهي التي طبعت حياة المغرب العربي في صراعه الطويل ضد الاستعمار، وفي مقاومته لأثر الثقافة الاستعمارية الذي استمر بعد انتهاء الغزو العسكري والسياسي.

إن المفكرين العرب في جناحي الوطن الكبير، مطالبون بان يستوعبوا الخصوصيات المتعددة فيه، وان يكون الانفتاح والتفاعل المتبادل وسيلة لبلورة الصيغة الحضارية للتكامل القومي ووحدة الأمة.

يا أبناء الأمة العربية

وفي أجواء هذه الحالة النهوضية، وكأحد تعبيراتها، استطاعت القوى الوطنية والقومية الحية في السودان، أن تفجر انتفاضة شعبية في نيسان ١٩٨٥ ضد الديكتاتورية مؤكدة بذلك دور هذا القطر العزيز في تلبية الضرورة التاريخية للديمقراطية كحاجة تقدمية ووحدوية في هذه المرحلة من الحياة العربية، ودوره في الإسهام في تقدم إفريقيا والعالم الإسلامي.

والسودان بتاريخه ووعيه السياسي المعاصر، جدير بان يتطلع إليه العرب في كل مكان ليقوم بدور مميز في ظل نظام ديمقراطي تتأمن فعاليته وإشعاعه بإفساح المجال فيه للقوى الاجتماعية والسياسية الحية حتى ينتهي التناقض المصطنع بين الممارسة الديمقراطية وفرص التطوير والتغيير لمصلحة الجماهير. فقد استطاعت شرعية الإرادة الشعبية الممثلة في الأحزاب والنقابات أن تعبر عن نضجها بالتقاء الجيش مع الشعب على البرنامج المرحلي الذي يقرن الديمقراطية بالانجاز، ويطرح مقومات وضرورات الوحدة الوطنية والتقدم والسلام، في إطار الخيار الديمقراطي، الذي أثبتت الأحداث الأخيرة مجددا، انه خيار الشعب والجيش معا.

أيها المناضلون

يا أبناء أمنتا المجيدة

لقد كان مقدرا لمعاناة لبنان الطويلة أن تطور فيه وعيا وطنيا وقوميا، يصحح صورة الماضي، ويشق طريق المستقبل. إلا أن بوادر هذا الوعي كانت تصطدم دوما بمخططات معادية مختلفة المصادر. وما تزال القوى المتآمرة على النهوض العربي، وعلى دور لبنان في هذا النهوض: الاحتلال الصهيوني، والتدخل الإيراني، وتسلط نظام حافظ أسد، والتواطؤ الامبريالي، تعرقل كل محاولة لعودة لبنان إلى حالة صحية معافاة، قادرة على إعادة التوازن والانسجام والوحدة للبنان، ولتأثيره الايجابي في حياة الأمة العربية.

إن خروج لبنان من أزمته الطويلة الصعبة، يتوقف إلى حد كبير على مبادرات القوى الشعبية الحية من مختلف الأوساط والفئات، لإيجاد صيغة وطنية تحظى بدعم عربي فعال، كفيله بمواجهة صريحة وجريئة لهذه الأزمة، تنطلق من استيعاب الدروس الماضية، والحرص على وحدة لبنان واستقلاله وعروبته. فثمة حالة قديمة من الاغتراب الحضاري، كان للغرب الاستعماري باع طويل في خلقها وترسيخها، لا يمكن ولا يجوز أن تستمر في صورة لبنان المستقبل. وثمة حالة طارئة جاءت بها ظروف المحنة وظروف التراجع العربي، حاولت أن تمرر مخططات إيرانية تعمل على زرع كيان أجنبي، مضاف للكيان الصهيوني، بهدف اغتصاب أجزاء من هذا القطر العربي، وللقضاء على دور لبنان وأصالته وتقدميته، لا بد أن تواجه بموقف وطني وقومي موحد.

الدور الكبير للمفكرين العرب

أيها المناضلون العرب

يا أبناء امتنا الأبية

إذا كان ثمة ميزة يحرص البعث على توضيحها وإبرازها، فهي انه حاول دوما أن يتجاوز نفسه. وهذه الميزة ليست غير التعبير عن توحد البعث مع أفكاره ومبادئه التي تريد منه أن يعبر عن جوهر الأمة، وعن حاجاتها الحقيقية ومصلحتها العليا.

وهذا الحرص يتزايد اليوم، لان المرحلة التي تدخلها الأمة تتطلب هذا الموقف، كشرط موضوعي للاستجابة إلى ضرورات كل عمل مستقبلي.

ولقد كان للمفكرين والمثقفين العرب في مختلف أرجاء هذا الوطن الواسع، دور كبير في صنع الحالة النهضوية التي تعيشها امتنا، من خلال تراكم مساهماتهم التي تدخل في وعي الأجيال الشابة، وينتقل منها الشيء الكثير إلى وعي الجماهير، وهذا أمر طبيعي. فالنهضة العربية منذ بدايتها، قامت على الفكر بكل مستوياته وتعبيراته. قامت على الأدباء والشعراء إلى جانب العلماء والمفكرين. وكانت حصيلة ربع القرن الأخير من هذه المساهمات، حصيلة قوية، لأنها انطلقت من جرح الهزيمة، والخوف على المكتسبات القومية الثورية من أن تنهار وتضمحل وتعصف بها روح الهزيمة واليأس. فكانت مساهمات المفكرين والمثقفين على مختلف أنواعهم وأقطارهم، فيها عمق النقد والمراجعة، وفيها حرارة الصمود والإعداد لاستئناف المعركة والمسيرة. وفي معركة العراق كان دور المفكرين والمبدعين لا يقل عن دور المقاتلين في صنع النصر، كما أن دورهم الآن في معركة الانتفاضة مهم وأساسي.

غير أن هذا يبقى اقل بكثير من المستوى المطلوب لمواجهة الأخطار والمؤامرات على الكيان العربي، وعلى قومية الأمة، ولاقتحام المرحلة التاريخية الجديدة. لأن الأعداء التقليديين للأمة: الإمبريالية والصهيونية، صاروا يتجنبون العداء السافر والمباشر ضد الأمة العربية. فهم يحركون الجيوب الداخلية تحت شتى المسميات. فالأخطار من الجدية بحيث تستوجب تعبئة لكل رجال الفكر والثقافة في الوطن العربي، لكل الذين يدركون هذه الأخطار من أجل مواجهتها بعمل جماعي منظم، ينصب في الدرجة الأولى على النواحي الايجابية في حركة القومية العربية، لتوضيحها وإبراز الأبعاد الروحية والحضارية والإنسانية في قومية الأمة، وإيصال هذه المعاني إلى الجماهير الشعبية الواسعة، لكي تكون، من جهة على بينة من الأخطار المهددة لأمتها، ومن جهة أخرى على بينة من مضمون قوميتها، وأا كانت دوما تعيش في صيغة موحدة مع الإسلام. وفي الوقت نفسه لتكون هذه الجماهير على بينة من حقيقة أخرى في مضمون قوميتها، هي البعد الحضاري الإنساني، واليمان بالتقدم والتجدد، ومقاومة دعوات التخلف والتعصب والانقسام، واعتبار معركتها الأساسية في هذه المرحلة هي في التغلب على عوامل التخلف والتجزئة.

الأمر الذي يجب أن نحذره، هو أن تكون الظواهر الايجابية الجديدة، مدعاة استرخاء. فهذه الظواهر التي تحققت وشكلت إضافة جدية للقوة العربية، أثارت في الوقت نفسه مزيدا من العداء والتآمر عند أعداء الأمة، ومزيدا من الإعداد لامتصاص هذه القوة العربية الجديدة، لتصديعها وتفتيتها والتآمر عليها. لذلك علينا أن نجعل شعار المرحلة، هو الاستنفار، أكثر من أي وقت مضى. الاستنفار لقوى الأمة الحية، والعمل على إنضاج تصور موضوعي واستراتيجية عمل مستقبلي.

الحوار الديمقراطي

فالحوار الديمقراطي المنطلق من الإيمان بوحدة الأمة، المتحرر من الحساسيات، الذي ينبغي أن يتسع وان يتعمق بين البعثيين والناصريين والإسلاميين والماركسيين وسائر القوى الوطنية والقومية، هو المدخل الطبيعي لبلوغ هذا المستوى الجديد، الكفيل وحده، بفتح آفاق العمل المستقبلي على انتصارات جديدة للأمة.

- تحية لشعب العراق العظيم الذي سجل في تاريخ الأمة المعاصر، أروع انتصار وابلغ معاني البطولة والتضحية والفداء، وأعلى درجات الوعي الوطني والقومي في الدفاع عن ارض العراق وسيادته وعن المصير العربي كله.

- تحية لجيش العراق، جيش الانتصارات والبطولات الخارقة، الذي توحد مع تراث الأمة ونماذجه الخالدة وقيمه النبيلة، ومع الأهداف العليا للأمة في التحرير والوحدة.

- تحية للجيش الشعبي البطل، الظهير القوي للقوات المسلحة، وللذين شاركوه في القتال من المناضلين العرب، فأكدوا معنى التلاحم القومي في معارك المصير.

- تحية حب للرفيق صدام حسين بطل النصر، ابن البعث الأصيل، وابن العراق البطل، وابن الأمة الخالدة، الذي انتزع للعراق وللأمة نصرا خالدا سيكون الحد الفاصل بين زمن الضعف والتراجع، وزمن النهوض واسترداد الحقوق.

- تحية لانتفاضة أبناء فلسطين التي تتحدى قوى الاحتلال الهمجية وتؤكد تجدد روح النضال والصمود في الشعب والأمة، وإرادة التحرير الكامل.

- تحية للرفاق البعثيين ولكل المناضلين العرب في كل مكان من ارض العروبة، وبخاصة أولئك الذين يدفعون ضريبة النضال داخل السجون وفي المنافي.

- تحية لشهداء الأمة الذين لهم الفضل الأول في تحقيق انتصاراتها في العراق وفلسطين وفي كل ساحة نضال متصل بأهداف الأمة وبإرادة جماهيرها في الوحدة والنهضة.

(1) كلمة في السابع من نيسان ١٩٨٩ لمناسبة الذكرى الثانية والأربعين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث