ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


معركة المستقبل العربي

 

ايها المناضلون البعثيون (1)

يا جماهير امتنا العربية المجيدة

في هذه الايام الخالدة، تحل الذكرى الرابعة والثلاثون لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، وعراق الثورة يخوض معركته العادلة المشرفة دفاعا عن أرضه وسيادته ودفاعا عن سيادة الأمة العربية، وعن شخصيتها القومية ووحدة مجتمعها في الحاضر والمستقبل.

واول ما يتبادر الى الفكر في هذه المناسبة هو التساؤل عمّا إذا كان ثمة من علاقة عميقة وصميمة بين هذه المعركة وبين ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي، والجواب الذي يأتي عميقاً وصميمياً من خلال أربعين سنة مرت على ظهور هذا الحزب، يؤكد بان ميلاد الحزب في ذلك الحين، كما هي معركة العراق اليوم، هما دفاع عن قومية الأمة العربية وشخصيتها الحضارية وقيمها الروحية في ماضيها المشرق، وعن حقها في التحرر والوحدة ة والنهضة وبناء مستقبلها الحضاري وأداء رسالتها الانسانية.

فذكرى التاسيس في هذا اليوم تلقي اضواء جديدة على دوافع تأسيس الحزب ومنابع فكره ومسيرته النضالية الطويلة، وما حققته من اشراقات ونجاحات وما تعرضت  

له من عثرات ونكسات وتآمر، حتى أوصلت الى تجربة مستقرة متوازنة، ناضجة ومشرقة، وقيادة فذة، حققت للعراق شعبا وقوات مسلحة هذا المستوى المرموق من الانجازات والمكاسب الجوهرية، توّجت بالبطولات الرائعة التي افرزتها المعركة، وبحالة النهوض الشامل، ايذاناً ببدء عهد جديد من القوة والمنعة واليقظة للامة العربية كلها.

وكما ان القادسية الجديدة تمد جسرا من الايمان والاصالة والبطولة، بينها وبين القادسية الاولى، كذلك فهي تمد جسراً من الوفاء الفكري والاخلاقي يصل بينها وبين نشأة الحزب والاجيال العربية الشابة،التي احدثت قبل اربعة عقود من السنين انعطافا حاسماً في مسيرة الثورة العربية، عندما شقت بين التيارات الفكرية المتصارعة من اليمين ومن اليسار، طريق العمل العربي الاصيل المستقل، طريق القومية الانسانية والاشتراكية العربية والعروبة المُجسِّدة لروح الاسلام وقيمه.

 

فالعلاقة بين التأسيس والمعركة علاقة حتمية وكاملة، لان معركة العراق هي اختيار للأسس التي قام عليها الحزب، وتدعيم لها وتعزيز وتجسيد للقيم الانسانية التي نادى بها منذ تأسيه وتدليل على صحة نظرته وتصوراته وطريقه.

فالحزب التاريخي هو الذي يكشف للامة في مرحلة حاسمة عن قدراتها الحقيقية وعن آفاق عملها ورسالتها في الحياة، وعن الطريق الذي تستطيع فيه ان ُتبلج اهدافها وتحقق ذاتها. وقد كان تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي كما هي معركة العراق اليوم كشفا ًعن القوى الكامنة في الشعب وتفجيرا لها بعمل جريء صعب يشبه الولادة، وهذا هو العمل التاريخي الخلاق، الذي ُيولد معه واقع ثوري جديد، وتبنى اجيال جديدة، وتتفتح آفاق جديدة للمستقبل.

ولقد كان البعث على موعد ا مع العراق منذ بداية التأسيس، عندما بادر البعثيون الاوائل منذ اليوم الثاني لثورة مايس 1941، الى تشكيل تنظيم لنصرة العراق، والمساهمة في معركته، وقد دعت بيانات الحزب الى اعتبار تلك المعركة مخاضا ً لبدء تاريخ جديد لان العراق قام ليحرر نفسه ويوحد العرب.

فالعراق أكد باستمرار إنه حصن المبادئ وارض البطولات وأمل الأمة والتعبير الحي عن ضميرها وإرادتها وطموحها، ومعركته اليوم هي امتداد متجدد لروح الانبعاث في الأمة.

 

ان عراق البعث ينوب اليوم عن الأمة العربية في الدفاع عن قوميتها وشخصيتها الحضارية، كما ينوب عنها في تحقيق حالة صحية من الثقة بالنفس والشعور بالاقتدار، لابد ان تنتشر في اوصال الجسد العربي كله. فأي جندي في جبهة القتال يعرف ويشعر انه يقاتل في سبيل الأمة العربية واستعداداً للمعركة الكبرى في فلسطين. ولم يكن العراق في يوم من الايام محققا ً كامل خصوصيته ومجسداً في الوقت نفسه أشمل مفهوم لعروبته الاصيلة وقوميته العربية الحديثة المتحررة، مثلما هو اليوم في هذه المعركة، ذلك انه عراق البعث، عراق المبادئ والاهداف الكبرى للامة.

 

انه لمدعاة للاطمئنان، ان يظل حزب البعث رافعا ً لواء القومية العربية والمدافع الاول عنها والمؤمن والمعتز بها، الوفي المخلص لها، بينما نرى الارتداد والتنكر يصيبان اكثر الانظمة المسماة بالتقدمية، والتي أدت تقدميتها الى رجعية جديدة، تتخذ التقدمية شعاراً تغطي به شعوبيتها،وبانتهازيتها واستهتارها بمقدسات الشعب وكرامته ومصالحه في سبيل التكالب على الحكم والاحتفاظ به بأي ثمن.

وانه لتأكيد لأصالة هذا الحزب وجديته ان يواجه في البدء، كما هو اليوم في معركة عراق البعث، العداء المتعدد المصادر للقومية العربية، وان يجد نفسه يدافع وكأنه يبدأ من جديد عن ابسط حقوق الوجود العربي ومقوماته، ليس تجاه الامبرياليين والصهاينة فحسب، بل ايضا تجاه من كان يفترض ان يكونوا جيرانا وأشقاء وعونا ً للامة العربية على اعدائها.

أليست العروبة هي المستهدفة قبل أية قومية اخرى وأية عقيدة اخرى من الاستعمار والصهيونية وكل قوى الشر والتسلط والاستغلال في العالم؟ أليس حقدهم عليها يرجع الى الحروب الصليبية والى ما قبلها، ولم نشاهد ان الغرب لاحق بعدائه شعبا بمثل الإصرار الذي لاحق به الأمة العربية؟ أليس بدافع هذا الحقد ومن اجل منع الوحدة العربية وتعطيل النهضة العربية اصطنع الغرب الكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين وأصبح قاعدة كبرى للتوسع والعدوان؟ أليست العروبة هي المستهدفة قبل غيرها، لانها تستطيع ان تجمع وتوحد الشعوب الاسلامية وشعوب العالم الثالث، ضمن منظور حضاري تقدمي يحفظ لكل شعب شخصيته القومية وسيادته ويقيم التعاون على أساس الحرية لا القسر وباتجاه التقدم والمستقبل لا بعقلية التخلف والفوضى؟

هذا هو قدر العروبة، قدر صعب وعظيم تدل صعوبته على عظمته وتنبئ شراسة العداوة التي توجه إليه وضخامة العقبات التي توضع في طريقه عن غنى الإمكانات التي يحملها وعن جدية الخطر الذي تتوجس منه قوى البغي على مصالحها.

ان إصطدام عراق البعث بالعداء الفارسي العنصري، ليس اذن سوى حلقة جديدة من حلقات تلك السلسلة من المواقف المعادية للأمة العربية وقوميتها ووحدتها ونهضتها المعاصرة، وهو عداء تركز على البعث، لان فكر البعث ونضاله قد عبّرا عن روح النهضة العربية.

فالبعث حزب قومي، ولكنه يختلف اختلافا نوعيا ً وجوهريا ً عن الاحزاب القومية التي سبقته وعاصرته، فهو حزب قومي تحرري، ثوري، إنساني ومفهومه للقومية ليس مفهوما مجرداً، بل هو مفهوم حي، مستمد من حقيقة الشعب وحقيقة أحاسيسه ونفسيته ومعاناته ومقوماته الروحية، فهو اذن مستوعب للتراث ولثورية التراث، فقط ارتبط هذا المفهوم القومي الجديد برؤية جديدة للاسلام، تعتبر الاسلام التجربة الثورية العربية الخالدة التي جسّدت العطاء الروحي والاخلاقي والحضاري للامة العربية في أعلى صوره واقصى مداه، فالنظرة الثورية الى التراث قد اعطت المفهوم القومي الجديد ابعاده الروحية والاخلاقية والحضارية، وجعلت منه رؤية صادقة لحقيقة الأمة في طور انبعاثها، تكشف انواع التعسف والتشويه فيما كانت تطرحه الماركسية والسلفية والفكر النازي والفاشي من مفاهيم حول القومية والدين والاشتراكية والحرية.

فشعور البعث بعظمة التراث العربي الروحي والحضاري هو الذي جعل مفهومه للامة يقترن بالاصالة والابداع وبالحرية والاستقلالية وبالأبعاد الانسانية والتقدمية المستمدة من طبيعة العصر، وهو الذي جعله ينشد الحلول الجارية الكفيلة بتحقيق الانقلاب الشامل والعميق في حياة العرب المعاصرة.

قوميتنا هي الاساس والمنطلق والغاية. نقدس قوميتنا ونقدس الشعور القومي الايجابي عند الشعوب الأخرى. ان ادراكنا لإنسانية قوميتنا أوصلنا الى تقرير حقيقة عامة هي حقيقة القومية، بالنسبة الى جميع الشعوب، فهي وسيلتنا للتعبير عن إنسانيتنا وممارسة قيمها، من اجلها بحثنا عن الحل الاشتراكي لكي نرفع الظلم الاجتماعي عن شعبنا لكي يعرف الشعب السعادة والعدالة والحرية، لكي تتفتح كل مواهبه وقدراته، ولكي يضع كل إمكاناته وقواه في بناء مجتمعه، ويعيد لامته مكانتها ودورها الحضاري لكي يساهم في بناء الانسانية الجديدة وينصر الحرية ويكافح الظلم والاستعمار والهيمنة.

ومن اجل قوميتنا ولكي يكون مجتمعنا صحيحا سليما أكدنا ضرورة الدين وانه حاجة ملازمة للنفس الانسانية التي تلبي مطلبا عميقا واساسيا فيها، وان الدين خالد وان كانت أشكال التدين ومستوياته خاضعة للتطور، وهكذا كان الدين الحقيقة الانسانية الثانية التي اكدها الحزب منذ بدايته، في وقت كان الفكر المادي الإلحادي يغزو عقول الشبيبة العربية مستغلاً ظمأ هذه الشبيبة الى التحرر والانعتاق والى الثورة والتجديد.

ومن اجل قوميتنا ولكي تكون صحيحة وصادقة ومكتملة الجوانب والأبعاد الروحية والاخلاقية والحضارية، نظرنا الى اعماق هذه القومية والى جذورها والينابيع التي تنهل منها، فوجدنا الاسلام أهم وأعمق حقيقة في تكوينها وانه روحها وافقها الاخلاقي والانساني.

لقد طرح فكر البعث ذلك كله في وقت شاعت فيه الدعوات التي تنكر القومية والدين او تشوههما وتستغلهما، وفي وقت كانت فيه الاشتراكية مطروحة كنقيض للقومية، وتيار الثورة والتجديد نقيضاً للاستقلالية والأصالة والتراث الروحي. فكان لابد ان يصطدم فكر البعث ونضاله بقوى وبأفكار كان بعضها مدفوعا بالخطأ والالتباس وبعضها الآخر مدفوع بها بغرض الإساءة وينطوي على العداء والتآمر. وها هي المعركة على حدودنا الشرقية تكشف عن موجة تاريخية من العداء المتجدد تطرح نفسها في صور جديدة من التشويه للمفاهيم وللقيم الروحية وللمعاني الثورية والحضارية.

ان الأمة العربية منذ بدء نهضتها المعاصرة قبل قرن ونصف وحتى المعركة الراهنة كانت تقف مدافعة،فهي تتلقى العدوان والغزو، وُتقتطع ارضها، وُتسلب حقوقها، وهي صامدة للموجات الاستعمارية والامبريالية والصهيونية، فقد كانت الهجمات على الأمة العربية من كل جانب وبكل الاسلحة لتفتيت قوميتها وشخصيتها، حتى الحركة الشيوعية وثورتها لم تعترف للأمة العربية وللقومية العربية بخصوصيتها، فقد صنفتها مع القوميات التي نشأت الشيوعية لمحاربتها، مع قوميات الغرب التوسعية الاستعمارية.

وبعد قرن ونصف من بدء اليقظة العربية الحديثة، وبعد أربعين سنة من نضال حزب البعث، تأتي المجموعة الحاكمة في ايران لتتهم القومية العربية بالتهم نفسها وهي لا تقف عند حدود اتهام قوميتنا، وانما لتعمل على تفتيتها والقضاء عليها، وانها يجب ان تزول لتفتح المجال امام التوسع الفارسي العنصري. فأمام هذا التحالف الذي يجمع الغرب المسيحي واليهودية الصهيونية والشيوعية الالحادية والعنصرية الفارسية المستترة بالإسلام تنكشف الهوية الحقيقية العميقة للمعركة التي يخوضها عراق البعث والتي نقلت النهضة العربية من مواقع الدفاع الى مواقع الهجوم، فهي بالرغم من صعوبتها وما بها من تعقيد، تبدو بالنسبة للاجيال العربية الثورية واضحة كل الوضوح، انها معركة المستقبل العربي.

ان النظرة المتعمقة تظهر ان هذه المعركة هي معركة عربية داخلية فرضها منطق الثورة العربية، بقدر ما هي معركة لدفع التآمر والعدوان من بلد مجاور، فهي ما كانت لتقوم لو كان العرب موحدين، ولو لم يبلغ التناقض والتردي في الوضع العربي حداً أصبحت معه الشعارات والأفكار التقدمية نفسها، بعد ان أُفرغت من مضمونها، غطاء للعجز وللتراجع والتقهقر وللتآمر على القوى الحية وقوى النهضة في الأمة.

فالشيء الطبيعي والمنطقي ان تأتي المعركة كضرورة تاريخية، وعملية انقاذ، وان يظهر العمل القوي الذي يهز الأعماق ويكشف عن الزيف والمرض ويقضي على المفاهيم الكاذبة الخادعة وعلى الرموز الانتهازية التي تقتات من هذا الخدع والتضليل، ليعاد الفرز الصحي من جديد وتصب قوى الأمة وقدراتها وإرادتها في المجرى الواضح الصحيح.

فالمعركة هي بالدرجة الأساسية داخل الأمة العربية، لمواجهة واقع التردي وبدء التحول الايجابي في الرد على تحدّيات النهضة العربية. والانتصار في هذه المعركة على العدو (الخارجي) هو في الوقت نفسه وبدرجة أهم بداية الانتصار على التناقضات العربية، لأن هذا الانتصار سيضع حداً فاصلاً وحاسماً لتزييف الافكار والشعارات التقدميّة والتحرريّة ولمخططات الاستسلام والتكيف المهين مع مخططات اعداء النهضة العربية.

فالمعاني الرئيسية لمعركتنا اليوم تتجلى اولا في انتصار فكرة القومية العربية على محاولات تفتيت الأمة العربية الى كيانات طائفية. وثانيا في كونها انتصاراً للعقل الحديث المتحرر الخلاق القادر على فهم روح العصر وروح الشعب، على العقل الخرافي المتخلف. وثالثا في كونها إنهاء لوهم تصدير الثورات وانتصاراً للوحدة العربية ولمفهومها الحضاري عن الخصوصية القومية. ورابعا هو الكشف عن استعداد شعبنا في العراق للعمل التاريخي المبدع، وهو في الوقت نفسه دليل على توافر هذا الاستعداد لدى الشعب العربي في مختلف اقطاره، عندما يتهيأ له ما تهيأ للعراق من شروط الانبعاث. فالمعركة هي في حقيقتها معركة الأمة العربية ومعركة الضمير العربي الحي ومعركة الشباب العربي الذي اندفع للمشاركة فيها وقدم فيها الشهداء على مذبحها مجسّداً بذلك تفتحاً في الوعي القومي ومؤشراً على الاستعداد لتحقيق شروط الانبعاث في كل اقطار الأمة.

واذا كان العراق بحق ينوب عن الأمة كلها في هذه المعركة، وأثبت يوماً بعد يوم بأنه قادر على حسمها لمصلحة مجموع الأمة ولحساب مستقبلها، فان مشاركة كل المناضلين العرب فيها، هو استكمال لثورية هؤلاء المناضلين وتعزيز لانبعاثهم، بقدر ما هو تعبير عن الوفاء لهذا القسم العزيز من الوطن العربي، الذي حمل أعباء معركة الأمة كلها وأناب عنها بإيمان حَمَلة الرسالة الاول، وهي كذلك تمهيد وتهيئة لخوض المعركة الكبرى في فلسطين لان الأمة لا يمكن ان تدخل معركتها المصيرية على ارض فلسطين وهي في حالة الضعف والانقسام والتمزق واليأس والتردّي غير واثقة من نفسها ومن قدرتها على الانتصار. ثم ان هذه المعركة هي انتصار للعروبة والاسلام، ذلك ان البعث نظر اليهما منذ البدء على انهما حقيقة واحدة، فلا بد ان تؤدي معركة العراق الى إرساء أسس صحيحة وسليمة للعلاقة بين الأمة العربية والشعوب الاسلامية، تقوم على الأخوة العميقة والروابط الروحية والتاريخية والاحترام المتبادل لقومية كل شعب، وسوف تكشف لهذه الشعوب، ان الذي يدفع المجموعة الحاكمة في ايران لمخاصمة العراق ومعاداته ليس الاسلام حتما ً ولكنها أطماع التوسع والسيطرة، وان تأييدها الشكلي لقضية فلسطين هو غطاء لعدوانها على عروبة العراق وعلى وحدته وعلى الوحدة العربية، ولا بد ان تكشف المعركة للشعوب الاسلامية عن الوجه الحقيقي للثورة العربية التي يكون الاسلام روحها وقيمها الانسانية وافقها الحضاري.

كما ان معركة القومية العربية سوف توضح لتلك الشعوب الاسلامية الصيغة الحية الواقعية للعلاقة بينها وبين الأمة العربية وبين ثوراتها وبين الثورة العربية، ولا شك في ان ذلك يعني بدء مرحلة جديدة من التفاعل والتعاون الخصب بينها وبين العرب.

ورغم ما أفرزته هذه المعركة من بطولات عراقية خالدة ومرؤات عربية رائعة فان العراق لم يكن يريدها وانما أُلجىء اليها واضطر الى دخولها اضطراراً. فكم من مرة أعلن قائدها اننا كنا نتمنى لو لم تحصل ضناً بالدماء الغالية وحرصاً على روابط روحية وتاريخية كنا نأمل ان تتعزز بعد التغيير الذي حصل في ايران وان تأخذ سبيلاً جديداً تحدده النظرة الثورية وتسوده الروح الاسلامية الحقّة ويكون قدوة للشعوب الأخرى في علاقات الجوار والتعاون. أليس هذا هو منطق المبادئ الاسلامية وهو نفسه منطق الثورة العربية الحديثة؟

فلا خوف على الاسلام لان الاسلام جوهر العروبة وملهم ثورتها الحديثة وسوف يتيح له انتصار العراق ان يخطو خطوة جديدة حاسمة على طريق انبعاثه وتجدده بتحريره من محاولات استغلاله لتغطية نزعات وأطماع ليست منه في شيء، وسيرى العرب والمسلمون ان السير الجدي باتجاه تحرير فلسطين قد بدأ منذ تحقق هذا الانتصار وأشاع روح النهوض في جسد الأمة العربية. حتى ايران فانها سوف تخرج من هذه المعركة متحررة من الأوهام والخرافات والالتباسات والمأزق التي ُوضعت فيها، لأنها لن تجد طريقها الصحيح الا بالتلاقي والانسجام مع الثورة العربية.

لقد وحدت هذه المعركة بين العراق والأمـة العربية بشكل نادر قلما توافر مثله، لأنها اخترقت جدران التجزئة وتحدتها فهي في المقاييس القومية الثورية معركة الأمة بكاملها ومعركة الحرص على دور الأمة من خلال الدفاع عن العراق ووحدة المجتمع العراقي، فهي معركة الوحدة لان العراق في موقع متقدم يستطيع ان ينهض بالاعباء القومية وينوب فعلا ً عن الأمة العربية في ظل الأوضاع العربية الراهنة. وهي معركة الوحدة كذلك، لأن ما تحقق للعراق من نصر، هو تعبير عن حالة نهوض حقيقي يمكن ان يشمل الأمة العربية كلها في وقت غير بعيد، ولان الوحدة لا يمكن ان تتحقق الا في حالة النهوض، فالعراق ومعركته وانتصاره هو تعبير ُمبكّر عن حالة نهوض عربي عام. هو ظاهرة تاريخية تطبع المرحلة العربية، وما كان للعراق ان يدخل مثل هذه المعركة وان يحقق هذا المستوى الرائع من الانتصار، لولا تفاعله العميق مع روح النهضة العربية ومع الوجدان العربي. وهي معركة الاستقلالية لانها أكدت على احد الأسس البارزة في نظرة البعث وعلى اهمية الثقة بالأمـة وبقدراتها، ورفض التبعية والاعتماد على الذات، فهي معركة العروبة الواثقة بنفسها المؤمنة بقضيتها المتطلعة نحو بناء العلاقات مع العالم على اساس الحرية ومصلحة الجماهير وتغليب منطق القيم الاخلاقية والانسانية على منطق القوى المادية والعنصرية.

 

ايها البعثيون الابطال

يا أبناء عراق البعث

لقد وضع حزبكم منذ ان وجد على ساحة النضال العربي هدفاً له وقانونا يسترشد به، هو أن يعبر عن ضمير أمتكم الخالدة وان يقترب اكثر ما يستطيع الاقتراب من روحها وتراثها وأصالتها، وان يحس بقلبها ويفكر بعقلها ويرى بعينيها، وأن يتلمس المستقبل على ضوء مصلحتها وحاجتها المُلحّة الى التحرر والتقدم والانبعاث، ذلك كان رهانه مع التاريخ وهو مطمئن الى حكم التاريخ والأجيال القادمة.

وكان الحزب يشعر منذ خطواته الاولى ان قدره وقدر الأمة متشابهان ومتوافقان. وكما ان الأمة كانت هدف اعداء شرسين كثيرين، يتآمرون عليها ويفترون على تاريخها ويحاولون طمس شخصيتها وتقطيع أوصالها وتزوير إرادتها، كذلك كانت محاولاتهم في ضرب الحزب والتآمر عليه وتشويه فكرته وتزوير هويته. ولكن الايمان بالأمـة الذي ينبع من الايمان بالحق كان يمدّ الحزب دوماً بقوة الصبر والمقاومة وينتهي به الى الانتصار وجلاء الحقيقة التاريخية الاصيلة، واذا كان حزبكم، قد استطاع ان يشق طريقه وسط المحاربة الشرسة التي واجهها من كل جانب، وان يصمد ويستمر طوال أربعة عقود من السنين، وان يناضل، وان يحقق الكثير لجماهير الشعب وقضية الأمة، فإنما ذلك، لانه حافظ على الصلة بهذا المنبع الذي نهل منه منذ بداية طريقه، منبع الألم الذي هو منبع الحب، حب الأرض والتاريخ والشعب وتحويل الألم بواسطة النضال الى ثورة عميقة مبدعة، والى حياة صاعدة لكل العرب. وسيبقى وتر الألم عنصراً أساسيا في نشيد ثورة البعث، وستبقى نبرة الألم واضحة متميزة في صوتنا حتى عندما نكون في أوج فرحنا وانتصارنا لأننا لا ننسى ولا يجوز ان ننسى مشقة الطريق التي قطعناها على امتداد أربعة عقود في اكثر من قطر عربي، والآلام المادية والمعنوية التي عرفها المناضلون والتضحيات التي قدمها الشهداء.. سيبقى الألم ماثلا في أعيادنا وأفراحنا وانتصاراتنا، لأننا لا ننسى ولا ينبغي لنا ان ننسى ما تعانيه الجماهير العربية في بقية أقطار الوطن العربي وبخاصة شعبنا في سورية من آلام القمع والقهر والإذلال على يد المتسلطين عليه والمتنكرين للروابط القومية العربية ونداء التاريخ، وما تكابده مصر العزيزة وشعبها من جراء امتهان كرامتها وتزوير ارادتها والعبث بمصلحة جماهيرها ومستقبل اجيالها على يد نظام السادات، وما يرتكبه نظام القذافي من مآسي بحق الشعب الليبي وخيانة سافرة بحق الأمة العربية وتخريب لعلاقاتها مع الشعوب الافريقية الصديقة، وما يتعرض له شعبنا العربي في لبنان من استشهاد يومي على يد العدو الصهيوني وصنائعه والمتواطئين معه، وما يتحمله شعبنا في فلسطين من فظائع الاحتلال الصهيوني بصمود رائع أصبح مضرب المثل.

 

يا أبناء شعبنا في العراق والوطن العربي

لقد برهن عراق البعث من خلال تجربة جيشه العقائدي عن خطوة متقدمة رائعة على طريق صنع الأداة التاريخية المتكاملة، واستطاع ان يحوّل المؤسسة العسكرية الى مصنع تاريخي للبطولات الفذة والى مؤسسة تربوية تخلق الشخصية الواعية المستوعِبة لمهماتها التاريخية. لذلك استطاع عراق البعث ان يفجّر كل الطاقات القتالية المبدعة لدى جنوده الأبطال وضباطه الأشاوس، وان يجعل تلك الطاقات في حالة استلهام دائم للتراث القومي وصور البطولات التي يحفل بها التاريخ العربي، وان يؤهلها للتعامل بكفاءة مع علوم العصر وتقنياته الحديثة. لذلك كان انتصار جيش العراق تعبيراً عن اقتدار يؤهله لأعظم المهمات القومية ولمواجهة جميع التحديات التي تقف في وجه نهضة الأمة.

فالجماهير العربية رأت في ملحمة جيشنا العقائدي حلم التحرير يتحقق، ووجدت في انتصاراته الرائعة شيئاً يثير الاعجاب بقدر ما يدعو الى المحبة والفخر، فقد ملأ نفسها بالثقة، بالمستقبل العربي وبحتمية الانتصار وتحقيق الاهداف وتحرير فلسطين، فلهؤلاء الشجعان الذين قدّموا للأمة أول انتصار عرفه تاريخها الحديث كل التقدير والمحبة والتهنئة، ولشهدائنا الذين جادوا بأرواحهم على طريق النصر تحية الإجلال والإكبار. ولاشك في ان هذه التضحيات التي ُبذلت من اجل الدفاع عن حقوق الأمة وعن حرية الوطن وعن حمى الثورة، سوف تثمر أضعاف ما تحقق من نصر، لانها سوف تشكل نداء لرفاقهم في السلاح في الوطن العربي، لان يضعوا أسلحتهم في موقعها الصحيح مع المبادئ ومع الجماهير العربية في وجه أعداء تحرير العرب ووحدتهم وسيادتهم. ان ما تحقق في ثورة العراق ومعركته هو نوع من المصالحة بين الأمة وذاتها بينها وبين واقعها، بين شعبها وبين قيادتها، فالأمـة التي انجبت البعث قد ولدت القائد التاريخي من داخل البعث ليعبّر من خلال استلهام روح الأمة والقيم العميقة في تاريخنا، ومن خلال أرقى أشكال التعامل مع قوة السلاح، ومع قوة المبادئ الإنسانية ومن خلال السلوك الحضاري، لكي يعبّر من خلال ذلك كله عن الدور التاريخي الذي ينهض به العراق والبعث والأمة. ان القائد التاريخي هو الذي يدرك معنى اللحظة التاريخية ويعطي لهذا المعنى قوة الفعل التاريخي.

 

تحية لشهدائنا الابرار الذين رسموا طريق النصر.

تحية لجيشنا العقائدي صانع البطولات وحامي الشرف وسيف المبادئ القومية.

تحية لشباب العراق الذين حققوا من خلال جيشهم الشعبي ونضالهم المتعدد الابعاد الصلة الحية بين الشعب والمعركة.

تحية للأدباء والفنانين والشعراء والمفكرين الذين أجادوا استخدام السلاح والكلمة.

تحية لشعب العراق كنز الأمة الحقيقي المتفجر بالعطاء الثوري،

تحية تقدير لأبناء العروبة الذين شاركوا في معركة القومية العربية في العراق والذين ارتفعت مبادراتهم الى مستوى العمل البطولي وتكللت تضحياتهم بالشهادة.

تحية للمرأة العراقية التي استطاعت ان تحقق صورة المرأة العربية في تاريخها البطولي.

تحية إعجاب وتقدير وإكبار للأمهات والزوجات والأخوات اللواتي استقبلن الشهداء بالأهازيج وكنّ على مستوى القدوة للمرأة العربية في هذه المرحلة التاريخية.

تحية لعمالنا الذين حققوا من خلال انتاجهم، الصلة الحية بالمعركة، وفلاحينا الذين كان حماسهم للمعركة منسجماً مع تعلقهم بالارض وإدراكهم لمعنى تحرير الأرض.

تحية للروح الوطنية التي تجلت في أقوى اشكال وحدتها وأعمق معانيها، وجعلت العراق نموذجا ً لوحدة قومياته وطوائفه وحقيقة مشرقة معبرة عن روح لمعركة..

تحية للمناضلين البعثيين الذين وضعوا مصيرهم في المعركة كتعبير عن صدق إحساسهم بقومية المعركة وتعلقهم وإعجابهم بجدارة التجربة التي يقودها عراق البعث.

تحية لقائد ا المعركة الرفيق صدام حسين الذي حقق من خلال تجربة ثورة البعث في العراق، ومن خلال هذه المعركة صورة العراقي الأصيل والعربي الجديد والانسان القادر على حمل الرسالة.

(1) كلمة في السابع من نبسان عام 1981، بمناسبة الذكرى الرابعة و الثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث