ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


من أجل عمل عربي مستقبلي

 

أيها الرفاق المناضلون(1)

يا جماهير أمتنا العربية المجيدة

يا أبناء شعبنا العراقي العظيم

مرة أخرى يفاجئ العراق العالم، كما يفاجئ الأمة العربية بقدراته اللا محدودة التي تنفجر من أعماق المواقف الصعبة، والحالات بالغة الخطورة، التي لا يقوى على مواجهتها الا الأبطال الأفذاذ، النادرون في التاريخ.. والا الشعوب التي هيأها تاريخها، كما أنضجنها ظروف حاضرها الصعبة، لأن تفتح عهدا جديدا من النهوض الشامل لكل جوانب الحياة، يشع على وسطه القومي، ومحيطه الانساني أصالة، وابداعا، وحوافز للتجدد والانطلاق، ونماذج للبطولة والفداء، ولكل ما يزيد الحياة تألقا وسموا، والانسان تساميا وعطاء.

فالمعركة الأخيرة التي خاضها العراق خلال الشهرين الماضيين دفاعا عن أرضه وعن أمته كلها، كانت خلاصة لمجموع معارك الحرب فى سنواتها الستة، وخلاصة للحالة الجديدة التي يعيشها العراق منذ بداية تجربته الثورية، وتأكيدا جديدا وحاسما على امتلاكه لسر النصر بشكل نهائي لا رجعة فيه، بل ان الزمن والاحداث مهما صعبت وتعقدت، لا تزيده الا رسوخا وحيوية متجددة، وارتقاء فى الاقتدار والنضج.

كما برزت في هذه المعركة صورة عراق العرب.. عراق الأمة بشكل أوضح من السابق في النتاجات الأدبية التي واكبت هذه المعركة، والتي عبرت عن دور العراق القومي، وعن الخوف على الأمة بأسرها اذا ما مُسّ العراق.

إن ما تحقق على أرض العراق خلال المعركة الاخيرة وهو فصل من فصول هذه الحرب البطولية، يعبر عن حالة لا تحدث أكثر من مرة في القرن الواحد: بطولة خارقة، وفداء سخي، وتفجر في العطاء والابداع في كل مجال من مجالات الحياة، وشعب ناهض ومتوهج وموحد، تسري فيه روح مؤمنة بالمبادئ والقيم الخالدة، ومؤمنة في الوقت نفسه، بالحياة وبالحضارة، والتقدم، والتفوق. شعب يقاتل، ويستبسل، ويضحي أغلى التضحيات، دفاعا عما يؤمن به ويحبه. هو جزء من امة، ولكنه جسد الأمة بمجموعها و استلهم تاريخها، وجدد رسالتها، واستطاع في الزمن الصعب، وفي ظروف الفرقة والغفلة والتنكر، أن يشق طريق المستقبل لامته، واثقا بان ضمير الأمة لن يلبث أن يستيقظ ويتجاوب مع نداء الحياة وإرادة النهوض.

فكان من واجب العرب بمختلف فئاتهم أن يهتموا بهذه الحالة الفريدة، حتى ولو تحققت في أقاصي الأرض وفي بلد لا يمت بأية صلة للعرب والمسلمين، فيطلعوا عليها ويكتسبوا منها خبرة وتجربة نادرة، فكيف بهم، وهي تتحقق أمام أعينهم، وفوق جزء من وطنهم، وعلى أيدي أشقاء لهم؟

إن استفاقة العرب، والتقدير الصحيح الذي يجب أن يولوه للحرب، والوعي الواضح والعميق والشامل لمعاني وأبعاد هذه الحرب، واجبة من اجل تحقيق هدفين: - الأول: وعي الأخطار الجسيمة التي كانت تهدد الأمة العربية من خلال العدوان الايراني على العراق، التي دفعها العراق عن الأمة، وان كانت ما تزال ماثلة،وتستوجب كل اليقظة، وكل الاعداد، حتى تزول وتنتفي بشكل نهائي.

والثاني: هو التعرف على الحياة الجديدة التي مكنت العراق من أن يصمد أمام تلك الاخطار الهائلة، وأن يحقق انتصارات تاريخية، وهذا هو الهدف الايجابي: الاطلاع على الحياة الجديدة، والحالة الجديدة، والتفاعل معها والتعمق فيها، واستخلاص المبادئ والقواعد التي يمكن أن تعمم، وأن تحتذى كنموذج مستقبلي في الاعداد الصحيح لحرب تحرير فلسطين.

إن الحرب التي تدفع عن العراق، وعن الأمة العربية، أخطار النموذج الظلامي، المتخلف المدمر، الذي كان يراد تصديره الى العراق والاقطار العربية، والحرب التي تحدث ما أحدثته في العراق من ابداع وتألق، وسمو في الروح والعطاء والفداء والبطولة، لا تلهي عن معركة فلسطين، كما توهم البعض في بداية الحرب، ويصر البعض الآخر على ذلك حتى الآن، لأغراض مشبوهة، بل يهيئ لها التهيئة الصحيحة، بإعداد جيش بحجم الجيش العراقي، وبهذا المستوى الرفيع من الكفاءة والاقتدار، وبإعداد شعب كشعب العراق في نهضته ووحدته وصموده، وتحمله للتضحيات عن طوع ووعي واندفاع وايمان بأنه يبني تاريخا جديدا للعراق وللأمة العربية.

ومع ذلك، فالعراق لا يريد الحرب، ولم يرد لها أن تنشب، ولا يريد لها أن تستمر، فقد كان يسير على طريق النهضة، ويعد نفسه لمعركة المصير في فلسطين، أما وقد فُرضت عليه، فانه استطاع، رغم قسوتها، أن يحولها الى عامل لتعميق حالة النهوض، وامتلاك العديد من المزايا النفسية الثمينة: كالصمود، والصبر، والابتكار، بالاضافة الى اكتساب الجيش العراقي خبرة عسكرية نادرة، تعزز قدرة الأمة العربية في مواجهتها الحتمية مع العدو الصهيوني.

 

يا أبناء أمتنا العربية الخالدة

يا جنود العراق البواسل

إن العراق بتصديه لتلك الموجة الهمجية اللا معقولة، قد أنقذ نفسه، وأنقذ الأمة العربية ونهضتها كما أسهم في توعية شعوب ايران وفتح طريق الانقاذ أمامها من هذه المحنة التي نزلت بها، وعندما نقول ان العراق أنقذ نفسه وأنقذ شخصية الأمة العربية ومستقبل نهضتها، فاننا نعني الشخصية العربية الاسلامية التي تستلهم ثورة الاسلام وروحه ورسالته الحضارية. ومن أجدر من العراق، الذي يستلهم مبادئ البعث القومية، من وعي واستشراف المخاطر التي تشكلها حركة الخميني وعقليته، واطماعه، على الاسلام، والعروبة، وعلى الصيغة الجديدة للعروبة وللنهضة القومية التي يؤمن بها البعث، والتي يشكل الاسلام، بمفهومه الثوري، روحها ومحورها؟

إن ما حققه العراق من انتصارات في هذه الحرب، وكذلك التحولات التي أحدثتها الحرب فيه وعمّقتها، هي نتيجة الاعداد الثوري على هدي القومية الحديثة الثورية، وعدم التردد في الدفاع عن الارض، والسيادة، والكرامة، والمبادئ التي لا تقف عند حدود العراق، وانما تشمل الأمة، ولا تقتصر على الحاضر، وانما تشمل المستقبل الذي هدده عدوان الخميني. والشيء الذي تحقق في العراق وبخاصة خلال سنوات الحرب هو صورة نموذجية للحياة العربية الناهضة.. أي صورة للمستقبل ولكنها على عظمتها وتألقها، لا يمكن أن نعتبرها كاملة ونهائية، لأن الشيء الطبيعي هو أن تتفاعل هذه الصورة مع نضال بقية الاقطار العربية وتجاربها، فالاقطار العربية بأمسّ الحاجة الى هذه الروح التي تسري في الشعب العراقي، وجيشه البطل. كما أن العراق يشعر بمزيد من القوة، والثقة، والحصانة، والاطمئنان الى المستقبل عندما تلتقي هذه الروح المتجلية في وعيه وصموده، مع الاستعدادات العميقة الكامنة في جماهير الاقطار العربية الاخرى، وفي تطلعها البعيد الى اطلاق طاقاتها، وتحرير ارادتها، والتعطش الى النضال، ودخول المعارك المصيرية من أجل التخلص من رواسب التخلف والجمود، وخلق الجو النقي الحار.. جو المعارك الذي تنتفي معه الامراض والخيانات، وتنصهر كل فئات المجتمع لتكون شعبا موحد الارادة، واثقا من نفسه، مؤمنا بأمته وحتمية انتصارها وتحقيق نهضتها.. فالعراق لا يطمئن ويتوازن ويستقر، رغم هذا الاقتدار القريب من الاعجاز الذي برهن عليه، والانتصارات التي يحققها، إلا اذا أخذ موضعه من جسم الأمة، ومن مسيرتها كلها.. لأنها هي الغاية.

لذلك فاننا نعتبر الاستجابة العربية لحرب العراق، والتي برزت بصورة أوضح وأجلى اثناء المعركة الاخيرة، ظاهرة صحية، او نقلة نوعية، وذلك مهم للعراق ولحربه العادلة، وللاقطار التي تظهر فيها هذه الاستجابة، لأنها تشكل، في اعتقادنا، خطوة ليس فقط على طريق التضامن القومي، وإنما خطوة على طريق التحرر الداخلي في تلك الاقطار، عندما يبادر ابناؤها الى الانتصار لمعركة قومية هي معركة العراق العربي، الذي كان في كل الظروف طليعيا في الشعور بمسؤوليته القومية، وخاصة بعد أن اخذ نضال حزب البعث فيه مداه، ونضج هذا النضج، فأصبح العراق مرادفا للامة العربية في تفكيره وممارساته وشعوره، كما برهنت ست سنوات من الحرب.

ان دور العراق في هذه الحرب اكبر من النيابة عن الأمة العربية، انه تجسيد لها فقد كان على العراق أن يستخرج من نفسه، ومن ذاته، ما يوازي قوة الأمة جمعاء، لأن الاعداء يحاربون الأمة وليس العراق فقط، فالخميني جاء ليحارب العروبة، واستسهل أن يبدأ بالعراق لاعتبارات كثيرة معروفة، ولكن هدفه هو شخصية الأمة العربية، هو تيئيس العرب من قوميتهم وتقديم بديل عنها مغلف بغلاف الدين، هو ليس في الحقيقة والفعل سوى الوصاية والهيمنة الفارسية.

وقد برهنت قيادة العراق التاريخية، بقرارها الجريء في التصدي لعدوان الخميني، على صحة هذه الحقائق الثلاث: -

أولا: عدم التردد في دخول المعركة، بعد ان توافرت القناعة بعدالة القضية، وأن دخول المعركة هو للدفاع عن قيم اساسية غالية تساوي الحياة.

ثانيا: الادراك العقلاني الواضح بأن معركة الطرف الآخر لا يمكن أن تنجح لانها غير عادلة، اذ هي عدوان وحب للسيطرة والتوسع، وأنها تسعى الى أهداف متخلفة، ترفضها طبيعة الحياة، كما ترفضها روح العص.

ثالثا: أهمية الاعداد المتقن لبناء المجتمع الناهض، لكي يتمكن من الدفاع عن أرضه وكرامته وقيمه ومنجزاته.

ست سنوات من الحرب برهنت على بعض الحقائق المهمة. أولها أن الظاهرة الخمينية التي آلت الى ما آلت اليه من الفشل، ومجافاة العلم والعصر، وما نزل بشعوب ايران من ويلات بسبب هذه العقلية المتخلفة.. ما كان يمكن أن تكون صادقة في ما ادعته، ولا قادرة على تحقيق الوعود والاحلام والاماني التي مُنّت بها الشعوب الايرانية والاسلامية، بسبب تخلفها، وانغلاقها، وانسياقها مع نزعات التعصب، والحقد العنصري، وأطماع التوسع وان تقييم القيادة العراقية لهذه الظاهرة منذ البداية كان تقييما صائبا ينم عن نظرة ثاقبة.

وثاني هذه الحقائق: أن الانتصارات العراقية، وما برهن عليه الصمود العراقي من ايمان عميق، ومن وعي متقدم، ومن وطنية عريقة، وانتماء قومي أصيل، قد جاء نتيجة لتلك الحالة النادرة التي وحّدت الشعب والجيش والقيادة، والتي ما كان يمكن أن تتحقق لو لم تكن المقدمات سليمة وصحيحة منذ بدء التجربة الثورية في العراق، وما تميزت به من نضج وعقلانية وشجاعة، وحافز نهضوي عميق ومتأجج، ومن استلهام لتاريخ الأمة وقيمها، وايمان بالشعب وبقدراته اللا محدودة، وباستعداده الحضاري للنهوض وللعمل التاريخي..

انه ليس امرا عاديا وثانويا بالنسبة للمستقبل العربي أن تتحقق هذه الشروط الصعبة النادرة لشعب العراق ولقواته المسلحة، وأن لا يرى فيها العرب ما يستوجب الدرس والتحليل، وما يستدعي الاهتمام والرعاية والحماية كقوة عربية مستقبلية، كما أنه ليس أمرا عاديا وثانويا، أن تفشل ظاهرة بحجم الظاهرة الخمينية على ايدي أبناء العراق، وكان يراد لها أن تنجح في اكتساح البلاد العربية لتزرعها بالفتن والحروب الطائفية وتشيع فيها التقسيم، وأن لا تدخل هذه النتيجة التي آلت اليها الظاهرة الخمينية في حساب جميع الفئات العربية الواعية والمثقفة والمناضلة التي تعمل لبناء المستقبل العربي.

إن المعركة التي يخوضها العراق منذ ست سنوات ليست فقط دفاعا عن أرض الأمة، وسيادتها، وقوميتها، ومستقبلها، وقيم تراثها، ونهضتها، بل هي أيضا تعبير قوي ورائع عن أهم مميزات هذه النهضة، نهضة الأمة.. إذ أن الأمة العربية التي حملت في الماضي أعظم رسالة انسانية الى العالم، تعرف اليوم بوحي من اصالتها، ان استرجاعها لقيم الرسالة الخالدة لا يكون بالرجوع الى الوراء، بل بالتقدم الى الامام، ولا يكون في التهييج الرخيص لغرائز الخوف والكراهية والتعصب الأعمى، وفي تعطيل العقول وتعميم الجهل والظلام، بل في الصعود الشاق البطولي والالتقاء من جديد بالحالة الصحية الدافعة للإبداع والزاخرة به، والتي بلغها الأجداد في ذلك الماضي المجيد.

إذن، فمعركة العراق بالاضافة الى كل الأشياء الثمينة التي تدافع عنها نيابة عن الأمة العربية، هي معركة نظرة الى الحياة أنضجها البعث، متصلة بطبيعة العقل العربي، والعبقرية العربية، وبمميزات الإسلام الذي يمت الى هذه الطبيعة، وهذه العبقرية بصلة وثيقة. فالمقاتلون العراقيون الأبطال الذي يحرزون الانتصارات الباهرة بشجاعتهم وتضحياتهم، إنما ينقذون أيضا، من ضمن ما ينقذون، هذه النظرة الى الحياة التي تفتح أمام العرب طريق الرقي والتقدم والحضارة الصحية المتوازنة..

 

أيها الرفاق البعثيون

يا جماهير أمتنا العربية

وكما تتعزز روح النصر في كل عام، بانتصار جديد باهر، ويتعمق الايمان عند الجيش والشعب، وتترسخ الثقة، وتتسع الرؤية، وتتكشف المعاني وتتوالد.. كذلك في كل عام، وبفضل هذه الانتصارات، تتعزز ثقة الحزب بنفسه، ويتعمق ايمانه بدوره وتزداد رؤيته، الى الماضي والحاضر والمستقبل، عمقا وصفاء وشمولا.

ولهذا العام امتيازه على كل ما سبقه من أعوام الحرب، لأن المعركة الاخيرة كانت متميزة عن كل ما سبقها من معارك، ولأن الانتصار فيها له معان، وله نتائج على مستقبل العراق والأمة العربية. وقد تقرب نتائجها نهاية الحرب، خاصة اذا اينعت البذور التي ظهرت الآن، في التجاوب العربي الذي يختلف عن كل ما سبقه، ولكن الشيء الأهم الذي ننتظره ونؤمله، هو أن تكون هذه المعركة بداية يقظة قومية عميقة شاملة، وبداية عمل شعبي يستلهم روح المعركة، ويشمل الاقطار العربية كلها.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا أبناء شعبنا في العراق العظيم

إن حزبكم الذي يستقبل الذكرى التاسعة والثلاثين لانعقاد مؤتمره الاول، له مع العراق تاريخ طويل وعلاقة متميزة، منذ حركة نصرة العراق عام 1941 حتى الآن. ولقد كان لتأسيس حزب البعث في العراق، في بداية الخمسينات، أهمية خاصة في مسيرة الحزب اذ تميّز انتماء البعثيين العراقيين دوما بالجدية، وبحرارة الايمان وشجاعة التحدي، ولكن الحزب في العراق، بعد ثورة 17 تموز، انتقل نقلة نوعية، وعبّر منذ السنوات الاولى للثورة عن مستوى جديد من الجدارة والكفاءة والنضج، بشكل يسمح بالتوقع ان تكون تجربة العراق الثورية، هي التجربة البعثية المثلى، التي توافرت لها شروط وصفات ومواهب، لكي تعطي لحزب البعث ولفكرته القومية الحديثة أبعادها القصوى في التعبير عن روح الأمة، وطاقات الشعب، الشيء الذي يجعل منها التجربة القومية النموذجية.

هذه التجربة في تألقها، وفي الابداع المتواصل والمتزايد، وفي هذا التعمق والتسامي من خلال احتدام المعارك، وعظمة الفداء والتضحيات والبطولات تلامس صورة المستقبل العربي، الذي هو حلم البعث. وحلم البعث هو بناء الإنسان العربي الجديد، وإعادة بناء الأمة العربية، لأن النهضات الكبيرة، وبخاصة المستلهمة من القيم الروحية الخالدة، ومن أصالة التاريخ، هي نهضات خلاقة تبني النفوس والعقول بناء جديدا، بحيث تعيد لها الصفاء والعمق والسمو، وتكشف لها عن الجوهر الذي يوحد الجميع، بينما تتهافت وتتساقط عوامل التفرقة، وضيق النظرة، والأحقاد، وكل الحواجز التي تراكمت في أجواء الانحطاط، فيكتشف العربي قدره الأصيل، وفي الوقت نفسه يكتشف أخاه.

لقد كان العراق دوما في ضمير الحزب، وفي ضمير مشروعه القومي الحضاري، لأنه يمثل عنصر التحدي والعنفوان القومي، فالصلة بين تأسيس الحزب وبين البطولات والانتصارات التدريجية التي يحققها العراق اليوم، هي صلة حية وعضوية، بالرغم من تواضع بدايات الحزب وعظمة الانتصارات في هذه الحرب.

فالحزب في بداياته المتواضعة ما كان يمكن أن يخرج الى حيز الوجود، وأن يقطع مسيرة نضالية بهذه المسافة من السنين، لو لم يكن مستلهما ارادة الحياة في الأمة، وأصالة تاريخها ومصلحة جماهيرها، من أجل بناء المستقبل الناهض المبدع، مثلما هو العراق اليوم في حربه العادلة يستلهم إرادة الأمة وعظمة تراثها وآمالها المشروعة في بناء المستقبل الحضاري.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العربية المناضلة

إن حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي، خلافا لما هو معروف عن نشأة الاحزاب والحركات، هو من صنع الأمة، بمعنى أن الحزب بأشخاصه الذين أسسوه وبدأوه، لم يعملوا أكثر من وضع تصور لصيغة الحياة العربية، وفق مشروع ثوري للنهضة، تعمل الأمة على اغنائه وتعميقه، وهذه الصيغة التي تصورها البعث صيغة بسيطة، ولكنها متميزة بالاصرار على الاصالة والخيار الحاسم للتقدم.. أي أنها التصور الثوري للاصالة، وخيار التقدم بضمانة الاصالة. فقد ولد تصور الحزب من قناعات عميقة ومعاناة فكرية ونفسية حية لجملة حقائق: اولاها الانتماء الوطني الحار المولّد لموقف تحرري حاسم من الاستعمار.

والحقيقة الثانية، هي الانتماء القومي الحضاري المولّد لتبني الاسلام كثورة وحضارة. والحقيقة الثالثة هي الانتماء الى العصر وتبني التقدم بشكل حاسم كخيار أساسي، يكمل الاصالة، التي تبقى بدونه ضامرة وغائبة عن الفعل.

وقد تجاوب الشعب العربي، ممثلا بشبيبته وطلائعه في عدد من الاقطار العربية مع الافكار والصيغة التي طرحها الحزب، لأنه وجد فيها صورة لحاجاته وتطلعاته، فتفاعل معها، ورعى المشروع الثوري للنهضة، الذي هو الحزب، وحافظ عليه رغم المصاعب والمحاولات لهدمه، وهدم فكرته، واستمر المناضلون البعثيون في سورية ولبنان والاردن والعراق وغيرها من الاقطار يحملون هذا المشروع ويحرصون عليه، ويغذونه بالجهد والفكر ودم الشهداء، الى أن توافرت له، بعد ثورة 17تموز، الشروط الذاتية والموضوعية، للتحقق المليء، القوي، الذي صنع تاريخا بلغ مستوى الاعمال الخالدة.

لقد بقيت فكرة البعث زمنا طويلا لا تملك الوسائل التي تساعدها على الانتشار، ولكنها مع ذلك، وصلت أوساطا كثيرة من الشعب العربي بيسر وسهولة وبساطة، فحملتها هذه الاوساط الشعبية وغذتها وأمدتها بأسباب البقاء والاستمرار، الأمر الذي أثار الأعداء، فتألبوا عليها وحاولوا قتلها بالتآمر والافتراء من الخارج، والتزييف والتزوير من الداخل.. وباسم الحزب، كما يفعل حكام دمشق.

إن الشيء المميز لحركة البعث، هو أنها ظلت صامدة ومحتفظة بالصورة الاصيلة الاولى التي انطلقت منها، وظلت واثقة من تجاوبها مع ضمير الشعب، ولذلك استمرت، واستمر الحزب، الذي هو فكرة عن النهضة، تمثل فيها الوحدة العربية النواة والقلب. وها هي بعد أكثر من أربعين عاما على ظهورها وانتشارها، تبدو فتية، وكأنها حديثة النشوء، وأن المجال أمامها واسع وغير محدود لكي يزداد الشعب العربي معرفة بها، وتزداد هي وضوحا، ويتبدد كل التزييف الذي حاول الأعداء إلصاقه بها، وهي ستظل رغم كل المحاولات، مُصرة على ثقتها بنفسها، وعلى قناعتها وتصميمها الذي رافقها منذ لحظة نشوئها بأنها لكل الشعب العربي، في كل أجزاء وطنه الكبير، ولكل فئات الشعب المؤمنة بالانتساب الى العروبة، وبالعلاقة التي تربط العروبة بالاسلام.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا أبناء أمتنا المجيدة

بدافع الحب للأمة العربية أحببنا الاسلام، منذ السن اليافعة، وبعد أن اقتربنا أكثر من فهم الاسلام، أضحى حبنا لأمتنا يتلخص في حبنا للاسلام، وفي كون الأمة العربية هي أمة الاسلام..

إن ثقة عميقة تملا نفوسنا، بأننا أخلصنا كل الاخلاص، طوال عمرنا لأمتنا، لمصلحتها ولتاريخها، ولعقيدتها، ولمستقبلها، وأننا كنا دوما حيث العروبة الصحيحة والاسلام الصحيح.

وقناعتنا الراسخة التي رافقتنا طوال مسيرة الحزب هي أن هذا الحزب ما كان ليكتب له البقاء والاستمرار والصمود والتجاوب الصادق مع روح شعبنا العربي لو لم يقم على هذه الأسس، وعلى الصدق التام مع ما أعلنه من قناعات. إن هذه العلاقة الحميمة بالاسلام هي من النوع التاريخي، الموسوم بالتجرد الخالص.

وكان شيئا طبيعيا أن يأخذ هذا الوعي، وهذه العاطفة كل أبعادهما، فندرك ما تمثله الشعوب الاسلامية من عمق وسند للأمة العربية، ونشعر نحوها بعاطفة القربى، ولكن مع الاحتفاظ بالوضوح التام في الفكر، وببعض الحقائق الاساسية، وهي أن للامة العربية شخصيتها القومية الحضارية المتميزة، وحدود أرضها الواضحة، وأن اشتراكها في العقيدة الدينية مع غيرها من الشعوب لا يجوز أن يجّر الى طمس هذه الشخصية، والعدوان على هذه الارض. وتجارب التاريخ دلت على أن غياب معالم الشخصية العربية القومية، وفقدان العرب لسيادتهم، لم يكونا في صالح الأمة العربية، ولا في صالح الاسلام، وأن ثمة حقيقة كبرى لا يتجاهلها الا المكابرون وذوو الاغراض، وهي: أن علاقة الأمة العربية بالاسلام علاقة خاصة حيوية ومصيرية لها وللاسلام. فلا يمكن أن يفهم الاسلام شعب مثلما يفهمه الشعب العربي، ولا يمكن أن يشعر أحد بمثل الرابطة والمسؤولية اللتين يشعر بهما العرب نحوه.

ان فلسطين قضية العرب جميعا، ولكنا بالنسبة الى الفلسطينيين، أكثر من ذلك، إنها وطن، والاسلام بهذا المعنى هو وطن الأمة العربية الروحي والمادي، بكل ما تحمله كلمة وطن من معاني حب الأرض والأهل، وحب اللغة والتاريخ.

والعصر عصر القوميات والدول القومية، ولئن كان مفهومنا للقومية، ينكر التعصب العنصري، ويلح على الجانب الإنساني الذي أكسبه الاسلام للعروبة، ويحرص على خصوصية العلاقة بين العرب والشعوب الاسلامية الاخرى، فان هذا المفهوم يحول دون ذوبان الأمة العربية في شخصية غيرها. وتنازلها عن سيادتها واستقلالها لأحد، تحت أية ذريعة كانت، وباسم أي شعار أو مبدأ.

ولئن كان عجبي شديدا للمسلم الذي لا يحب العرب فعجبي أشد للعربي الذي لا يحب الإسلام.. ولقد كانت رؤيتنا القومية الحضارية لمستقبل الأمة -وذلك منذ بداية الحزب- أن يساعد الكشف عن خصوصية العلاقة بين العروبة والاسلام، على ان تكتشف الطوائف العربية غير المسلمة أن الاسلام هو ثقافتها، وحضارتها وأثمن شيء في عروبتها، تباهي به حضارات الأمم الأخرى.

ومن قبل بداية الحزب بسنين عديدة، كان ادراكنا لخطر الاستعمار الثقافي الغربي على هذه الطوائف، وأن إنقاذ هذه الطوائف من الغربة الحضارية، لا يكون بغير تعميق الثقافة العربية الاسلامية وتعميمها كثقافة للأمة كلها.

ان الغرب الإستعماري، الذي يخوض صراعا تاريخيا منذ قرون عديدة ضد الاسلام والأمة العربية، بدافع التعصب الديني والعنصري، وحب الاستغلال والهيمنة، أصبح اليوم أشد عداء للعرب والاسلام، منذ أن وجد في الصهيونية ضالته المنشودة ليعطل وحدة العرب ونهضتهم، حتى تستمر سيطرته على البلاد العربية واستغلاله لثرواتها ومواقعها. هذه الشراكة السياسية الاستعمارية التوسعية بين الغرب والصهيونية، هي أخطر بكثير من مجرد تحالف سياسي، اذ انها تستند الى شراكة حضارية ثقافية عميقة عمرها مئات السنين.

وفي العالم اليوم قوى معادية للاستعمار وللعنصرية، ليس بينها وبين العرب والاسلام أحقاد تاريخية، وليس بينها وبين الصهيونية ودّ ولا اشتراك في المصلحة. وثمة مجال واسع للتعاون بينها وبين الأمة العربية، لدفع خطر مشترك.

 

أيها الرفاق المناضلون

حركة البعث وجدت في فترة تاريخية فاصلة بين مرحلة استنفدت أغراضها، ومرحلة مضطربة قلقة ورؤيتها للمستقبل غير واضحة.. المرحلة التي استنفدت أغراضها كانت مرحلة القومية العربية المجردة التي اقتضاها الصراع التحرري ضد الهيمنة العثمانية، فلم تكن تستطيع رفع شعار الاسلام الذي كان هو شعار الدولة المهيمنة. واستمرت الحال حتى بعد ان زالت الظروف التي استوجبت ذلك، واستجدت ظروف هيمنة الاستعمار الغربي على الاقطار العربية. هذه الظروف هي التي أعادت الأمور الى نصابها. حين أعادت الاسلام الى العروبة.. الى القومية العربية، لضرورة المواجهة الحضارية مع الاستعمار الغربي، ولكن ذلك لم يتم بالنسبة الى حركة البعث نتيجة دراسة وتحليل مجردين للظروف القديمة والمستجدة بقدر ما جاء نتيجة معاناة طويلة ولدت من الواقع الحي، ومن التجربة النزيهة وموجبات ظروف النضال التحرري والاجتماعي، الوطني والقومي. وقد تلخصت في نظرة الى التقدم ونظرة الى الاسلام، ولدت منهما نظرة جديدة للاسلام كثورة عربية انسانية حضارية قابلة للتجدد والانبعاث في كل مرحلة تاريخية مصيرية من حياة الأمة العربية.

وهكذا بدأ طريق المستقبل العربي يزداد وضوحا، فهو لا يبنى الا من خلال الثورة باتجاه التقدم، ولكن باستلهام الاصالة التي تجسدها ثورة الاسلام بواقعها العربي وجوهرها الانساني وابعادها الحضارية.

لقد كان قدر البعث ان يجد في العراق التربة القومية الخصبة والروح الشعبية الأصيلة، والمناخ الإبداعي الحضاري، والاستعداد البطولي العالي لنهضة تاريخية، يكون الإسلام بمفهومه الثوري مصدر إلهامها.

 

أيها المناضلون المؤمنون بقومية الأمة ورسالتها

يا أبناء أمتنا الخالدة

في الوقت الذي كشفت الحرب التي يخوضها العراق، عن القوة الجديدة فيه، والتي هي بداية القوة التي تتمخض عنها الجماهير العربية في كل أقطارها، كشفت أيضا عن التناقضات في الوضع العربي، وكذلك عن حالة التردي، والعجز، والخيانة التي تكاد تزرع اليأس القاتل في نفوس العرب، وتحيّرهم حد الذهول في إيجاد تفسير لها.

واذا كانت بعض هذه التناقضات وليدة الامراض الموجودة في المجتمع، فان معظمها يعكس مظاهر عمل اعداء الأمة العربية، من امبرياليين وصهاينة، طويلا وبدقة واحكام ودهاء ليوصلوا العرب اليها، بعد أن فوجئوا بتجلي القوة العربية الثورية في خمسينات هذا القرن.

وقد تمكن الاعداء من تحقيق اغراضهم الخبيثة بسبب غياب الاستراتيجية الوحدوية المتكافئة مع هذه القوة العربية، والقادرة على ضمان استمرارها ونموها. وكذلك بسبب الخلافات التي استفحلت بين الفصائل والحركات القومية فجعلتها تحارب بعضها بعضا، بدلا من ان تتوحد في مواجهة الاعداء، والفئات المستغلة المتعاونة معهم، والاشخاص الذين يرتضون القيام بأدوار الغدر والتخريب والخيانة نيابة عنهم.

ولعل اكثر ما نجح الاعداء في تحقيقه لمصلحة سيطرتهم واستغلالهم.. هو إقامة او حماية أنظمة حكم تقمع الشعب وتخنق تطلعات الجماهير وتجمد اندفاعاتها المشروعة للتعبير عن حقيقة مشاعرها واهدافها.

ان اخطر واغرب التناقضات والمفارقات في الواقع العربي الراهن، هو وقوف انظمة عربية الى جانب عدوان أجنبي ضد قطر عربي، كما يفعل النظامان السوري والليبي اللذان يؤيدان ايران علنا في عدوانها ضد العراق واحتلال أراضيه، ويقدمان لها كل انواع الدعم العسكري وغيره.

وبمقدار ما تلحقه هذه المفارقة الخيانية من أذى بوحدة الصف العربي وبآفاق العمل القومي المشترك، فانها تسيء الى القيم العربية، وتعبر عن شذوذ متعمد في السلوك السياسي، ليس هدفه تقويض دعائم التضامن العربي فقط، بل تقطيع الأواصر القومية، واطلاق الشعوبية من عقالها لتمعن تخريبا في الوطن العربي وفي النفس العربية، تحت ستار من التزييف والتزوير..

فليس من أحد يستطيع أن يصدق أن شعب سوريا.. القطر الرائد في حركة القومية العربية، يمكن ان يكون مقتنعا بموقف حافظ اسد من العراق في حربه الدفاعية ضد العدوان الايراني، وغير مبال بما يتعرض له العراق من خطر هذا العدوان، وبالتضحيات الغالية التي يقدمها العراقيون منذ ست سنوات، لدفع هذا الخطر عن أرضهم وعن الأمة العربية كلها..

بل ان ما يعرفه العرب، وحتى كثير من الاجانب، من تاريخ شعب سورية يؤكد ان هذا الشعب لو كان حرا في التعبير عن ارادته، لاندفع في تأييده للعراق الى حد المشاركة الجماعية في القتال.

فماذا يعني سكوت شعب سوريا في ظروف قومية مصيرية كهذه الظروف التي يمر بها العراق، الا ان يكون النظام الحاكم قد أمعن في تزوير الحقائق والتضليل، وحوّل سورية الى سجن كبير، وأوصل القمع والتنكيل للحد الذي يجعل شعبا عريقا في القومية والنضال كالشعب السوري، اسير هذه الحالة الشاذة من العجز.

هذا الوضع يكاد يلخص التناقضات والمفارقات العربية، لأنه أكثرها وضوحا وبروزا ومجافاة للمعقول، وهل يطلب الكيان الصهيوني أكثر من هذا الحد من التمزيق والتحطيم في الجسم العربي، وهل كان سيفعل أكثر من ذلك لو أنه كان يحتل دمشق ويحكمها بقوة الحراب؟

إن مصر التي تعيش ظروف وآثار معاهدة كامب ديفيد، خرج شعبها في تظاهرات غاضبة احتجاجا على قصف العدو الصهيوني للمفاعل النووي العراقي، واحتجاجا على ضربه مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ويتبارى كتابها ومثقفوها ومناضلوها في التعبير عن مساندتهم للعراق وتأييدهم له في دفاعه عن أرضه أمام الغزو الايراني، بينما لا يستطيع أحد في سورية التي يدعي حكامها الوطنية والقومية، ويتاجرون صباح مساء بمعارضتهم لكامب ديفيد، لا يستطيع احد ان يعبّر عن مشاعره المحبوسة لتأييد شعب العراق ومؤازرته.

فأية قيمة حقيقية لمعارضة النظام السوري لمعاهدة كامب ديفيد، وهو النظام الفاقد للمصداقية الوطنية والقومية عند شعب سورية اولا، والذي لم تعد ادعاءاته تخدع أحدا خارج سورية، وبخاصة بعد ان تتالت وتكررت مواقفه وسياساته الملتقية مع سياسة الكيان الصهيوني او التي يرتاح لنتائجها هذا الكيان في اقل الاحتمالات، من خذلان للمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية اثناء الغزو الصهيوني للبنان، الى ضرب منظمة فتح في البقاع وطرابلس، ثم ضرب المخيمات الفلسطينية في بيروت بواسطة منظمة "امل"، بالاضافة الى موقفه من العراق في هذه الحرب التي يساهم الكيان الصهيوني في اطالتها لاستنزاف قوة العراق الجديدة وتعطيلها. وهل يفيد النضال القومي حقا أن يسكت عن كل جرائم وخيانات النظام السوري مقابل معارضته الشكلية لمعاهدة كامب ديفيد؟

وهل تبرر هذه المعارضة الزائفة لبعض المناضلين العرب، ولبعض فصائل المقاومة الفلسطينية، أن يمنحوا هذا النظام تبرئة وشرعية ينكرها عليه شعب سورية نفسه، كما تنكرها المبادئ القومية..؟ وهل سيبقى النضال العربي أسير هذا المستوى المنخفض، وهذا التناقض الجارح الذي يفقده فاعليته ومصداقيته، بدل ان نقدم للجماهير العربية وعيا واضحا ومنسجما، هو الشرط الاول، لتعبئة هذه الجماهير ودفعها لان تحطم اسوار سجنها الكبير، وتعود من جديد الى مسرح التاريخ؟

ان الخطوة الاولى انعتاق النضال القومي من أسره، هي التي تنطلق من فهم هذا التناقض وهذه المفارقة، ومن استيعاب هذه السياسات القائمة على التزييف والتزوير في الوطن العربي، والتي لا تقتصر على النظامين السوري والليبي، بل تسهم فيها انظمة وقوى اخرى سمتها المشتركة: تهيّب التصريح بمقاصدها الحقيقية، والعمل بطرق ملتوية وخفية على توسيع هذا التزوير وتعميقه، وان بدت انها خارج دائرة الضوء. فهي تضغط سواء بالعمل او بالامتناع عن العمل.. ببذل الجهد او بالابتعاد والتنصل، باتجاه إطالة زمن التردي، والتشرذم، والتناحر، والاغراق في القطرية، متوهمة انها، بذلك تثبّت دعائم وجودها، وتحافظ على امتيازاتها.

إن سياسة التزييف والتزوير السائدة الآن، تكلف الأمة خسائر وتضحيات جمة، وتؤخر انطلاقها، مما يفرض على المفكرين والمناضلين العرب، بإلحاح شديد، أن يذللوا كل العقبات والصعوبات، وان يتلاقوا على موقف قومي موحد، ليرسموا طريق النضال العربي، الذي يستطيع ان يتغلب على هذه التناقضات فيخرج الأمة من حالة العجز والتردي، الى الحالة التي تسترد فيها سيطرتها على ظروفها وبقدراتها.

وفي اعتقدانا: ان المدخل للانتقال الى هذا الموقف القومي، وبالتالي الى ايجاد الحل القومي، الذي لا حل سواه، للقضاء على هذه التناقضات وتجاوز الوضع العربي المتردي الذي نشهده، هو إفشال مؤامرة إطالة الحرب، بالاستفادة من الحالة الصحية التي تحققت في العراق، من اجل حماية هذه الحالة، وإدامتها بتأييد عربي يتجاوز حدود العواطف والتعاطف، ويبلغ مستوى التخطيط العقلاني، والعمل بالمنطق الوحدوي ضمن الظروف الراهنة، وذلك بالتلاقي في النظرة والمفاهيم لحقيقة هذه الحرب، وما يمثله العدوان الايراني على العراق في دوافعه ومعانيه، وما يمثله تصدي العراق لهذا الخطر، والقيم الاساسية التي يدافع عنها، بخاصة بعد التطورات التي شهدتها الحرب، وافتضاح نوايا الخميني التوسعية، وتعاونه مع اعداء الأمة العربية ولاسيما الكيان الصهيوني.

وبمقدار ما نختصر الزمن لإتهاء هذه الحرب المفروضة على القطر العراقي.. هذا القطر الناهض، المعافى، الذي دفع عن الأمة شرا كبيرا ومؤامرة خطيرة استهدفت الإجهاز على قوميتها وشخصيتها وزرع الفتن الطائفية في مجتمعاتها، نكون قد اقتربنا من طريق النضال القومي السليم، مستفيدين من روح الانتصارات التي حققها العراق، والخبرة العميقة التي اكتسبها في الاعداد العلمي لمواجهة الاخطار، وفي تعزيز روح الصمود والتضحية، ومن الروح الجديدة المتأججة فيه.

ان الحالة الصحية في العراق يجب ان تأخذ دورها في إنقاذ الأمة من حالة التردي، لا ان تظل مشغولة في رد العدوان الايراني عليها، وهذا لا يتأتى الا بتحرك جماهيري واسع يعكس وقوف الأمة العربية، بقواها الوطنية والقومية كافة الى جانب العراق في حربه العادلة، والا بتحقيق التضامن العربي الحقيقي الفعال، الذي يفرضه نضال الجماهير العربية على الحكومات، بعد ان طال تلكؤها، وثبت تقصيرها.

 

أيها الرفاق البعثيون

أيها المناضلون العرب

ان اوضاع الأمة في جميع اقطارها، وفي كل نواحي حياتها السياسية والاجتماعية والفكرية تستدعي اعادة نظر شاملة وبداية جديدة، تكون، ضمن الظروف والاخطار الراهنة، بمثابة عملية انقاذ مصيرية، علما بان كل الظروف والحالة النفسية السائدة، مهيأة لمثل هذه المبادرة التاريخية، اذا تقدم لأخذها كل الذين يستوعبون ضرورتها الملحة، ويستطيعون ايصالها الى غايتها الايجابية، وهي تحقيق وحدة في القناعات الأساسية المتعلقة بمستقبل الأمة ونهوضها.

ان استفحال حالة التردي والتباعد والتناحر، هو نفسه الذي يهيئ العقول والنفوس الى مستوى من التفكير والشعور والإرادة يتجاوز هذه الحالة، بإلقاء ضوء جديد على مفاهيم أساسية وحيوية مثل مفهوم الأمة، والقومية، والتراث، والحضارة، والتقدم ومواقع الأقطار، ودورها القومي، ودور الشعب في النهضة، وحقه في المشاركة.

ان الأمة اليوم هي روح وقيم وتاريخ واستعداد وتطلع، اكثر منها كيانا متحققا، هي مشروع للبناء فيه كل المقومات الاساسية، وفيه خميرة الدروس القاسية والنكسات المرة، وقابلية التجاوز والولادة الجديدة، شريطة ان يعتمد هذا المشروع على جماهير الشعب، ويستلهم روحها ومصلحتها، وان يتطابق مع الحقائق، او يقترب منها الى ابعد حد.

واولى هذه الحقائق ان مصر تشكل ثلث الأمة العربية بشعبها وتراثها وحضارتها وامكاناتها، وانها تحملت العديد من الاعباء القومية نيابة عن الأمة، في غياب التضامن العربي الحقيقي، مما ادى الى ارهاقها اقتصاديا.

وان مصر تعرضت بسبب ذلك كله لمؤامرة كبرى دبرها أعداء الأمة، مستعينين بالسادات والطبقة الطفيلية التي اعتمد عليها، لتعطيل دورها القومي، وإخراجها من الجسم العربي، الأمر الذي أوصلها الى ما هي عليه من تقييد لارادتها الوطنية والقومية والسياسية، ومن ترد في احوالها المعيشية والاقتصادية وأزمات خانقة ومتفجرة.

ان حزبنا ينظر اليوم الى مصر، ويتطلع الى استعادتها لعافيتها واضطلاعها بدورها الاساسي الذي لا ينوب عنها احد فيه، سواء في العمل القومي الوحدوي او كونها الثقل المرجح للاصالة.. الثقل الذي يحمي العروبة والاسلام من خطر الشعوبية، ومن الاخطار التي يفتعلها الغرب الامبريالي والصهيونية، بين الحين والحين، كألغام في طريق القومية العربية.

والحزب لم يهمل هذا التطلع في يوم من الأيام، فكان في وقت ردة السادات يمثل الايمان الراسخ بقدرة مصر على التصحيح، وعلى إزالة ذلك التشويه لتاريخها الوطني والقومي، وبعد زوال السادات كان صوت الحزب اول الاصوات واقواها في التبشير بعودة مصر الصحية الى الجسم العربي، وفي استعجال هذه العودة.

إن مشكلة مصر لم تعد في ارتباطها بمعاهدة كامب ديفيد فقط، وانما هي ايضا في وضعها الاقتصادي والاجتماعي المتدهور، وفي اعتمادها في جانب مهم من اقتصادها على المساعدات الاميركية التي تلقي بثقلها وآثارها السيئة على سياسة مصر الداخلية والخارجية.. الأمر الذي يتطلب مساهمة الاقطار العربية كلها في مساعدة مصر لكي تتحرر من الضغوط الاجنبية وتعود اليها عافيتها.

فالأمة لا تعجز عن امداد مصر بالعون الذي يحررها ويعيد لها وزنها القومي الايجابي وبمقدار ما نختصر الزمن لتمكين مصر من استعادة عافيتها، نكون قد أسهمنا في حل العديد من المشكلات والتناقضات العربية، واقتربنا من مشروع بناء الأمة من جديد وبناء مشروعها القومي النهضوي.

وهذا يقتضي من المناضلين العرب ان يزيلوا كل العوائق والعقبات والحساسيات التي تحول دون انفتاحهم على المناضلين القوميين في مصر، وشد ازرهم بالوقوف الايجابي الفعال الى جانبهم في نضالهم المعبر عن توق مصر للتحرر من اثقالها.

وهنا، يصبح من أولى ضرورات النضال القومي الجديد إجراء العديد من اللقاءات بين البعثيين والناصريين وجميع القوى القومية الاخرى، لتجاوز الحساسيات، ولكي يتعرف كل منهم على وجهات نظر الآخرين، كما يقتضي من المناضلين العرب التحرك، ضمن اقطارهم، للضغط على حكوماتهم لتقديم العون لمصر، من اجل انقاذ وضعها الاقتصادي وتمكينها من استكمال تحرير ارادتها السياسية لكي تعود الى ممارسة دورها الطليعي في العمل القومي.

وثاني هذه الحقائق: ان الثورة الفلسطينية، وعمادها حركة فتح، أنطلقت من ركام الهزائم لتمثل ظاهرة ثورية نضالية في الحياة العربية، واستطاعت عبر مسيرة شاقة وصعبة، ان تكتسب شرعيتها من تأييد الجماهير المناضلة في الأرض المحتلة، ومن المعارك التي خاضتها ضد العدو الصهيوني، ومن صمودها أمام مؤامرات النظام السوري، الذي سعى وما زال للقضاء عليها، عسكريا وسياسيا، بقصد تصفيتها وإنهاء دورها.

ان حزبنا يرى في الثورة الفلسطينية رافدا اساسيا من روافد الثورة العربية، وان لها دورا مهما وفاعلا في بناء المشروع الجديد للامة ولنهضتها القومية. ويرى ايضا: ان هذا المشروع القائم على العمل الجماهيري، هو القادر على مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من دوامة المساومات والمعالجات المرتهنة لضعف الواقع العربي. وهو القادر ايضا على مساعدتها لاستعادة وحدتها، ومتابعة نضالها من اجل التحرير دون ان تخضع للضغوط ومحاولات الاحتواء، فتسترجع قوتها وتألقها ومكانتها البارزة في حركة الثورة العربية.

ان المتتبع للظواهر والاحداث التي جرت خلال العشرين سنة الاخيرة، يرى ان قضية فلسطين تكاد تضيع بين المزايدين الذين يتحدثون عن التحرير، بينما يعملون للحيلولة دون تهيئة ابسط مستلزماته، المتمثلة في وحدة الصف العربي ضمن المنطق القومي الوحدوي، وبين الذين يعتبرون المطالبة بتحرير فلسطين تطرفا، ويعملون باسم الاعتدال على جر العرب الى الاعتراف بالكيان الصهيوني، وانهاء القضية. وغاب عن هؤلاء وأولئك، او غُيّب عنهم الموقف المبدئي الذي يعيش في صدور ابناء الشعب العربي وفي عقولهم، وهو: استحالة الصلح مع عدو كالعدو الصهيوني او التوهم بالقدرة على خداعه.

الشيء الوحيد الممكن هو تأجيل الحرب لحين توافر امكاناتها. اما غير الممكن، وغير الجائز، فهو الاستعاضة عن الحرب بالصلح، ظنا بان هذا الصلح سيكون هدنة وسبيلا لإعداد القوة، واستكمال بنائها من اجل المواجهة مستقبلا، لان الصلح مع الاعداء.. معناه استحالة هذه التهيئة للقوة، بل، وبمعنى أدق، هو انحدار في طريق الضعف، وضياع للحق القومي. فالسياسي العربي الذكي، هو الذي يدرك هذه الحقيقة، وهو الذي يعمل -اذا كان مبدئيا ومخلصا من موقعه، سواء أكان حاكما، أو قائدا لتنظيم مسلح، او حزب عقائدي، او حركة فكرية او شعبية- على تعميق هذه الحقيقة في وعي الجماهير، وعلى تجاوز المنطق القطري والنزعة الاقليمية الى رحاب العمل القومي الوحدوي الصادق، المستلهم لتراث الأمة وقيمها السامية، من اجل الاعداد الجاد والمخلص والعلمي لاستحضار القوة العربية الموحدة القادرة على خوض معركة تحرير فلسطين.

ان تحرير فلسطين، لا يتم الا ضمن المخطط القومي النهضوي الشامل، وهو يحتاج اضافة الى القوة، ان تضع فيه الأمة العربية أنقى وأطهر قيمها، وخلاصة تاريخها، وامجادها ورسالتها السماوية والانسانية وكل طاقاتها. فلسطين تحرر بالايدي النظيفة الطاهرة، وليس بالايدي الملطخة بالخيانة وبدماء شعوبها.

 

يا أبناء أمتنا العربية الخالدة

انه لأمر في غاية الغرابة، ان لا يتوقف المناضلون القوميون في كل قطر من اقطارهم عند هذا التناقض العجيب، وهذه المفارقة الصارخة، وهي ان ينصب تآمر بعض القوى التي تدعي القومية والتقدمية كنظامي سورية وليبيا، على القوة الجديدة في العراق، من خلال تشجيع ايران ومساعدتها لمواصلة حربها العدوانية التوسعية ضده، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى ابقاء مصر ضعيفة معزولة معطلة عن تأدية دورها القومي. في حين ان اي مشروع نهضوي قومي، لا يمكن له ان يتحقق بإضعاف هذه القوى الثلاث، او إشغالها وتعطيل دورها، بل العكس هو الصحيح. ولذلك، فاننا نعتقد انه قد آن الأوان لإدانة هذين النظامين ووضع حد لتخريبهما، ولان تقف الأمة ممثلة في طلائعها المفكرة المناضلة، ومعتمدة على تجربتها النضالية الطويلة، لإيجاد حل للتغلب على هذه الحالة الشاذة والمفتعلة، المصنوعة في الدوائر الاستعمارية والصهيونية، وتجاوز حالة العجز والتردي، وشق الطريق امام نضال الأمة العربية لانطلاقة تاريخية، وفي يقيننا ان الأمة قادرة على ذلك، وعلى فك الحصار، وتحطيم الاغلال.

فما دامت الأمة قد عبرت عن إرادتها الحرة، وقدراتها الكامنة، وإيمانها العميق بقيمها الخالدة، وبجدارتها بالحياة وبالمستقبل في قطر من اقطارها هو العراق، ومن خلال جزء من اجزائها وهو شعب العراق، وكذلك من خلال صمود الشعب العربي الفسلطيني في الارض المحتلة، وتصديه البطولي لقوات الاحتلال الصهيوني، رغم ضعف وسائله، وايضا من خلال حالة الصعود في الوعي القومي التي تعيشها جماهيرنا في مصر العربية، ورفضها المتزايد والمتجدد لمعاهدة كامب ديفيد، ونضالها للانعتاق من قيودها، نقول: مادامت الأمة قد عّبرت عن كل ذلك، فتلك هي البداية التي ينبني عليها مشروع قومي كبير للعمل المستقبلي.

ان هذا المشروع القومي للعمل المستقبلي، هو الصيغة الوحيدة القادرة على انقاذ الأمة، وتمكينها من تجاوز حالة الضعف والتردي التي نشهدها، وهو بداية العمل الجدي والفعال لتحقيق تضامن عربي حقيقي يطرح مشكلات الأمة كوحدة لا تتجزأ، ويضع وزن الأمة في مواجهة هذه المشكلات.

انه هو القادر على تقديم صيغة مصالحة وطنية للبنان تطبق بضمانة الأمة العربية كلها، لانقاذ هذا القطر العربي من المؤامرة المركبة التي يعاني منها منذ ما يزيد عن العشر سنوات، والتي تستهدف وحدته وعروبته والوجه المشرق لنضال أبنائه ومقاومته الوطنية، بقصد المتاجرة الرخيصة بها وجعلها غطاء للتواجد الايراني فيه، واعطاء المزيد من المبررات للمنطق الطائفي الانعزالي الذي يشجعه الكيان الصهيوني في تحالف خفي ومتناسق مع نظام الخميني التوسعي الطائفي، ومع النظام الشعوبي في دمشق.

وهذا المشروع للعمل المستقبلي، هو القادر على ايجاد حل لمشكلة الصحراء الغربية، يستند الى مصلحة الأمة وينسجم مع تطلعات ابنائها الوحدوية، ويعيد جو الصفاء والتعاون بين اقطار المغرب العربي، وتقريب المسافة بينها وبين اقطار المشرق، حيث مصير الأمة يعالج ويتحدد، وحيث تطل الشعوبية برأسها كلما وجدت الفرصة لتنال من العروبة والقومية العربية.

فالشعوبية لها تاريخ طويل لأكثر من ألف عام، وهي نزعة فارسية، للعرب المشارقة تجربة طويلة ومريرة معها، فلا يجوز ألا تدخل في حساب الاشقاء في المغرب العربي، لان خطرها يهدد الأمة كلها، وان لم يكن قد وصلهم، او لم يدرك بعضهم حقيقتها نتيجة العزلة، فالاسلام الذي تدعيه الشعوبية لتمرير مخططاتها، ليس هو الاسلام الذي يكوّن اولى مقومات الشخصية العربية في هذا الجناح من وطننا العربي،كما ان القومية التي تشكل مقومات الشخصية العربية في المشرق، ليست هي القومية العنصرية التي تعرّض ابناء المغرب العربي لشرورها وبخاصة في القطر الجزائري، مع المستعمر الافرنسي، انها قومية انسانية هذبها الاسلام وامتزج بها، فاصبحت جزءا منه واصبح هو جزءا منها.

ولولا الالتباس الناشئ عن بطء التفاعل الفكري والحضاري بين مشرق الوطن ومغربه، لبدت معركة العراق اكثر وضوحا لشعبنا في الجزائر ولكان الشيء الطبيعي ان نجد هذا الشعب البطل، يرمي بثقله الى جانب اشقائه العراقيين في الدفاع عن الأرض العربية، والشخصية العربية في وجه العدوان التوسعي، ومخطط الهيمنة الفارسية، الذي يلتقي مع المخططات الاستعمارية والصهيونية.

ان هذا الجناح من الوطن العربي مازال محاصرا بنوع من العزلة، مما يفقد الأمة جزءا اساسيا من القوة والفاعلية، ويفقد الجناح نفسه ايجابيات التفاعل والاشتراك الفعلي والجدي في المصير القومي الواحد وفي مشروع النهضة العربية الذي لا بد له ان يستفيد من التجربة المتميزة لأقطار المغرب، وان يغتني بها.

ومشروع العمل القومي المستقبلي، هو الذي يساعد على تحقيق وحدة شطري اليمن بما ينسجم مع تطلعات أبناء الشعب اليمني، ومع مصلحة الأمة، ويحول دون تكرار المآساة العبثية التي حدثت في جنوب اليمن مؤخرا، وراح ضحيتها الآلاف من الأبرياء.

وهذا المشروع القومي، هو الذي بإمكانه ان يساعد السودان على تجاوز مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق وحدته الوطنية والجغرافية على أسس عادلة تراعي حقوق الأقليات فيه، وتضمن سلامة انتمائه العربي، مرتكزة الى هذا الجو الواعد من الديمقراطية التي يشهدها القطر السوداني هذه الايام.

 

أيها المناضلون البعثيون

أيها القوميون المخلصون

 

هذا المشروع القومي الذي نرى فيه انقاذ الأمة من الحالة التي تعاني منها، لا يبنيه الا أولئك الرجال والنساء، الذين يمتلكون العاطفة العميقة والحس السليم والرؤية الواضحة والذين يتجاوزون شتى الاعتبارات عندما يتعرض المصير القومي للخطر. هؤلاء هم مثل المسلمين الأوائل، يتميزون بصفاء النفس، ورجاحة العقل. لا تفسدهم الأهواء ولا المصالح، ولا شيء يفوق عندهم حب الأمة والغيرة على امجادها، وعلى تاريخها، وعلى مستقبلها. هؤلاء هم الذين يدركون بحسهم الصادق ان الانبعاث الذي يتحقق في قطر هو قوة لجميع الاقطار، لا عقبة في طريق زعامة قطر آخر. هؤلاء هم طليعة الأمة التي تولد من جديد لتتوحد من خلال المعارك والفضائل التي تكشف عنها المعارك الصادقة العادلة، لانهم يدركون انها الأمة، تعبر عن ولادتها الجديدة وانبعائها حيث تتوافر شروط هذه الولادة. فالأمة التي هي روح وقيم ورسالة لا تعرف الحدود السياسية والجغرافية للاقطار والانظمة، فهي تعلن عن وجودها، وعن يقظتها، وعن ارادة الحياة فيها حيث يكون الاستعداد أقوى، وتلقّي النداء أسرع.

ان المشروع القومي المستقبلي، الذي تتطلع أمتنا الى تحقيقه اليوم، لا يجوز ان يقل طموحه عن صهر لمختلف الفئات القومية ولو بعد اشواط من التعاون والعمل المشترك لتكوين أداة موحدة النظرة والارادة، ولرفع العمل القومي الى المستوى الحضاري. لان عملية الصهر هذه تفترض ان الصيغة الجديدة هي التي تلبي جميع حاجات الشعب العربي الروحية والمادية، وتربي شخصية الإنسان العربي ايضا من كل جوانبها. الصيغة الجديدة يجب ان تستوعب كل ما في هذه الاختلافات من عناصر ايجابية.

ان الأمة العربية، مستندة الى تراثها العظيم والى دروس تجاربها القاسية والغنية بالعبر، تنطلق الى بناء مستقبلها، ورسم صورة هذا المستقبل من الثقة بالنفس والايمان بالانسان العربي، وبالانسان بشكل عام، وبتغلب عنصر الخير، وبتقدم البشرية نحو الأفضل، وهي في معركتها الصعبة والحادة، مع اعدائها ومع الادوات التي يستند اليها الاعداء، سواء أكانوا من الحكام او عوامل التخلف في المجتمع، تضع كل قوة الإقدام والصمود، وكل الجدية في المنازلة والقتال، لكنها تحتفظ في الوقت نفسه بهذه النظرة المتفائلة التي تسمح لها، بعد حسم المعركة مع الاعداء، بان تعالج النواحي المريضة في الحياة القومية بأفق تفاؤلي يلتقي فيه ابناء الأمة على صعيد جديد، صعيد صحي ومتحرر من رواسب التخلف، ومما يورثه التخلف، وتورثه التجزئة المزمنة والضيق، ليس القطري فحسب، بلى الضيق الفئوي كذلك، سواء في الطوائف او الاحزاب او التيارات بمعنى: ان الروح الجديدة كفيلة بان تذيب وتصهر كل ما كان يعطل او يؤخر وحدة الشعب ووحدة الأمة، في رابطة قومية حضارية منفتحة على التقدم ومحققة للحاجات والأماني المتطلعة الى العدالة والمساواة والحرية والإسهام الحماسي في بناء مستقبل عظيم لأمة عظيمة.

 

ايها الرفاق المناضلون

يا ابناء امتنا العربية الخالدة

في الفترات الحرجة ومن خلال المعاناة ودروس التجارب الأليمة، يصعد من ضمير الأمة، ما يشبه النداء يشير الى الحاجات العميقة والصفات المفتقدة، يستجيب له الافراد المؤهلون من ابنائها، فتأخذ حياتهم مسارا واضحا يغتني ويتعزز بالتفاعل مع ظروف الأمة وضمير الشعب.

وقد كان من حظ الأمة العربية ومن مفاخر حزبنا ان برز من بين صفوفه أحد هؤلاء المؤهلين، توافرت له مؤهلات قيادية من المستوى التدريجي، واجتمعت في شخصه خلاصة الصفات الفذة للأمة التي ينتمي اليها والشعب العريق الذي انجبه، إضافة الى روح نهضوية أصيلة شعت منه على كل فرد من افراد هذا الشعب. ذلك هو الرفيق العزيز صدام حسين باني نهضة العراق، ورمز صموده وانتصاره، الذي استطاع ان يفجر طاقات الشعب من خلال علاقة تاريخية فريدة أقامها معه، طرفاها الاخلاص والحب: اخلاص القائد وحب الشعب. فجسد بذلك مبادئ الحزب وأعمق تطلعات الشعب وطموحاته كما جسد الايمان بأصالة الأمة، وقدرتها على الصمود والنهوض والانبعاث.

انه من ذلك النوع النادر بين القلة من القادة الأفذاذ، لأنه وضع مواهبه وقدراته في انسجام وتطابق مع المبادئ ومع مصلحة الشعب وقيم الأمة واتجاه المستقبل وأعدّ لمشروعه النهضوي مستلزمات النجاح المؤكد، بجهد وصبر وحكمة، فلبى حاجة ملحة في الأمة الى دخول مرحلة متقدمة سمتها المميزة التحكم بالظروف وانتزاع النصر بالارادة الصلبة والاعداد المحكم.. انه هدية البعث الى العراق، وهدية العراق الى الأمة، فله منا كل الحب وكل التقدير والاعتزاز في هذه المناسبة الغالية على قلوب البعثيين.

اما الشعب العراقي العظيم الذي ضرب أروع الأمثلة في البطولة والوعي النهضوي، والتفوق وتجاوز كل ما هو مألوف في الصبر والبذل والفداء قد اثبت برجاله ونسائه وبما يختزنه من أصالة قومية، وما يملكه من وطنية عريقة، وما يتحلى به من سجايا حياة تتمثل في هذا التواصل الحي مع عهد الرسالة وقيمه الروحية الخالدة، انه سليل أولئك الأجداد العظام الذين أعطوا للعروبة أسمى قيمها ومآثرها، فله منا كل الإعجاب والإكبار والمحبة.

وهذا الجيش العراقي المقدام الذي اعاد للبطولة العربية معانيها، ولأيام العرب أمجادها، انتزع إعجاب العالم كله بشجاعته، وإقدامه وكفاءته، وتسابق قادته وجنوده على طريق المعالي. هذا الجيش البطل.. جيش العروبة الناهضة.. له منا ومن كل ابناء العروبة الشكر والثناء، لما بذله من تضحيات لدرء خطر الشعوبية عن الأمة، والحيلولة دون تحقيق اطماعها التوسعية في وطننا العربي ولكل قادته وضباطه ومراتبه، المحبة والتقدير..

وكذلك ابطال الجيش الشعبي، الظهير القوي للقوات المسلحة الباسلة، لهؤلاء الابطال، ولكل المناضلين العرب الذين دفعتهم الغيرة القومية، ووعيهم بأبعاد واهداف هذا العدوان، الى مشاركة اخوانهم، ابناء العراق، معركتهم المقدسة لهؤلاء جميعا كل الحب، وكل التقدير، وكل الثناء.

وتحية الاكبار والاجلال والاعجاب لابناء شعبنا العربي في الارض المحتلة الذين يجسدون روح فلسطين بكل ما تعنيه للامة العربية من قدسية وحوافز نضال بكفاحهم البطولي وصمودهم الرائع وبتضحياتهم وتمسكهم بتراب ارضهم وبهدف التحرير، راسمين طريق العودة الظافرة الى فلسطين، وطريق عودة فلسطين الى الأمة.

تحية حب وتقدير لرفاقنا المناضلين في لبنان الذين يتصدون بفكرهم القومي الواضح للتيارات الشعوبية والانعزالية، وتحية اكبار لكل المناضلين اللبنانيين الذين يدافعون عن عروبة هذا البلد ووحدته وسلامة اراضيه.

تحية حب وتقدير لرفاقنا المناضلين في السودان الذين يخوضون معركة تثبيت النهج الديمقراطي في القطر السوداني العزيز ولدورهم المتميز بالتواصل مع الشعب، وبالمستوى المتقدم من الوعي والحكمة والنضج، من اجل تصفية آثار المرحلة السلبية السابقة، ولإيصال الانتفاضة الشعبية في السودان الى اهدافها الايجابية الكاملة.

تحية لكل المثقفين والكتاب والمفكرين المناضلين الذين يتقدمون الصفوف في مشرق الوطن العربي ومغربه، ويقودون معركة الوعي العربي الجديد، لكشف ابعاد المؤامرة على الأمة، وفتح آفاق جديدة ومتقدمة أمام النضال القومي.

تحية لكل البعثيين، ولكل المناضلين الشرفاء من أبناء امتنا العربية.

والمجد والخلود لشهداء الأمة الأبرار، ولشهداء العراق: سيوف الحق العربي الذين تحول إشعاع عطائهم الى نداء يهز الضمير العربي.. والضمير العالمي، وينبه الى الطبيعة الحضارية للمعركة التي يخوضها العراق.

(1) كلمة في السابع من نيسان عام 1986، بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث