ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


البَعث رَمز لمعاناة الأمة

 

أيها الرفاق المناضلون (1)

يا أبناء أمتنا العربية المجيدة

كان البعث ولا يزال، رمزاً لمعاناة الأمة، فهو حامل الهّم العربي في هذا الطور المتميز من نهضة العرب الحديثة وكان في رحلته النضالية الشاقة الطويلة، ينطلق من الايمان والثقة بالأمة، وأنها تجتاز مرحلة انبعاث، أي أنها تبني نفسها من جديد، ومعنى ذلك ان وعينا وإرادتنا عنصران مهمان في تكوينها الجديد. وأننا بمقدار ما نكون أحراراً في صنع كياننا القومي ومصيرنا المشترك بمقدار ما نكون أمناء لأصالة أمتنا، لان الأصالة هي وحدها التي تقدر على تحقيق الانبعاث والتجدد السليم.

وكان البعث يدرك ان قوميتنا ليست  رجوعا الى التاريخ، بل هي تطلع الى المستقبل من خلال مشاكل الحاضر، وأن التاريخ يلقي ضوءاً على طريقنا، ولكنه ليس  قيداً لنا ولا حتمية مفروضة علينا وأن مستقبلنا أمامنا لا وراءنا. فقد كانت المسألة منذ البدء، كيف تتكون حركة عربية ثورية وتبقى مالكة إرادتها، مسيطرة على نفسها، تلتزم الصدق مع النفس ومع الشعب في كل الظروف والأوقات وتمتلك رحابة في الصدر مستمدة من رحابة الأرض العربية.

وكان لنشأة البعث أوائل الأربعينات، معنى الولادة لمرحلة تتفتح عبرها آفاق التفاعل الحر بين المناضلين العرب في شتى ارجاء الوطن الكبير، وتنتظم فيها ارادة النضال المصيري الموحد، فقد كان البعث لكل العرب في المشرق والمغرب، وكان أحرار اليمن وقيادات الحركة الوطنية في السودان، ومناضلو المغرب وتونس والجزائر، يحملون إليه هموم نضالهم، ويعبرون عن إيمانهم بوحدة الأمة العربية، وكان شباب البعث، وهم إذ ذاك بضع مئات في جامعة، دمشق ومدارسها، يملأون الدنيا نشاطاً فكرياً وحركة نضالية تدعو الى وحدة النضال العربي وتتظاهر انتصارا لهذا القطر العربي أو ذاك.

وفي مثل هذا الشهر، قبل خمس وثلاثين سنة كان شباب البعث، يتوجهون إلى فلسطين ويلتقون مع

أخوتهم المجاهدين الفلسطينيين والمتطوعين العراقيين والمصريين، وكانت روح العروبة ترفرف عليهم، وهم يتعارفون ويتحاورون ويتوحدون في النضال، على اختلاف بلدانهم وأحزابهم.

أربعون عاماً مضت، والبعث يؤكد خلالها حضوره الفكري والنضالي في مسيرة الكفاح القومي، وبزداد قرباً من ضمير الأمة وروح الشعب، ويزداد ثقة بأصالة دوره وصدق تمثيله للمبادئ والأهداف التي نذر نفسه لها.

وتتجدد المناسبة، في كل عام، لكي يطرح على نفسه من جديد، ومن خلال الأحداث والظروف المستجدة، الأسئلة ذاتها التي تزدحم وتتدافع في صدر المناضلين، تبحث عن أجوبة مقنعة تبدد الظلام المنتشر، وتزيل الشكوك والحيرة من طريق الانبعاث والنهضة.

 

أيها البعثيون المناضلون

أن ذكرى الماضي لا تستعاد إلا لأن بالزمن الحاضر حاجة الى استنطاقها، فماضينا، سواء ماضي الحزب أو ماضي الأمة يكتبه الحاضر كل يوم كتابة جديدة مختلفة، فالمناضلون الذين يرون الحياة جهاداً ورسالة وعطاء وتضحية وبطولة يكتبون تاريخ الأمة بالعرق والدم، في حين أن أعداء الأمة والنهضة والبعث وصنائعهم يكتبونه كتابة مزورة ويسعون بكل وسائل العلم الحديث واساليب التضليل والتخدير لتشويه تاريخنا القومي وتاريخ حزبنا المناضل، لكي يسحبوا من عقول الاجيال العربية الجديدة، ونفوسها ثقتها بأمتها وبأصالة هذه الأمة، ورسالتها ووحدتها.

فالبعث يتخذ من هذا التذكّر الحي للماضي مناسبة للمراجعة والوقفة الصريحة مع النفس ومع الجماهير العربية، وللكشف عن أبعاد التآمر على النهضة العربية وأجيالها المؤمنة بحتمية انتصار القضية العربية ولاسيما في ظل الظروف القومية الراهنة حيث تقف الأمة ومستقبلها على مفترق طرق.

فالأنظمة الممثلة للعجز والتردي، تريد وتسعى لكي تكون المرحلة المقبلة مرحلة تصفية للقضية الفلسطينية، ولكل أمل في تحقيق الوحدة العربية فهي ترضى بأن تبقى كيانات ثانوية تحت السيطرة المباشرة أو غير المباشرة ل "إسرائيل" والإمبريالية في الوقت الذي يطرح فيه ضمير الأمة، وتهتف أرواح ألوف الشهداء العرب، من عليائها، غاضبة مستنكرة، وهي تلهم المناضلين الصبر والثبات فالجماهير العربية والفئات الثورية التي تجسد إيمان هذه الجماهير وصمودها وإرادة النضال والبقاء والتقدم عندها، تعتبر المرحلة الجديدة مرحلة الوضوح والجد والتضحية، وتعتبر أن قضية فلسطين أخذت ابتداءً من الآن، وبعد الامتحان العسير الذي اجتازته المقاومة وصمدت فيه صموداً بطولياً، طريق القوة والحياة والثورة، كما أن القضية القومية بعد مفاجأة العروبة الجديدة لنفسها على الجناح الشرقي للوطن العربي ومن خلال ثورة العراق وانتصارها على المؤامرات المتعددة الأطراف، وما بثته من روح جديدة وما فجرته من طاقات خارقة، قد ارتفعت الى مستوى جديد وافتتحت عهداً جديداً من البطولة.

صحيح أن النضال العربي في هذه المرحلة لم يبلغ النضج الكافي من حيث درجة الإيمان بالعلم والعقلانية وبالتالي الديمقراطية والتمسك بالقيم الأخلاقية في العمل السياسي.. ولكن هذا لا يعني أن النضال العربي لم يسر في طريقه نحو استكمال تلك الشروط.

فقد مرت على الأمة العربية.. في نضالها المعاصر تجارب قاسية كفيلة بإنضاج المستوى الطموح لمواجهة المستقبل بخبرات غنية وبثقة أكبر بالنفس. فبعد سلسلة النكسات القومية، بدأت بالانفصال وتضييع الوحدة، ونكسة 23  شباط وضياع القطر السوري مع دوره القومي الخطير، ونكسة الخامس من حزيران وضياع الجولان والباقي من فلسطين.. بعد هذه النكبات والدروس القاسية كان لابد للتجربة النضالية العربية أن تغتني، وان تتجلى ملامح النضج داخل كل تجربة ثورية عربية وأن تتمثل في تجربة البعث في العراق وفي المقاومة الفلسطينية المستويات المتقدمة لهذا النضج حيث طبيعة التعامل الداخلي وطريقة عملها ونضالها العام، باتت تعبر عن المزيد من الحرص على الوحدة الداخلية وعلى الفهم الأعمق للأخطار الخارجية وللمسؤولية القومية.

فالحزب، وهو يقدر خطورة الظرف الذي تمر به الأمة العربية، وبجد فيه ما يستدعي التنبه والحذر، فأنه لا يشعر بالهلع ولا يخالجه يأس، لا من نفسه ولا من أبناء شعبه وأمته. أن مظاهر التردي كثيرة في طول الوطن العربي وعرضه، ولكن يكفي أن نشير إلى الشعل المضيئة، وإلى مواطن العافية في الجسم العربي، لكي ينتعش الأمل وتتعزز الثقة بالأمة وبمستقبلها.

فهذا العراق يخوض حرباً مفروضة عليه، منذ ما يقارب الثلاث سنوات، ولكنه بالوعي والبطولة والتضحية استطاع أن يعطيها معظم سمات النهضة العربية الحديثة، فهي حرب حضارية لصد عقلية التخلف والهمجية، وحرب للدفاع عن شخصية الأمة العربية ووحدتها، ودورها القيادي. وحرب وطنية لصد الأطماع التوسعية عن العراق والحفاظ على نهضته وطريقها ومكتسباتها.

وهذه المقاومة الفلسطينية، صمدت وجاهدت، وخرجت مرفوعة الرأس من معركة لم يتوافر فيها الحد الأدنى من التكافؤ مع قوة العدو.

وهذا شعب مصر بعد سقوط السادات يتطلع إلى عملية التصحيح ليضح مصر على طريق التماثل للشفاء، والخروج من المحنة، سالمة الكرامة، راسخة العروبة غنية التجربة.

وهذه الجزائر بلد الثورة الجبارة والمليون شهيد تثبت استقلالها، ويزداد اهتمامها بقضايا أمتها وتعطي بذلك البرهان على النضج والحيوية في آن معاً.

وها هو لبنان والملحمة الخالدة لصمود بيروت... بيروت التي احتضنت المقاومة الفلسطينية وحفظت عهد فلسطين قد ارتفعت في نضالها وصمودها الى مستوى قضية فلسطين، كما أن الثورة الفلسطينية بتفاعلها مع أجواء بيروت الفكرية وروح طبقاتها الشعبية قد اكتسبت أبعاداً جديدة وحيوية جديدة. وقد جاءت معركة بيروت جواباً غير مباشر على المحاولات العقيمة التي مورست عليها زمن التشويه الاستعماري وما بعده، لكي تتنازل عن عروبتها مقابل الاعتراف لها بلبنانيتها وتقدميتها.

فقد أعطت بيروت للجميع دروساً بليغة في عروبة لبنان، وفي تقدمية العروبة، وخرجت بهذا الامتحان الجديد ظافرة متألقة تؤكد حقيقتها كعاصمة من عواصم العروبة الحديثة، العروبة المناضلة، العروبة الحرة المتحررة.

فالبعث وهو جزء من حياة الأمة ونهضتها الحديثة، يشعر بالقوة تسري إليه من صمود المقاومة الفلسطينية، كما يشعر أنه بنضاله القومي المتمثل في تجربة العراق الثورية، وفي نضال البعثيين في لبنان والسودان، وفي أقطار أخرى من الوطن العربي، يدعم الصمود وإمكانات النهوض والتحرر في مسيرة الثورة العربية كلها.

فإذا كان البعث لا يستخف بحجم التآمر عليه من القوى الشريرة وبخاصة في هذه الحرب التي يخوضها العراق باسم المبادئ القومية، والمستقبل العربي، فان الحزب بالاستناد إلى الصلة الحية العميقة التي تصله بضمير الأمة وروح الشعب لا يخشى تلك القوى، رغم كثرتها لأنها شتات سلبي لم يجتمع إلا على الأحقاد وأغراض الهدم، بينما تمثل معركة العراق، إرادة البناء والتقدم  والثورة في ضمير الأمة والشعب، وقبل حين قريب خيل للأعداء أن مؤامراتهم، وحيلهم قد نجحت في انتزاع مصر من جسد الأمة، في إبعادها عن مصيرها العربي، وإذا في فترة قصيرة نسبياً تصبح إرهاصات التصحيح في مصر هاجساً يقلق هؤلاء الأعداء على تباين منطلقاتهم، فالطبيعة لا بد ان تتغلب وتعود مصر حاملة حنينها وأصالتها العربية.

ولن يطول التآمر والتزوير الذي فرض على سورية العربية، أن تكون حليفاً وظهيراً لإيران ضد العراق، ولابد لنضال جماهير الشعب العربي في سورية ولتحالف قواه الوطنية وللتضحيات التي قدمتها مدن سورية، أن تتكلل باقتلاع جذور الانحراف والطغيان وأن يعود هذا القطر إلى دوره القومي الذي تآمرت عليه الردة، وأن يأخذ موقعه الايجابي في بناء المرحلة الجديدة الناضجة للعمل العربي المتجه إلى الوحدة وإلى تجسيد روح النهضة العربية.

فنحن بنفس القوة التي نعلن بها ثقتنا بقدرة أمتنا على الصمود والتغلب على الهجمة الامبريالية الصهيونية الشرسة، فأننا نعلن ثقتنا بحزبنا وبقدرته على الصمود وتحقيق الانتصارات والأهداف القومية الكبرى.

 

يا أبناء شعبنا العربي

لقد وضع الحزب ثقله في تجربة العراق الثورية في وقت كانت فيه الأمة تعاني نتائج الهزائم والخيانات والتراجعات المهينة، وكانت بأمس الحاجة إلى ما يعيد إليها الثقة بالنفس والتفاؤل بالمستقبل، فعندما كانت سياسة الاستلام للعدو، تهدد بأن تفرض نفسها على كثير من الحكام، وعندما أنحرف حاكم مصر ذلك الانحراف الخطير الذي أخرج أكبر وأهم قطر عربي من ساحة الصراع مع العدو. وعندما كان الفساد يستشري في كثير من الانظمة العربية، كان لابد للحزب أن يحاول محاولة واجبة وليست مشروعة حسب، ان يبني تجربة مختلفة نوعياً تسري فيها روح نهضوية تفجر المواهب وتشحذ الهمم.

وقد كشف العراق عن قوة من نوع جديد، أثارت مخاوف الكيان الصهيوني وحلفائه الاستعماريين، والقوى المعادية للقومية العربية وثورتها الحديثة، كما أثارت مخاوف بعض الأنظمة العربية الحاقدة التي أوصلها حقاها الى درجة الخيانة، فكانت الحرب المفروضة على العراق لضرب هذه القوة.

ولم يكن العراق بحاجة الى حرب ليتابع نهضته ولم تكن لديه مشاكل داخلية ليلهي الشعب عنها بالحرب، كما هي الحال في إيران، ولم يكن بين الشعب وقيادته انفصام أو فجوة، بل التحام وانسجام وحب متبادل، فرغبة العراق في السلم رغبة هادفة منسجمة مع مبادئه ومصلحته وواقعه، فحالة العراق حالة دفاعية أمام عدوان متعدد الجهات والاشكال والالوان، حالة الدفاع المشروع، كما هي حالة الامة العربية في نهضتها الحديثة، تدافع وتصد الغزو والتآمر والتخريب والافتراء كل يوم، وفي كل ساحة من ساحات نضالها.

وكانت العروبة تخوض في الوقت نفسه، معركة أخرى ضارية، في لبنان ضد العدو الصهيوني، وتثبت المقاومة الفلسطينية، وتوقع هي وشعب لبنان العربي بالعدو خسائر هزته إلى الأعماق وزعزعت كيانه المصطنع، وكنا نشعر أن المعركة واحدة، وأن الصمود هنا يدعم الصمود هناك، ولئن نجح العدو الصهيوني في أن يختار لشن حربه على لبنان والمقاومة الفلسطينية، وقتاً وظرفاً يكون فيهما العراق مشغولا بحربه مع إيران ويصد الهجمات الإيرانية عن الحدود العراقية، فإن ذلك لن يغير شيئا من هذه الحقيقة، وهي أن نهضة العراق وصموده في وجه العدوان قوة للأمة العربية، ولمعاركها مع أعدائها، ولولا ذلك لما اغتنم العدو الصهيوني فرصة الحرب ليضرب المفاعل النووي العراقي، ولما أمد إيران بالسلاح والخبرة، وما الإطالة المصطنعة المتعمدة لهذه الحرب، الإطالة التي يعمل لها الاعداء وبعض الاشقاء العرب، من الحاقدين، إلا تعبيراً عن خوف الأعداء من العراق الناهض، وعن حقد الاشقاء الذين عجزوا عن أن يقدموا لشعبهم غير العجز والفساد والقتل والتنكيل.

 

أيها المناضلون العرب

لقد أنطلق البعث منذ البداية من التأكيد على أن القومية العربية هي الجو الوحدوي والمنطق الوحدوي، وشيء من قوة الوحدة حتى قبل أن تتحقق، وأن القومية العربية هي السلم بين العرب، والقوة العربية في مواجهة الأعداء، وأن السلم العربي قد يحمل السلم أيضا إلى الجيران الذين غرّهم انقسام العرب، فأطلقوا العنان لأطماعهم التوسعية فأساءوا إلى أنفسهم بقدر إساءتهم إلى العرب، فالقومية العربية هي السلم بين العرب لأنها العدل بين العرب، أقطارا وفئات وطوائف وأفرادا مواطنين. هي التقاء العرب بعضهم ببعض، هي تفهمهم بعضهم لبعض، رغم الاختلاف، بل بسبب الاختلاف، لأن الاختلاف عندما يفهم ويقبل، يصبح مصدر قوة وثراء روحي وحضاري.

لم تمر فترة ذهبية على العرب شعروا فيها بقوميتم الجامعة وبوحدة أمتهم   ومصيرهم، مثل تلك الفترة التي كانت فيها الأمة العربية متحققة من خلال الثوار الذين كانوا يحملون السلاح ضد الاجنبي، لا ضد أخوتهم وأشقائهم، فعندما ينحرف النضال ويتردى الى حرب بين الاخوة، تنسحب الأمة العربية الواحدة، وتحتجب لترفع العصبيات الذميمة رأسها وتنفث سمومها، وتنشر أمراضها.

ففي عهود الاحتلال والاستعمار الأجنبي، كان حقدنا كله ينصب على المستعمر الدخيل المتغطرس وحبنا كله يتوجه الى شعبنا وأبناء وطننا وامتنا.

لم نعرف الحقد بين الأخوة، وقد كان جو الوحدة الوطنية المقدس، يخيم على الجميع، عندما كانت تشتد المواجهة بين الشعب والمستعمرين، ولعل القطر السوري، قد عرف من هذه التجربة الثمينة الشيء الكثير، إلى أن توج نضال أبنائه بجلاء المستعمر، وقد تميز جبل العرب وغوطة دمشق ومدينة حماة في ذلك النضال المجيد الذي شاركت فيه جميع المناطق السورية ولو أن حكام دمشق اليوم كانوا من الجيل الذي عاصر تلك الأحداث، لربما كانوا تورعوا عن ضرب مدينة حماة وذبح أهلها والتمثيل بهم، أن هذا العامل الجوهري، أي معاصرة الوجود الاستعماري بوطأته الثقيلة، ومواجهته بوحدة الشعب الوطنية، يفسر إلى حد بعيد تميز فترة الخمسينات التي أعطت أمجد وأروع صفحات النضال الشعبي التحرري في طول البلاد العربية وعرضها فنضال القطر المغربي ضد الاستعمار الفرنسي، ثم القطر التونسي، ثم الثورة العملاقة في الجزائر والمقارعة العنيدة للاستعمار البريطاني في العراق، وعدن والبحرين، وانتفاضة الأردن ضد الضباط الإنجليز، وتأميم شركة قناة السويس وفشل العدوان الثلاثي على مصر، وتحطم الاستعمار القديم على صخرة المقاومة الشعبية، في مدينة بور سعيد، وقيام أول وحدة للعرب في العصر الحديث، التي كانت بداية الرد الجدي على اغتصاب فلسطين.

 

يا أبناء امتنا المجاهدة

لقد كان تحليل الحزب قبل ثلاثين عاماً للصعوبات التي تعترض تحقيق الوحدة العربية من الداخل والخارج تحليلاً علمياً أثبتت التجارب صحته وقد خرج ذلك التحليل بالنتيجة الآتية بأن الوحدة تحتاج إلى نضال خاص بها، والى تثقيف وتنظيم خاصين بها أيضا، وأن التطور لا يسير لمصلحة الوحدة  وأن النضال الوحدوي هو مغالبة للتيار، وعمل ثوري بل أكثر الأعمال ثورية، وأنه يحتاج إلى حركة ثورية تضطلع به، وتنقطع له، وأعتبر الحزب أن تلك مهمته، أن الوحدة هي الحقيقة العلمية الوحيدة في الحياة العربية، لأن فيها الإنقاذ من أخطار الإبادة والاستعباد والإلحاق والحياة الهامشية، كما أن  فيها أمكانية الانطلاق والتقدم وبناء القوة الحضارية القادرة على الصمود أمام القوى الطامعة في أرضنا وفي ثروات وطننا.

أن الوحدة تعني الاقتراب من الواقع العربي الحي، واقع الأقطار، وواقع الشعب في كل قطر، اقترابا صادقا ومنفتحا، فالتغلب على الخلافات العربية لا يتم إلا عن طريق المزيد من الاتصال والاطلاع والإقناع.

فالخصوصيات القطرية واقع لا يمكن ولا يجوز تجاهله والقفز من فوقه، والاقتراب من الشعب، يعني سماع صوته ورأيه، بل آرائه المختلفة اختلاف فئاته ومستوياته والانفتاح عليها بحب واحترام، وعندما ننطلق من الثقة بالشعب وبالإنسان العربي نكون قد لامسنا ينبوع الخير والعطاء والابداع عند كل مواطن ونقلنا العمل الوطني والعمل القومي إلى المستوى التاريخي.

والوحدة العربية هي أيضا وبخاصة وحدة التجربة الثورية النضالية أو بالأحرى توحيدها على مستوى الوطن العربي كله، ليس التوحيد المفروض فرضا وإنما الحاصل من المشاركة والحوار والتفاعل ومن الإفادة من التجارب الثورية العربية المتعددة المختلفة بنجاحها وإخفاقها، بل الإفادة أيضا من التجارب الثورية العالمية ونواحي القوة والضعف فيها.

أن توحيد التجربة العربية الثورية، لابد أن يوصل إلى بعض الحقائق والنتائج، فالديمقراطية أصبحت  مطلباً بديهياً وضرورة حيوية للخروج من المأزق التاريخي مأزق العجز العربي، والتجزئة والانقسام والخصومات الحادة، فعودة الجماهير إلى ساحة النضال، وتساند النضال الجماهيري من فوق الحدود والحواجز القطرية هو الكفيل بعودة العافية إلى الجسم العربي المريض وإيقاف التدهور، ووضع حد لغطرسة الأعداء وأطماعهم التوسعية.

 

يا جماهير أمتنا المجاهدة

أن العرب يقفون اليوم أمام واقع مرّ قاس لا هم قادرون على مواجهته، ولا هم بمستطيعون تجاهله وتجاوزه، فالغزو الإسرائيلي للبنان، والعدوان الإيراني على العراق ينهيان مرحلة ويبدآن مرحلة جديدة في حياة الشعب العربي في مختلف أقطاره، صحيح أن هذين الحدثين اللذين كشفا تناقضات الأوضاع العربية وعجزها، ليسا منقطعي الصلة بتاريخ السنوات التي سبقتها، فمنذ أن بدأ السادات سياسة المصالحة مع العدو الصهيوني، وأخرج بذلك مصر، بكل وزنها من ساحة المواجهة أختلت الموازين، وتفشى الضعف والشذوذ، وقد بادر العراق إذ ذاك إلى الدعوة إلى قمة بغداد، لوقف التداعي، ولكن كان المطلوب أن يواجه الارتداد بالتقدم إلى أمام، فلا يكتفي بالإجماع أو شبه الإجماع على السير في السياسة الرافضة للصلح مع العدو بل يكمل ذلك بعمل عربي إيجابي مستمر ومتنام، لخلق القوة العربية الموحدة التي تعوض الغياب الوقتي لمصر، من جهة، وتعمل على اختصار هذا الغياب من جهة أخرى.

وقد ظهرت بداية واعدة للعمل العربي الايجابي الذي لا يقتصر على الرفض، بل يحمل في ثناياه إمكانات بناءة وخلاقة نعني به التقاء العراق وسورية على ميثاق عمل قومي للتضامن والتعاون، قابل أن يتطور إلى صيغة وحاوية بين القطرين الشقيقين ولكن هذا المشروع ما لبث ان تلاشى لأن النظام الذي ذهب إلى حد التنكر للرابطة القومية والتحالف مع إيران، لم يكن خالص النية، بل كان يضمر التآمر منذ ذلك الحين، وكل ما صدر عنه بعد فشل الميثاق، يفسر لماذا كان يضمر التآمر عليه إذ فقدت مقررات قمة بغداد بفشل الميثاق مفعولها الرادع، وكانت نتيجة ذلك استمرار السادات في سياسة المصالحة مع العدو، وعزل مصر عن الأمة العربية، وفي غياب السياسة القومية، وقف كل قطر عربي وحيداً أمام الأعداء، كما وقفت جماهير كل قطر وحيدة عزلاء أمام حكامها لا تجرؤ على الحركة لأنها لا تأمل بأي تأييد أو تضامن نضالي يأتيها من الجماهير العربية في الأقطار الأخرى.

وسيظل العرب يدفعون الثمن الباهظ لاستهتارهم بفكرة الوحدة، وبأهمية العمل الوحدوي، حتى يصلوا عبر التجارب المريرة، إلى الاقتناع بحقيقتين متلازمتين، الأولى، أن الوحدة، وكل خطوة على طريقها، وكل شيء يقرب منها ليست ترفاً وشيئاً كمالياً، يمكن تأجيله والاستغناء عنه، بل هي ضرورة حيوية بدونها سيفقدون أقطارهم الواحد تلو الآخر، واستقلالهم وسيادتهم على مقدراتهم ويصبحون أتباعا لقوى أجنبية مسيطرة، في مقدمتها "إسرائيل".

والحقيقة الثائية، أن الوحدة هي عمل شعبي نضالي تصنعه الجماهير العربية الواعية المنظمة، وأن العمل الوحدوي هو العمل الثوري الوحيد في الحياة العربية الحديثة، وكل الأمور الأخرى، لا تعدو كونها في أحسن الاحتمالات أعمالا إصلاحية لا تكتسب ثوريتها إلا من خلال ارتباطها الجدي بالعمل الوحدوي.

غاب العمل الوحدوي، فغرق لبنان في الدماء والدمار في حرب أهلية دامت سبع سنوات وانشغل معظم أقطار المغرب العربي المدة نفسها، في خلاف على الصحراء الغربية، أستنزف كثيراً من الجهد والدم، وتجرأت إيران على العراق، وعلى القومية العربية بعامة وطمعت في فرض وصايتها على الأمة العربية وأن تكون البديل في حمل رسالتها، وتحالف النظامان السوري والليبي مع إيران ضد العراق، كل هذه الأمور والتصرفات الشاذة من الصعب جداً أن نتصور أمكانية حدوثها أو حدوث شيء منها في حالة توافر حد معقول من العمل الوحدوي، ولو أن بعض هذه الممارسات الشاذة كاد حاث في الماضي لثارت الجماهير العربية، وأستنكرت وفرضت رأيها مستندة في تحركها وثورتها إلى وحدة النضال العربي وما يوفره لها من حماية.

ان عودة مصر العروبة والتحرر، غير المثقلة بقيود معاهدة كامب ديفيد المشؤومة، هي أمنية غالية، وهي جديرة باهتمام جميع أبناء الأمة العربية، وبأن تتحول إلى مشروع نضال يومي. أن الشعب العربي في مصر يتقدم بنضاله على طريقها، ولابد أن تحشد الجماهير العربية وقواها المناضلة وبخاصة مثقفيها كل الجهود لدعم تلك الخطوات وتصعيدها وضمانها من أية انتكاسة.

فكثيرون هم الذين  يتجاهلون البعد النضالي لهذه العودة ويتحدثون عنها وكأنها قد أصبحت متحققة مع أنها في بداية الطريق، أن شروطاً كثيرةً أصبحت مواتية لهذه العودة بعد سقوط. رمز تلك السياسة المجرمة التي أبعدت مصر عن أمتها العربية، ومن واجب جميع المخلصين من أبناء الأمة أن يعبئوا جهودهم لتسهيل هذه العودة، وإذا كان الحذر مطلوبا حتى لا نغرق في التفاؤل السطحي، فأن الحذر مطلوب أكثر حتى لا تكون الشعارات التحررية اللفظية أداة للعرقلة وللتفريط بعودة أكبر قطر عربي إلى مكانه الطبيعي، ولا يجوز أن تضيع مصر من أيدي العرب، مرة أخرى، وأن نتجاهل ما خططه الأعداء وكيف يستغلون حرمان الأمة من وزن مصر للامعان في إضعاف هذه الأمة وتشتيت نضالها، وتمزيق أقطارها وتصفية قضية فلسطين.

 

أيها المناضلون العرب

يا جماهير أمتنا المجاهدة

أن بقاء قضية فلسطين مطروحة بكل ثوريتها وكامل حقها في إزالة الاغتصاب واسترجاع الأرض إنما هو تعبير عن إرادة الثورة في الأمة الثورة في الأمة العربية وأجيالها الصاعدة وجماهيرها المحرومة المناضلة، كما هو بعث للثورة في كل أرض عربية وجواب على المتقاعسين عن معركة فلسطين. أن كل مواطن عربي واع، يدرك ويؤمن بان استرداد حريته وكرامته ذو صلة وثيقة بقضية فلسطين، وبمعركة تحريرها، كما يدرك أن الذين يسجنون الشعب ويمارسون القمع والقهر ضد المواطنين، ويكرهون الحرية ويحقدون على الأحرار، هم الذين يستعجلون تصفية القضية الفلسطينية، بأي شكل كان وبأي ثمن.

أن قضية فلسطين، كما عرفها الحزب هي خلاصة للقضية العربية وهي روح الثورة العربية وقضية الأمة المركزية، هي نافذة الأمة العربية على العالم والإنسانية، هي ورسالة العرب إلى العالم، ورسالة القيم الخالدة، قيم الحق والعدل والإخاء والكرامة الإنسانية، هي الانتماء العربي الإنساني الحديث من خلال الألم والمعاناة والثورة والنضال والحرية والتحرر بأعمق معانيها، هي الحق الذي يولدّ القوة، هي العروبة مختصرة، مطهرة، هي الإنسانية معَذبة معًربة، هي وحدة العرب وحريتهم ونهضتهم.

 

يا جماهير شعبنا الأبي

أن المنابع التي أستقى منها البعث أصول تفكيره وجذور نشأته، وهوية نضاله،كانت تتلخص دوماً في استلهام تراثنا الخالد، ومعاناة الأمة النضالية وتطلعها الدائم نحو المستقبل، فقد أعطانا هذا التراث الروحي والحضاري العظيم قوة انطلاق تاريخية، ومنحنا ثقة كبيرة بالنفس واكسبنا أصالة، ووهبنا القدرة على مواجهة التحديات مهما تكن مصيرية.

ومن المعاناة النضالية الطويلة لأمتنا تعلمنا كيف نثبت أمام المحن، وكيف ننتصر على الآلام، وكيف نصبر وكيف نجعل نضالنا بمستوى أهدافنا، وكيف نحتفظ بروح الرسالة. وها هي ثمرة هذا النضال تتجلى من خلال الفضائل النادرة والخصال النبيلة والمناقب العالية، التي جسدها أبطال العراق في ملاحمهم الرائعة في جبهات القتال لصد العدوان عن وطنهم وثورتهم وأهداف أمتهم، وكذلك في حقول البناء والنهضة في كل جوانب حياة القطر، أي في تحويلهم العراق العظيم إلى رمز للانبعاث القومي، وقائد لوحدة النضال العربي، ومسرح لتلاقي الماضي المجيد بالحاضر الناهض للأمة، وعنوان الوحدة بين الأصالة والتجدد، وبين القيادة والجماهير. أن نضال البعث في العراق قد تميز، كما تميز تاريخ العراق على الدوام، بالعطاء السخي، وبالمستوى البطولي وبالعبقرية الحضارية.

فالشهداء الأبطال الذين رسموا مسيرة هذا التاريخ المجيد، والمناضلون الذين شقوا الدروب الصعبة وواجهوا التحديات الضخمة، وتحملوا المسؤوليات وجميع أبناء الشعب، العامل المنتج والفلاح الكادح والجندي المقاتل والمربي والفنان المبدع والشاعر الملهم والعالم والمرأة المكافحة، قد ساهموا في تشييد هذا البناء الجديد للعراق، وكان لهم الفضل في تحقيق هذا المستوى المتميز من البنية الثورية في عراق البعث.

ولكن الفضل المتميز، الفضل الجامع والموحد للفضائل قد تبلور في الدور التاريخي البطولي المبدع الذي أستطاع من خلاله الرفيق القائد صدام حسين أن ينقل العراق والبعث في العراق الى مستوى الانجاز التاريخي.

فقد تجمعت في شخص الرفيق صدام حسين شروط القيادة النادرة، التي استطاعت في ظل أحلك الظروف القومية، أن تفتح نوافذ الضياء، والأمل والثقة بمستقبل عظيم للعراق وللأمة العربية. فهو اليوم في عقل وضمير وقلب كل مناضل صادق على أرض الوطن العربي، لأنه يجسد عظمة العراق والأمة.

شعب العراق العظيم وقيادته الفذة وجيشه البطل لم يجسدوا العظمة الحقيقية مثلما جسدوها في الأوقات الصعبة، التي كانت من الفترات الخالدة التي تمنح الشعوب وتصنع التاريخ.

تحية إجلال وإكبار لشهداء الأمة في قادسيتها الجديدة وفي كل معاركها عبر العصور.

وتحية للجيش العراقي البطل وللجيش الشعبي الباسل، وللمتطوعين العرب الذين نالوا شرف أداء الواجب القومي المقدس.

وتحية لنضال عرب الأرض المحتلة وللمناضلين والمواطنين الفلسطينيين

واللبنانيين المعتقلين في معسكرات العدو الصهيوني.

وتحية للبعثيين وحلفائهم الصامدين في السجون والمعتقلات.

عاش نضال حزب البعث العربي الاشتراكي وجماهير أمتنا المجيدة وعاشت ثورة 17-30 تموز الخالدة.

وعاش نضال الشعب العربي الفلسطيني من أجل العودة وتقرير المصير بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

(1) كلمة في السابع من نبسان عام 1983، لمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث