ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


العمل المستقبلي: نداء الى الأمة

 

الولادة التاريخية للبعث

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير امتنا العربية المجيدة

يا أبناء شعبنا العراقي العظيم

في الذكرى الحادية والأربعين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، تستعاد أمام الأمة وأجيال نهضتها المعاصرة، صورة حركة ولدت من معاناتها النضالية. حركة تسترجع ظروف نشأتها وعوامل نموها واستمرارها ومحطات مسيرتها لتضع خبرات ماضيها وتجربتها الطويلة في خدمة الأمة ومستقبل النهضة القومية والعمل العربي المستقبلي.

إنها النشأة البسيطة المتواضعة الصحية، العميقة الصلة بحالة الأمة وظروفها الصعبة القاسية، ظروف الاستعمار الأجنبي والاحتلال، والتي تبدأ بمقاومة الاستعمار بشكل حاسم، ومهاجمة ركائزه من زعامات كانت تقبل بالمساومات والتسويات.

إنها النشأة النضالية التي تجسد المبدئية التامة والنضال الصلب العنيد، والروح الوطنية التي بقيت والتي ستبقى في البعث على رأس الفضائل، والتي تعبر عن التعلق الصميمي بقضية الأمة، والإيمان بحقها في الحرية والاستقلال والنهضة، وان يكون لها دورها الإنساني. إنها النشأة الفكرية التي طرحت أفكارا ذات صلة حية بخط النهضة العربية الحديثة، إلا أنها سجلت خطوة نوعية متقدمة بحكم نضج الظروف الذاتية والموضوعية، في الفترة التي ظهرت فيها حركة البعث. إنها النشأة الشعبية الاجتماعية التي ربطت تلك الأفكار بمصلحة وتطلع العدد الأكبر من أبناء الأمة. إنها الانطلاقة التي رأى فيها الشعب مكملا لنضاله الوطني وطموحه القومي، والتي اعتمدت على الطلاب والشباب المثقف، كرسل يحملون إليه أفكارها، بحرارة وصلابة وعنفوان كانت الحركة الوطنية التقليدية قد افتقدتها إلى حد ما.

إنها المعاناة الشاملة التي أوصلت الأشخاص الذين بدأوا هذه الحركة، إلى قرار مصيري في حياتهم وفي حياة أمتهم. إنها الولادة التاريخية في الظروف القومية الصعبة، التي أكسبت البعث القدرة على ترويض الصعوبة وتحويلها إلى عوامل تصليب وتعميق للنضال والصبر واكتساب الفضائل الجديدة، بعمل تاريخي طويل النفس، بعيد الأهداف. كما أنها من جانب آخر أعطت للحزب وجودا موضوعيا كحركة تاريخية، تصب في مسيرتها جهود لا تحصى: جهود الجنود المجهولين المناضلين من أبناء الشعب والأمة.

وقد كشفت مسيرة ما يقارب بصف قرن على تلك النشأة الأولى أهمية المنطلقات الفكرية الأساسية التي كان لها الدور الأكبر في بقاء الحزب ونموه واستمراره ووحدته، والتي كان في مقدمتها التأكيد على البعد القومي العربي.

 البعث وتراث الأمة

ولم يكن التصور القومي للبعث منفصلا عن الصلة الحية بالتراث الروحي والحضاري للأمة العربية، فإلى جانب العلاقة الموضوعية بين العروبة والإسلام، التي كانت إحدى الركائز الأساسية التي قام عليها فكر البعث.. قامت علاقة ذاتية وجدانية مصيرية بين البعث والإسلام، نبعت من مصدر أساسي، ومنطلق مكمل للمنطلق القومي، هو حب الشعب والأمة. كما أنها جاءت نتيجة للتصميم على الاضطلاع بالمسؤولية القومية. وقد أصبحت هذه العلاقة أهم محرك وملهم ومميز لحرب البعث.

كان لابد للبعث أن ينطلق من هذا الشعور النفسي الوجداني، من حب الأمة وحب الشعب، والتجرد التام في حمل المسؤولية القومية وأهداف الأمة. هذا المنطلق الذي يفسر اليوم سر الصمود التاريخي للحزب، رغم كل المصاعب التي واجهها ورغم الهجمات والافتراءات والمؤامرات.

ولقد تسلح البعث منذ بدايته بهذا الدافع، دافع الحب للأمة، والمراهنة على الصعوبة، واستخلاص كل ما تنطوي عليه الصعوبة من عبرة وحافز، ومن حكمة ومن إيحاء بضرورة الصبر والتعمق والمراجعة والنقد الذاتي، والامتزاج دوما في حياة الشعب وروح الشعب مع تفاؤل وإيمان وثقة عميقة ومتجددة بأصالة الشعب وبطيب معدنه، وسلامة حسه، وباستعداد الأمة للانبعاث الحقيقي، أي للتعرف على الجوهر، والتغلب على المظاهر البراقة والسطحية الخادعة.

التعامل الاستراتيجي والأخلاقي

وبهذا السلاح، انتصر البعث على الصعوبة وامتلك النفس الطويل، وظل واثقا ومؤمنا بان حقيقته لا بد وان تنجلي مهما يطل الزمن، وحتى للذين عادوه وقاوموه وحملوا له الكراهية، لان تعامل الحزب مع السياسة ومع الأحداث والزمن كان تعاملا استراتيجيا، وبأفق الحركات التاريخية، وبمستوى أخلاقي لم يعد مألوفا في العمل السياسي.

فالصدق والتعلق المصيري بقضية الأمة، والإخلاص في البحث عن الأفكار المؤهلة لا تسهم في نهضتها وفي إنقاذها، وتلمس الطريق إلى هذا الإنقاذ بإخلاص العالم للحقيقة، قد جعل نشأة البعث تتسم بالأخلاقية والتفاني في العمل لمصلحة الأمة ونهضتها وبناء مستقبلها.

لذلك كانت أفكار الحزب في تطور مستمر.. وكان نضال الحزب ينتصر على الصعوبات. فالفكر المتحرر العلمي والتقدمي، والشعور النفسي الوجداني، والموقف المصيري، والنظرة الواقعية العقلانية.. هي المطلقات الأولى للبعث، التي نبعت منها الأفكار واسترشدت بها مسيرة النضال، هي التي أسبغت الطابع الحي والأخلاقي على الفكر والنضال، وجعلت من تاريخ الحزب مسيرة متجددة للصمود والاستمرار. فنضال البعث لم يكن مجرد عمل سياسي أو فكري أوصل إليه المنطق أو استقراء التاريخ أو استشعار الحاجة الظرفية، ولم يكن تقريرا لحقيقة نظرية، بل كان معبرا عن رؤية، وعن علاقة حب وتفاعل، وأمل وتفاؤل، بان يتجدد فعل الإسلام كروح ثائرة مجددة ومبدعة في الحياة العربية الحديثة، من خلال النضال الصادق، ومواجهة تحديات الواقع العربي الممزق المتخلف، وتحديات العصر.

كان اكتشافا ولقاء حارا وحيا. ولقد طبعت هذه الرؤية ولونت أفكار الحزب كلها، ونضاله الطويل. ولقد كان الحزب دوما على ثقة تامة بان ضمير الشعب متجاوب معه، وان الزمن يعمل لمصلحة جلاء الحقيقة بكل صدقها ونصوعها، وان الفكر القومي يتقدم، لان حقيقته تزداد جلاء ولان خصومه ينفضحون.

فالفكر القومي الحديث، نشأ في ظروف الصدمة مع الغرب الاستعماري، وخرج من حركة التجديد الإسلامي، ومن تطور الوعي للهوية القومية، وأصبح هو المسؤول عن حياة الأمة، وهو الممثل لها. لان الفكر القومي استلهم الإسلام كثورة روحية قومية وإنسانية وخلقية، كما استوعب حاجات النهضة المعاصرة للأمة.

علاقة العروبة بالإسلام

فإذا كان الجيل الأول الرائد للنهضة العربية، قد عالج المشكلة القومية قبل أكثر من قرن، من منطلق إسلامي إصلاحي عام، فان القومية العربية، التي هي نتاج التطور التاريخي، قد أكدت على العلاقة الحميمة بين العروبة والإسلام، وقطعت الطريق على الانحراف بالفكر القومي نحو (العلمانية) بمفهومها الغربي، التي تهمل التراث، و(العالمية) المجردة التي تتجاهل خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام. فالإسلام هو الذي حفظ العروبة وشخصية الأمة في وقت التمزق والضياع وتشتت الدولة العربية إلى طوائف والى ممالك ودويلات عدة متناحرة، وكان مرادفا للوطنية وللدفاع عن الأرض والسيادة، والداعي إلى الجهاد أمام العدوان والغزو الأجنبي، وسيبقى دوما قوة أساسية محركة للنضال الوطني والقومي. وهو الذي خرجت من صلبه، ومن حركة التطور التاريخي فكرة القومية العربية بمفهومها الإنساني السمح، وهو الذي يحيط الأمة العربية بسياج من الشعوب المتعاطفة معها.. بسب هذه العلاقة، التي يمكن أن توظف في قضايا التحرر وفي معارك التحرير.

فالفكر القومي الذي طرحه البعث، كان يؤكد منذ البداية: أن هذا العامل الصميمي المندمج في نسيج الأمة، وفي تاريخها، وفي حيتها اليومية، لا يصح أن يتناول من زاوية الموقع الحيادي النظري السياسي، وان الشيء الطبيعي أن يكون انفتاح التيار القومي على الإسلام موقفا فيه الحرارة والحنين، والغيرة والحرص والاعتراف بالفضل، وبما يشكله الإسلام من ضمانة مصيرية لقوميتنا ولمستقبلنا كأمة. ومن هذا المنطلق، يستطيع التيار القومي أن يحاور التيار الديني المتجرد الوطني، حوار الحب والعقل، في الوقت الذي يفضح فيه الحركات الانتهازية والغوغائية والشعوبية المتسترة بالدين، ويعري زيفها وتآمرها، وهو واثق أن ضمير الشعب سيكون إلى جانبه، وسوف يتجاوب معه، لان هناك حقيقة تؤكدها الأحداث ومسيرة النهضة العربية، وهي أن الاتجاه القومي قد أوصلت إليه مراحل التطور كمعبر عن روح الأمة، وعن خلاصة تجربتها القومية الحضارية منذ ألف سنة، وكصيغة علمية واقعية تضمن للأمة انطلاقها في طريق التجدد والتقدم، مع احتفاظها بأصالتها وجوهر تراثها. وهي صيغة مستوعبة لكل ما هو ايجابي ومفيد في الحركات التي تستند إلى التراث.

الإيمان ووضوح الأهداف

يا أبناء شعبنا العربي الأبي

لقد عبر المنطلق القومي عن أهدافه فلخصها في الوحدة والحرية والاشتراكية.. ولئن ساوى بين هذه الأهداف ونظر إليها باعتبارها وحدة جدلية، فانه أعطى أرجحية في النضال للوحدة العربية، لان الخطر عليها أكبر من كل الأخطار، ولان مقاومة الأعداء لها تسهل عليهم تعويق الأهداف الأساسية الأخرى وإمكانات تحقيقها تحقيقا أصيلا وكاملا. ولأن التحرير الكامل للأقطار، وتوفير شروط الأمن والتنمية والتطور الديمقراطي، لا يمكن أن تتحقق في ظل أوضاع التجزئة، التي تسمح بتزييف الديمقراطية والاشتراكية، وتضع شتى العقبات أمام التطبيق السليم لهما.

إن هذا الوضوح في نظرة الحزب، نابع من إيمانه القومي، ومن وعيه لمتطلبات تحقيق الوحدة، وللعلاقة بينها وبين مضمونها الشعبي الديمقراطي والاشتراكي. فهناك حقيقة تاريخية لا يمكن طمسها أو تجاهلها، وهي أن الفكر الوحدوي الحديث، بدأ مع ظهور البعث الذي طرح الوحدة طرحا علميا، وكشف عن أن الوحدة لا يمكن أن تأتي نتيجة آلية للتطور القطري، فهي شيء للخلق، شيء يجب أن تبذل في سبيله جهود مكثفة وفكر وعمل وحدوي، تقوده طلائع وحدوية منظمة، موجهة للرأي العام ولجماهير الأمة، وضاغطة على الأنظمة القطرية، وقادرة على تحقيق الترابط العضوي بين النضال الوحدوي والنضال الديمقراطي والاجتماعي في عملها اليومي، ومستوعبة في الفكر والممارسة للخصوصية القطرية السليمة الطبيعية، التي تغني الوحدة بالتنوع، ولا تشكل عقبة في طريقها.

فتصور البعث، يفترض خلق جيل وحدوي بوعيه وقناعاته وعواطفه، يشق طريق الوحدة وسط تآمر الأعداء وما يضعونه في وجهها من عقبات.. ويتصدى للمصالح الضيقة المستغلة لأوضاع التجزئة.. هذه المصالح الآثمة المجرمة، التي تجسدها الأنظمة والفئات التي توظف نفسها لخدمة الأجنبي، كالنظام الذي يتستر وراء شعارات وحدوية وتقدمية، ليقوم بدور تعميق التجزئة وطعن الرابطة القومية في الصميم.

الوحدة عمل شعبي نضالي

فالشيء الأساسي الذي أكد عليه الحزب دوما، هو: أن تحقيق الوحدة عمل شعبي ونضالي، لان تصوره للوحدة تصور ديمقراطي قائم على الترابط العضوي بين الوحدة والديمقراطية، ومنسجم مع تصوره الحضاري لبناء المجتمع والإنسان، ولان ما عانته الأمة على امتداد أكثر من عشرين سنة من حالة العجز والتردي وتفاقم التجزئة، إنما يعود إلى قمع حركة الجماهير، ومنع الشعب من أن يكون له كلمة ورأي في صنع مصيره ومصير وطنه وأمته.

فبغياب الديمقراطية تتعطل طاقات مخزونة في الشعب، وتضمر روح النضال والتحدي، ويتخلف الوعي، وبط اهتمامات أبناء الشعب وتصبح الأمور الحياتية والمعيشية هي الطاغية، كما تنمو حالات مرضية بين الفئات المثقفة المتنورة، فتعيش في ازدواجية على حساب قوة العطاء والإبداع، وعلى حساب وحدة الشخصية، وانسجامها مع الأهداف العامة.

فالوحدة والديمقراطية نضال يتطلب حضور الجماهير الشعبية في ساحة العمل الوطني والقومي، وممارستها دورا أساسيا في بناء الحياة الجديدة وفي الدفاع عن الوطن والأمة، ومشاركتها في صنع كل القرارات المهمة والمصيرية.

فالديمقراطية ضمانة كبرى لتنمية العوامل المسهلة للوصول إلى الوحدة، والتقريب بين الأقطار.. وان يكون الشعب هو المستلم لمقدراته، وهو الذي يشق طريق النهضة ويقاوم التسلط والاستبداد، كما يفضح التبعية للأجنبي والتآمر على الاستقلال وعلى مصير الأمة ككل، كما يفضح الاستغلال الطبقي ويقاوم الفساد ويسهر على الحريات، ويدافع عن حقوق الإنسان، ويحرص على سلامة التوجيه الوطني والقومي الملائم للنهضة والتقدم، وعلى شخصية الأمة وهويتها وصلتها بتراثها. يحارب النزعات الشعوبية والمخططات الامبريالية، ويدافع عن الرابطة القومية، وينمي الوعي بوحدة الأمة ووحدة مصيرها.

فالديمقراطية شرط أساسي وحيوي من اجل النضال الوحدوي، لأنها تخلق مناخا للتوعية والحوار والنضال الجماهيري. إلا أنها لا توصل بالضرورة إلى الوحدة. فلا بد من العنصر الثوري الذي يسابق الزمن ويختصره انطلاقا من رؤية الأخطار المهددة لوحدة الأمة ونهضتها.

الأمة تعيش النقيضين

يا أبناء أمتنا المجيدة

إن أمتكم تعيش اليوم الأحداث المصيرية.. تعيش النقيضين: الواقع العربي المحكوم بالعجز والشلل والتبعية والتنصل العملي من كل مسؤولية قومية. وتعايش الحالات المشرقة والظواهر المستقبلية في العراق وفي فلسطين. هذه الحالات النهضوية التي تنطوي على الإعجاز وتؤكد نضج عوامل النهضة والانبعاث.

فالعمل الوحدوي بصيغة تخطيط استراتيجي، وتصميم إرادي، يشكل ضرورة تاريخية لوضع حد لهذا التناقض، وللانتقال من حال إلى حال مختلف، باتجاه التقدم والسيطرة على المصير.. إذ بدون ملء الفراغ القومي الوحدوي، تتعرض الأمة لفترة غير قصيرة من الانتكاس وحالة اليأس والإحباط، وتضيع الفرص الايجابية لتعميم الحالات المشرقة.

فانتفاضة الشعب العربي في فلسطين، والصمود التاريخي للعراق، الى جانب الوعي الجديد في مصر الذي بات يتحسس أهمية الوحدة من خلال التجربة والمعاناة، إضافة إلى ظواهر ايجابية أخرى في المجتمع العربي، كل هذه الحالات تطرح قضية الوحدة، كما تطرحها أوضاع الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في جميع أقطارها.

تجربة الحزب في العراق

أيها المناضلون على امتداد الوطن العربي

إن تجربة الحزب في العراق، كانت على طريق الازدهار والإشعاع عندما فاجأها العدوان الخميني. فإذا هي تجعل من الحرب مفاجأة للأمة، وتكشف عن جوهرها من خلال انتصاراتها وتفوقها وصمودها الثابت والمتصاعد، الذي اخذ يفصح على امتداد ثماني سنوات أمام الشعب العربي والعالم، عن العوامل الجدية والجديدة المكونة لهذا الصمود، والمتمثلة في العقيدة القومية المستوعبة لحاجات الأمة العربية، والمتجاوبة مع ضمير الشعب وانتمائه الحضاري، ووعيه لدوره القومي في نهضة الأمة، والمتمثلة أيضا في القيادة التاريخية الفذة المستوعبة لحاجات المرحلة، والمتميزة بالكفاءة والتفوق، التي استطاعت من خلال الحزب وتغلغله في صفوف الشعب، أن توقظ في شعب العراق، بعربه وأكراده، حسه النهضوي، وان تنمي فيه استعداده للتقدم، وللبناء العقلاني المنظم، وللدفاع عن وحدته الوطنية ومصيره الوطني.

بيد أن هذه الحالة الجديدة، احتاجت، بسب غياب العمل الوحدوي القومي الاستراتيجي، إلى زمن غير قليل لكي تدخل ببطء وعمق في وعي الجماهير العربية والمثقفين العرب، وان تتغلب على الحواجز القطرية والتعتيم الإعلامي المقصود، وأصبحت في النتيجة، وبعد اعتماد طويل على الذات، تشكل منذ سنوات، ظاهرة نهضوية متميزة، ينعقد عليها الإجماع العربي الشعبي وشبه الإجماع الرسمي، تلهم الإيمان بقدرات الإنسان العربي والتفاؤل والثقة بمستقبل الأمة.

فانتصار العراق، وهو انتصار محسوم بشكل أكيد ونهائي، نتيجة التفوق النوعي العميق المميز لنهضته، هذا الانتصار على العدوان الإيراني، كان في الوقت نفسه انتصارا غير مباشر على العدو الصهيوني المحالف لإيران، ودعما وتعزيزا لنضال شعب فلسطين، وأملا ووعدا بان يكون الجيش العراقي المنتصر، في طليعة معركة تحرير فلسطين.

الانتفاضة الشعبية في فلسطين

يا أبناء شعبنا الفلسطيني

رغم تباين الظروف بين الحالة الطليعية العراقية وبين الانتفاضة الفلسطينية، فإنهما تعبيران متكاملان عن نضج طويل في التجربة النضالية للأمة.

فبعد عشرين سنة من المخاض القومي، منذ هزيمة حزيران التي كانت نتيجة لغياب الجماهير العربية عن ساحة النضال، وبعد ثماني سنوات من الحرب، قدم العراق خلالها البراهين الساطعة على قدرة وإمكانات الشعب العربي على الصمود والعطاء. وبعد ظهور وبروز هذه القدرة والكفاءة، عند جيش مصر في معركة العبور في حرب تشرين، وبعد مخاض طويل ظهرت خلاله صورة مشرقة، كانتفاضة الشعب في السودان، التي أعادت الديمقراطية إليه، وصل العرب إلى هذا المستوى من النضج المتميز الذي تمثله الانتفاضة الشعبية في فلسطين، تلك الانتفاضة التي تشكل البداية السليمة والصحيحة، لعودة الجماهير العربية إلى ساحة النضال، لتصنع تاريخ أمتها من جديد، لان هذه البداية تنطلق من فلسطين وباسم معركة تحريرها، أي باسم القضية التي يتوحد حولها العرب قاطبة. إنها صورة مشرقة جديدة في الحياة العربية، الصورة التي حققت الشرط الأول والسابق على كل شروط الانتفاضات، والذي هو انطلاق الشعب واندفاعه نتيجة إحساسه بالقهر واغتصاب الآخرين لحقوقه. فهو ينطلق وينعتق ويقتحم الصعوبات وينتزع حريته انتزاعا، ويصمد ويستمر، ويطور مقاومته وتصديه مزودا بالوعي وبالتجارب الغنية، وبالإيمان بقضيته، وبكامل حقوقه، وبأنه قلب الأمة وطليعتها، يتقدم صفوفها لكي يحرك فيها روح الحرية والإقدام وحمل المسؤولية التاريخية. ويحمل قضيته التي هي قضية الأمة إلى العالم، ويطرحها بأبسط وأنصع وأقوى شكل. فالانتفاضة خطاب مباشر إلى العالم لتذكر بالظلم التاريخي الذي ألحقه الغرب الاستعماري بالعرب، بزرعه الكيان العنصري الصهيوني في فلسطين على حساب شعب فلسطين والحق العربي الصريح. وخطاب غير مباشر إلى الأمة والى الواقع العربي، لكي تسترجع الجماهير الشعبية على المستوى القومي دورها التاريخي واندفاعها الخلاق، ولكي تتوحد من خلال تضامنها وتفاعلها مع شعب فلسطين في ولادته الجديدة.

شعب تكوّن واستكمل تكوينه، وامتلك الأساس لكل نهضة ومقاومة وانتفاضة وثورة، وهي روح الحرية المنبثقة من أعماق الجماهير الشعبية، عندما تواجه خطرا مصيريا يتهدد وجدوها الحقيقي، أي قيمها العليا ومستقبلها. ولقد عبرت هذه الروح عن نفسها في السنوات الأخيرة بتصدي العراق للخطر المهدد لأرضه وسيادته، ولقومية الأمة وهويتها الحضارية، وعبرت عن نفسها في مصر، عندما اقتص شعبها من الحاكم الذي فرط بالحقوق الوطنية والقومية واختار طريقا غير الطريق الذي أراده لها أعداء الأمة والخونة والمنحرفون. وهي تعبر الآن من خلال انتفاضة الشعب في فلسطين، عن الإصرار المتجدد على استرداد الحق والأرض باستعداد للتضحية والفداء بلا حدود.

شعب لا يمكن أن يغلب

فعنصر المبادرة الشعبية الحرة العميقة، هو العنصر البارز والطابع المميز لانتفاضة شعب فلسطين. وتصاعد هذه الانتفاضة يعني أن هذا الشعب لا يمكن أن يغلب.

إنها مدد من روح الأمة جاء على غير ميعاد، لقضية فلسطين وللنضال العربي كله. إنها رسالة تتضمن درسا وقدوة: درسا بان الشعب المقهور، يكفي أن يصمم حتى يتحول قهره إلى قوة هائلة تفرض نفسها، ويعجز العدو بكل أسلحته ووسائله عن محاصرتها.. وقدوة لان شعب فلسطين استطاع أن يواجه جيش الاحتلال الصهيوني، وان يشق الحصار الإعلامي وكل ما للصهيونية من نفوذ في الغرب. فالجماهير العربية لن تكون مهمتها أصعب من مهمة شعب فلسطين عندما تحدى الاحتلال.

ولتكن البداية: تحدي أوضاع القهر والقمع في سبيل التضامن مع شعب فلسطين من خلال مشاركته في معركته المقدسة، وتقديم كل أشكال المساعدة والمساندة لتمكينه من الاستمرار في انتفاضته.

الانتفاضة وضعت الأمور في نصابها

يا أبناء العروبة البواسل

منذ العام ١٩٤٨ والعرف السائد في السياسة العربية، أن الحكام العرب إما أن يروا في قضية فلسطين عبئا فيهملوها، أو مجالا للانتفاع فيعملوا على استغلالها. وثمة من يتطوع اليوم لمحاولة إخماد هذه الانتفاضة والالتفاف عليها بقصد الحصول على مغانم وفوائد، كثمن بخس لهذه الخدمة التي تقدم للأعداء، متناسين أن قضية فلسطين كانت دوما القضية الثورية الشفافة التي يتعذر على أحد، كائنا من كان، أن يزيفها. بل كانت هي الضوء الكاشف لحقيقة الأوضاع العربية ولدرجة فسادها وعجزها وتبعيتها للمصالح الأجنبية، وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى قادرة على تعطيل كل ممارسة لتسخيرها والمساومة عليها مع القوى الأجنبية المعادية.

جاءت الانتفاضة فوضعت الأمور في نصابها، بتسلم الشعب صاحب القضية قضيته. وصححت مفاهيم خاطئة وفضحت مزاعم للصهيونية، عبئ بها الرأي العام العالمي. كما أنها عززت القرار الذي اتخذته قيادة فتح عند تأسيس حركتها، بان تكون مستقلة عن أي نظام عربي، وان مهمة تحرير فلسطين تقع بالدرجة الأولى على عاتق شعب فلسطين، دون أن يعني ذلك التنكر للانتماء القومي، لان هذا الانتماء يبقى بالنسبة للنضال الفلسطيني أقوى سند وأغزر نبع. فشعب فلسطين العريق في اتصاله بتاريخ الأمة، لا بد أن يستلهم الروح الوثابة لهذا التاريخ وهو يستشرف المستقبل العربي.

لذلك فان خير وسيلة لدعم الانتفاضة الشعبية الفلسطينية على المستوى القومي، هو الارتفاع بالوعي العربي وبالنضال إلى مستوى العمل الوحدوي الاستراتيجي الذي ينتقل بالأوضاع العربية إلى مستوى الدعم والمساندة لتيار النضال القومي الموحد، بدلا من أن تبقى عامل إضعاف وإجهاض له. فاستمرار الأوضاع التي تسببت في الماضي في ضياع فلسطين، من شأنه إن يجهض الانتفاضة ويشكل خطرا على الظواهر المستقبلية في الواقع العربي.

يا أبناء شعبنا العربي

إن للأوضاع العربية السلبية ركائز تجسدها. وقد كان نظام حافظ أسد على امتداد العشرين سنة الأخيرة، يمثل ذروة السلبية في هذه الأوضاع. وكان دوره بالنسبة إلى القضية الفلسطينية وموقفه من العراق في مواجهته للعدوان الإيراني، مشابها لدوره داخل سورية وفي لبنان. انه الدور الشعوبي والانتهازي، الذي بدأ قبل كل شيء بالردة على البعث والتنكيل بمناضليه وبشعب سورية وذبح الألوف من أبنائه.

والسؤال الكبير الذي يطرح اليوم: كيف يتمكن هذا الشعب المناضل حتى الآن من إسقاط هذا النظام المتسلط عليه؟

إن هذا النظام الذي عطل دور سورية القومي، يستمد بقاءه من خدمة مخططات الأعداء، سواء بالتآمر على الثورة الفلسطينية ومحاولة شق منظمة التحرير ومحاصرة المخيمات في لبنان، أو بالعمل على إشغال العراق عن مهامه القومية بالانحياز إلى إيران المعتدية، أو بالتفنن في الإلهاء عن المعركة مع العدو بصراعات داخلية مع العرب، أو بتوظيف نفسه للدفاع عن الكيانات والمصالح التي تعيش على ضعف الأمة وعلى حالة التخلف والتشرذم والتجزئة. وهو في الوقت الذي يعير فيه واجهته التقدمية المزيفة لخدمة هذه المصالح على المستويين العربي والدولي، ينمي ويخلق في داخل سورية، طبقة طفيلية من النوع ذاته، تسمن من جوع الشعب، وتستغل تردي أوضاع الأمة، وتشكل، مع الجهات الأجنبية والعربية التي يخدمها النظام، دعامته الأساسية في الاستمرار والبقاء، متسلطا على شعب سورية، متآمرا على الأمة العربية.

ولكن ثقتنا بشعب سورية وبأصالته الوطنية والعربية، إضافة إلى حالات النهوض القومي في العراق وفلسطين التي تؤشر بداية النهاية لعهد التردي والتي يتفاعل معها شعب سورية.. كلها تؤكد أن هذا البلد الذي كان رائد القومية العربية منذ بداية القرن، والذي ضرب الأمثلة في مقاومة الاستعمار الأجنبي في ثورات متلاحقة، جعلت سورية أول الأقطار العربية في نيل الاستقلال.. شعب سورية الذي من نضاله الوطني وجوه العربي وتطلعه الدائم إلى التقدم نشأت الحركة العربية الثورية التي قدر لها إن تكون على مدى نصف قرن معبرة عن ضمير الأمة.. هذا الشعب الأبي لا يمكن إن يتنكر لطبيعته وقدره ولدوره في نهضة الأمة. ولن يتأخر اليوم الذي ينهض فيه ليمحو العار الذي ألحقه بسورية حافظ أسد ونظامه، ليفتح عهدا جديدا وانطلاقة وطنية تعوض عن الفترة الطويلة التي غيب فيها شعب سورية عن مسرح العمل القومي، ووضع فيها الموقع الاستراتيجي لسورية في خدمة أعداء العروبة والنهضة العربية وشعب فلسطين والتحرير.

التجربة البعثية الأمينة

أيها المناضلون العرب

أيها البعثيون الأصلاء

لقد كانت ثورة رفاقنا في العراق، الرد المبدئي على المزورين والمشوهين لوجه الحزب في سورية الذين جعلوا من استلام السلطة مناسبة لفرض تكتل متسلط على الحزب تقوده فئة مغامرة لا تحمل أية مبادئ وأية أفكار بناءة، بل مجرد شهوة للسلطة، وتراكم حقد شعوبي على الأمة وتاريخها، انصب بكل وطأته على الحزب كجزء أصيل معبر عن تاريخ الأمة وطموحها الحضاري، ثم انصب بشكل خاص ومكثف على العراق.

فالشيء الذي حصل في سورية هو النقيض الكامل لحزب البعث، ولكل ما تقول به القيم والأعراف القومية. وقد أصبح واضحا للأمة العربية كلها، الفرق بين حزب البعث التاريخي وتجربته الأمينة الفذة في العراق وبين ما يجري في سورية تحت اسم الحزب من تآمر على شعبها وعلى القضية القومية.

ولا نشك في أن هذه الحقيقة قد انطبعت في نفوس أبناء سورية وفي عقولهم وضمائرهم على اختلاف طبقاتهم وطوائفهم ومذاهبهم، بما فيهم الطائفة التي استعمل المغامرون اسمها ورصيدها، وأساؤا إلى سمعتها والى انتمائها الوطني والقومي.

ولا نشك أيضا في أن كل يوم يمضي على صمود العراق وانتصاراته ونجاحه في درء أخطار التوسع الإيراني الشعوبي عن الأرض العربية والأمة كلها، يزيد في انشدادهم إلى الحالة الصحية الجديدة التي تتحقق اليوم في العراق، كما تتجلى في انتفاضة شعب فلسطين، ولا بد أن تؤجج روح النضال فبهم، لكي يقولوا كلمتهم الفاصلة وينقذوا بلدهم ومستقبله.

البعث وسيلة للأمة

يا أبناء امتنا العربية المجيدة

لقد جاء الجواب التاريخي على الردة من العراق، عراق الأصالة والبطولة والمبدئية والخلق العربي. عراق المناضلين البعثيين الذين تميزوا بالأخلاقية والجدية والروح النضالية والإرادة الاقتحامية لانتزاع الفرصة للحزب وللشعب من أجل بناء تجربة بعثية أصيلة ومبدعة -تجربة تشمل الشعب كله لان من طبيعة حزب البعث أن يعتبر ذروة نجاحه وتحقيق مبادئه وانتشار روحه هو أن يتجاوز نفسه ويتحول من مجرد حالة حزبية منظمة، إلى حالة شعبية عامة، لان البعث يعتبر نفسه وسيلة للأمة، وان هناك شيئا أعلى منه. وقد كان هذا عاملا مهما في تطوره وتجدده، لأنه كان دوما في حالة محاسبة ذاتية لكي لا يقع أسير النظرة النخبوية والفئوية والانغلاق على نفسه، ولكي يحطم كل الحواجز والمصالح التي تقف في وجه علاقته الحميمة بالشعب.

إن تجربة الحزب في العراق قد تميزت منذ بدايتها بعنصر جديد كان مفاجأة سارة وبشارة واعدة للبعثيين ولشعب العراق، هو عنصر الصفات القيادية الفذة، والتفوق الواضح، الذي اتسم به الرفيق صدام حسين والتي كان للحزب ولنضاله ولتجربته الغنية الملهمة دوره الأساسي في توفير الشروط الموضوعية الضرورية لتنميتها وتطويرها وتفجير طاقاتها المبدعة. كما استطاع الرفيق صدام أن يخلق الشروط المطورة للحزب، لرفعه إلى مستوى نوعي جديد من الوعي والتربية والانجاز العملي، وتمثل دوره التاريخي في استنفار كل طاقات الشعب وإطلاقها، وفي إيقاظ استعداداته العميقة للتقدم والتفوق، وفي تجسيد القدوة للشعب بقيادته الشجاعة وفي التجاوب الشعبي الشامل الذي جاء حصيلة التفاعل الخلاق والمشاركة في البطولة. إنها حالة جديدة من أبرز ملامحها أن يكون على رأس الدولة مناضل محتفظ بصفاء الروح النضالية، مثلما هو متميز بالوضوح الفكري وبالعمق.

إن الحالة البعثية المتفوقة، الحالة الشعبية النهضوية التي برهنت، من خلال ملاحم القتال والانتصار على العدوان، عن نجاحها في بناء الإنسان الجديد والمجتمع البطولي الحضاري، هذه الحالة التي كنا ندعو جماهير أمنتا وطلائعها المناضلة ومثقفيها إلى التعرف عليها والتفاعل معها، وصلت الآن إلى ضمير الجماهير والطلائع العربية، التي اكتملت قناعتها بان هذه الحالة ليست فقط حالة متقدمة من حيث الاقتدار على دفع الأخطار الراهنة، وصد العدوان على الأمة والأرض العربية.

فالعراق لا ينوب عن الأمة العربية في مواجهة العدوان الإيراني فحسب، بل انه وهو يخوض أقسى وأخطر المعارك البطولية، يجسد وحدة النضال العربي، في دعمه لانتفاضة الشعب الفلسطيني، ولشعب السودان وجيشه في تصديهما للمخاطر التي تتعرض لها وحدة هذا القطر الوطنية وسيادته وخياره الديمقراطي.

إنها ظاهرة مستقبلية سيكون لها دورها في بناء المستقبل العربي.

نداء قومي للعمل المستقبلي

يا أبناء امتنا الخالدة

من منطلق الإيمان العميق باستعداد الأمة للصمود والنهوض والتجدد الأصيل المبدع، ومن منطلق التقدير الواقعي لحجم الأخطار الخارجية والمؤامرات التي  تهدد الأمة ومصيرها، وإمكانات نهضتها، ومقومات وحدتها، بالخنق والإهدار والتبديد، وبالتالي من منطلق الشعور بالمسؤولية القومية بان مصير الأمة لا يجوز أن يترك في مهب الرياح وتحت رحمة الصدف والأقدار، بل أن كل الأسباب والظروف تستدعي إيجاد عمل جماعي شعبي، يشرك جماهير الأمة قاطبة في مشرق الوطن ومغربه، وتتوافر فيه أعلى مستويات الوعي والنضج والممارسة النضالية، لكي يرتقي بنضال الأمة في سبيل أهدافها القومية العليا إلى مستوى العمل التاريخي الموحد، المبني على العلم والتخطيط والروح الشعبية الديمقراطية الخلاقة.

انه العمل الذي يمثل ويجسد الضرورة التاريخية. العمل الشعبي الوحدوي الديمقراطي الذي يشكل التطلع إليه والإحساس به هاجسا كبيرا يحرك ضمير الأمة ويستنفر عقول وضمائر المفكرين والمناضلين من أبنائها.

فالعمل المستقبلي الذي يتطلبه النضال القومي في هذه المرحلة من حياة الأمة، والذي دعا إليه الحزب، هو نداء من أجل إنضاج إستراتيجية قومية تعتمد على الشعب، لمواجهة حالة الحصار والمؤامرات والعقبات الداخلية، وتستوعب خصوصيات الأجزاء والمناطق، من اجل أن تسير ضمن ظروفها وقابلياتها وخلفياتها التاريخية والجغرافية، واضعة أمامها ظروف ومنطق السير لكل من الأجزاء والمناطق الأخرى، ولكي تفتح أوسع مجال واكبر عدد من اقنية الاتصال والتفاعل من اجل أن تصب هذه الجهود فيها بأكبر قدر من الاقتناع، بل الاندفاع والحماسة في مناخ شعبي ديمقراطي تقدمي، يستثمر التنوع لمصلحة الوحدة.

انه نداء إلى الخائفين على مصير الأمة، دون أن يعطل الخوف وضوح رؤيتهم، بل يشحذ همم ويضاعف إيمانهم بضرورة اخذ المبادرة التاريخية، اليوم قبل الغد.

فالمهم أن يبدأ هذا العمل المستقبلي الطويل الذي هو أمل، بمقومات جدية قابلة للنماء والتطور، وقادرة على معالجة الظواهر المعطلة والمشوهة والمزيفة للنضال القومي، وان يعبر عن نضج وعي الأمة ووضوح وتصلب إرادتها.

إن كون البعث قد بادر إلى طرح هذا النداء القومي، لا ينفي أن فكرته نابعة من ضمير المناضلين في كل ساحة عربية. ومن الطبيعي والمنطقي أن يكون حزب البعث مبادرا لأنه يعبر بذلك عن نضجه القومي الخاص وعن همومه النضالية ولكنه إذ يبادر، يدرك بوضوح، ويعلن لكل من يتوجه إليه هذا النداء القومي، أن العمل المستقبلي هو بطبيعته وبمبررات وجوده عمل مختلف عن عمل الأحزاب وعن طبيعة العمل الحزبي.

هذا هو الشرط الأساسي لنشوء هذا المشروع ولنجاحه دون أن يتعارض ذلك مع وجود الأحزاب ونشاطاتها الوطنية، فهو انتقال إلى صعيد ومستوى في العمل القومي لا تستطيع الأحزاب بلوغهما إلا عندما تقرر تجاوز نفسها، بعد أن تعي ما ينبغي أن تكون عليه الحال، وتقتنع بالضرورة التاريخية لملء الفراغ الاستراتيجي الوحدوي المتحرر من كل قيد، والمتطلع أساسا إلى المستقبل باتجاه تحقيق هدفين أساسيين هما: التغلب على حالة التجزئة بكل ما تقيمه من حواجز وعقبات وإرجاع الجماهير العربية إلى ساحة النضال.

إن النداء القومي يلتقي أيضا مع سمة كانت دوما معبرة عن طبيعة البعث، ألا وهي الانفتاح، والاستعداد للحوار، والتطلع إلى التطور المستمر، والثقة العميقة والنزاهة في حمل رسالة الأمة والتطوع لخدمتها، وخدمة نهضتها، مع شعور بالتواضع أمام عظم المسؤولية القومية.

فمنهج البعث في التعامل مع الواقع ومع مشكلاته الراهنة، كان يؤشر دوما الآفاق المستقبلية التي تضغط على الحاضر، وتدعو جميع العناصر والقوى القومية للالتقاء حول عمل ينقذ الأمة من المسايرة للواقع الراهن، والسكوت عن الأمراض والمصالح غير المشروعة التي تتناقض مع مصلحة الجماهير الواسعة، ومع مستلزمات الدفاع عن سيادة الأمة وحقوق الشعب أمام القوى الاستعمارية وكل الأعداء الطامعين، عمل يشق طريق المستقبل، طريق الحوار الديمقراطي، وملء الفراغ في العمل القومي والارتفاع إلى مستوى جديد تتحقق فيه وحدة النضال التي هي الطريق الصحيح إلى الوحدة والى سيطرة الأمة على مقدراتها وإطلاق كامل طاقاتها.

تحية حب وإعجاب لشعب العراق العظيم الذي فتح بصموده الجبار، وبطولة أبنائه الفذة، وحكمة قيادته وشجاعتها، أبواب المستقبل العربي النهضوي.

تحية إكبار وإجلال لشعب فلسطين والى جيله الجديد الذي أحيا بانتفاضته البطولية ذاكرة الانتماء إلى تاريخ أمته، فألهم الإيمان والرجولة حتى لأكثر الناس تشاؤما من أبناء الأمة.

تحية حب وإجلال لأرواح شهداء العراق وفلسطين الذين يصنعون المستقبل العربي بدمائهم الطاهرة.

المجد والخلود لكل شهداء الأمة العربية.

٧ نيسان ١٩٨٨

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث