ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


المؤامرة والرد التاريخي

 

أيها المناضلون البعثيون(1)

يا جماهير أمتنا العربية المناضلة

 

ولد حزب البعث العربي الاشتراكي في جو عربي قومي، منفتح على أرجاء الوطن الكبير أوسع انفتاح، ومتصل بماضي الأمة ومسرح بطولاتها الخالدة أعمق اتصال ومتطلع الى صورة مستقبلها وتحقيق إمكاناته بكل اندفاع الشباب وروحه الثورية المتحررة. ففي نظر البعثيين لم يكن ابعد قطر عربي في المشرق او المغرب، بأقل قربا الى قلوبهم وتفكيرهم من القطر الذي يناضلون على ساحته. و في تجربتهم النضالية، كان تراث أمتهم الروحي والحضاري اشد حضورا بينهم من الحاضر نفسه، كما ان المستقبل العربي الذي صاغوا صورته من عصارة فكرهم، وصدق معاناتهم، تحوّل لديهم إلى حاضر حي يستلهمون قيمه، ويطبقون مقاييسه، وهكذا استطاعوا ان يكونوا وسط الضياع والجمود والإصصناع، تلك النواة الحية ذات الجذور الأصيلة، والطاقة الخلاقة، التي كتب لها، حدها من بين شتى المحاولات ان تنمو وتستمر، وتكتسب الملامح المميزة، والقدر الخاص الذي يلتقي في الأعماق بقدر الأمة، وينصهر فيه، ويخفق مع نبضاته.

وفي هذه اللحظات التي يدفع فيها الخوف على المصير أبناء الأمة من كل قطر، ومن أي موقع، ومن أي رأي واجتهاد، الى التنادي، والتعاطف ورصّ الصفوف، للوقوف في وجه الخطر، يجد المناضلون البعثيون في إحياء الذكرى الثانية والثلاثين لانعقاد المؤتمر الأول لحزبهم، الذي سبقته ومهدت له سنوات من النضال الفكري والسياسي على ارض سورية العربية، مناسبة حافزة لتجديد الصلة، وتحقيق التفاعل مع تلك الروح الثورية والروح القومية الشاملة الوحدوية التي ميزت نشأة الحزب الأولى. تلك النشأة التي أكسبته مناعة وتوقدا فكريا وأخلاقيا، مكن نواة الحزب خلال سنوات متواصلة من النضال ان تصل الى قلب الجماهير الشعبية وان تنقل إليها فكرتها، وتحرك فيها روحها القومية، وإمكاناتها الثورية، وآفاقها الحضارية وان تجتاز الصعاب والمحن، مجردة من كل قوة اصطناعية، ومن كل نفوذ اجتماعي، إلا من إيمان مناضليها، بفكرتهم واندفاعهم في سبيلها. وانه لمِمّا يزيد صلة نشأة الحزب بحاضره، قوة وفاعلية، ان حزب الأمة العربية، حزب البعث العربي الاشتراكي، يقف اليوم وقفة تأهب لولوج مرحلة جديدة حاسمة من مسيرة نضاله، فيها الأخطار المكثفة والمؤامرات التي يُعدها الاستعمار والصهيونية على الأمة العربية ومستقبلها، وفيها أيضا الأمل والتفاؤل، بما بلغه النضال العربي، والوعي القومي الثوري، من تقدم وعمق عند الجماهير العربية الكادحة وطلائعها الثورية في الوطن الكبير.

أيها الرفاق المناضلون

يا أبناء شعبنا العربي

ان المؤامرة التي دبرتها الامبريالية الأميركية، وحليفها الكيان الصهيوني، وخططت وعملت لها منذ سنين للوصول الى عزل مصر عن معركة المصير العربي، وبالتالي فصلها عن الجسم العربي، بغية تمزيق هذا الجم وتشتيته.. هذه المؤامرة هي اخطر ما توصل إليه أعداء الأمة العربية منذ قيام دولة الاغتصاب الصهيوني في تآمرهم على أمتنا. وان واجب الجماهير العربية وطلائعها الثورية، وجميع المناضلين والمثقفين العرب ان يولوها الاهتمام المتناسب مع خطورتها، وان يكون ردهم عليها معبرا عن وحدة الأمة، ووعيها المتعاظم.

فالمؤامرة الراهنة لا يقتصر هدفها على عزل مصر عن جسم الأمة العربية كما يتردد القول، وإنما تستهدف محاربة الثورة العربية، والعمل على تغيير خط النهضة العربية وإرجاعه الى الوراء، وجر الأقطار العربية الواحد تلو الآخر، الى التبعية للامبريالية والتعامل مع الكيان الصهيوني، وفرض التجزئة بشكل هجومي، أي محاربة كل العوامل المساعدة على الوحدة. لان هذا كله من شروط بقاء الكيان الصهيوني، وازدهاره وبقاء السيطرة الامبريالية في المنطقة.

 

ونحن إذ ندعو جماهير امتنا الى اليقظة والحذر، والى التعبئة والنضال العارم الشامل، ضد هذه المؤامرة الخطيرة، نعلن في الوقت نفسه إيماننا العميق بحتمية فشلها. لان الجانب الأكبر فيها مصطنع. فهي ضد طبيعة الأشياء. ضد التاريخ الطويل العريق لهذه الأمة، وضد الموقع البارز لمصر في هذا التاريخ العربي، القديم والحديث على السواء، وضد المصالح الحيوية للوطن العربي كله، بل للمنطقة كلها، بما فيها الأقطار والشعوب المجاورة للعرب. او ليست المفارقة كل المفارقة في ان تتحرر ايران من قبضة الامبريالية والتغلغل الصهيوني وتلتحم بالقضية الفلسطينية، فيما تقع مصر في قبضة الامبريالية والصهيونية، وتصبح معهما في الصف المعادي للأمة ولقضيتها؟.

ان المؤامرة الأخيرة كانت واضحة كل الوضوح منذ زيارة السادات للقدس، لأنها كانت اعترافا للعدو بشرعية اغتصابه، ثم توالت الخطوات الخيانية بعقد اتفاقات كامب ديفد التي كرست القبول بكل شروط العدو الغاصب، وأخيرا بتوقيعه معاهدة الصلح الخيانية. وكان الأعداء مطمئنين الى ضعف الرد العربي، وبطئه وعجزه عن تحريك الجماهير في مصر، دون ان يقيموا وزنا لإرادة الشعب العربي، لأنهم كانوا مطمئنين الى وجود ظاهرتين موظفتين لصالح مخططاتهم، هما غياب الجماهير، وغياب الوحدة.

لقد استهدف أعداء الأمة العربية دوما، دور مصر الوحدوي، وأرادوا تعطيله، بالحرب أكثر المرات.. وبالسلم هذه المرة.. سلم الخيانة والعمالة والذل.

فقد حملت النهضة العربية الحديثة في مصر منذ بداياتها بذور الوحدة، مما أثار مخاوف الغرب الاستعماري، فتصدى لها بالسلاح والحرب. فدفع شعب مصر الثمن من دماء أبنائه. ووصل التآمر الاستعماري الى حد إقامة الكيان الصهيوني العنصري عقبة بالغة الخطورة لكي يمنع الوحدة، ويؤخر النهضة، ويقيم حاجزا جغرافيا وبشريا بين مصر والمشرق العربي. ودفعت مصر و شعبها ثمن التصدي لهذا الحاجز الخطر دما غزيرا في أربعة حروب، حتى أصبح في كل بيت شهيد.

وكان اللقاء التاريخي بين حزب البعث وثورة عبد الناصر مشروعا قوميا كبيرا لفك حصار العزلة وقهر الحاجز المصطنع. وأثمر أول تجربة وحدوية في العصر الحديث. ولكن التهيئة والوسائل والأدوات والعقلية لم تكن بعد في مستوى المشروع الكبير، فلم يصمد طويلا لمؤامرات الأعداء وعملائهم.

لقد كانت عبقرية عبد الناصر تكمن في إدراكه لحقيقة مصر العربية، وفي العمل على الكشف عنها واعتمادها في سياسته. ولم تكن مؤامرة الأعداء في حزيران عام 1967، والهزيمة العسكرية التي ألحقوها به لتثنيه عن خطه الوحدوي الذي آمن به. ولكن غيابه المفاجئ أتاح للأعداء ان يقتنصوا الحاكم المستسلم لإرادتهم، فتنازل لهم بالمجان ليس عن دور مصر الوحدوي والقيادي فحسب، بل عن أسباب القوة والنهضة، وكل ما يعتبره الامبرياليون والصهاينة قابلا لان يساعد مصر على استعادة دورها هذا. فهم لا يراهنون على بقاء السادات رهانا جديا، ولكن اعتمادهم هو على المواقع الاساسية التي حصلوا عليها بواسطته، على كل الأصعدة: العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والتي تؤول كلها الى إضعاف مصر، وتفسيخ مجتمعها بشكل يصعب عليها معه، ان تقوم بأي دور ايجابي في المحيط العربي.

فإذا سألنا أنفسنا: هل نخشى على مصر من خيانة السادات، ومن تآمره مع الامبريالية والكيان الصهيوني بقصد إخراجها من صف الأمة العربية، ووضعها في صف أعداء هذه الأمة؟ الجواب، نعم، وإنها لخشية كبيرة تستوجب اليقظة والتعبئة والإعداد لمواجهة شاملة قد تنتظرنا في مستقبل قريب!

ولكن: هل نخشى على شعب مصر؟ هل يمكن ان ينخدع؟ هل يمكن ان يستسلم؟ نجيب: لا، بكل الثقة واليقين.

لان الارتداد عن خط مصر الوحدوي، وعن دورها القيادي في النهضة العربية يتناقض مع الحقائق الموضوعية للتاريخ والنضال. وهذه المؤامرة خدعة مفضوحة ومصطنعة لأنها، بمحاولتها إلغاء دور مصر العربي، إنما تتطاول على التاريخ، وتصطدم بحقيقة مصر وبجوهرها النضالي. ولكن المؤامرة لم تكن ممكنة لولا وجود ثغرات في الوضع المصري لا تنفصل عن سلبيات الوضع العربي بشكل عام، تتمثل أكثر ما يكون في التجزئة.

فالتجزئة هي التي سمحت للمنحرفين ان يستغلوا السلبيات للتذرع بها من اجل النكوص والتخلي عن دور مصر في النهضة العربية.

ونحن إذ نجدد إيماننا الذي لا يتزعزع بوطنية شعبنا العربي في مصر، وبحتمية فشل هذه المؤامرة، فإننا نعتبر ان تغييرا أساسيا وجوهريا يجب ان يدخل على حياة العرب منذ الآن. كما يجب ان يدخل هذا التغيير على منطق الثورة العربية وعملها. ثورة الوحدة يجب أن تبدأ، وكذلك ثورة الجماهير العربية للمطالبة بالوحدة ولفرضها بقوة النضال. مرحلة جديدة من النضال الوحدوي، أساسه الحرية، يوحد الأرض، ويوحد الشعب، ويوحد الإنسان العربي مع نفسه، وينقذه من ازدواجية الشخصية التي أوجدها الخوف والجهل والتآمر.

وهذا التحول الجذري يجب ان ينصب على محاربة التجزئة بعقلية وأساليب جديدة فعالة، تحطم هذه القدسية المصطنعة والبالغة الخطورة لمفاهيم التجزئة الراهنة، وللحدود الإقليمية، ولمفهوم الكيانات القطرية. هذه المفاهيم والكيانات والحدود التي أخرت حتى الآن بلوغ الحد الأدنى من وحدة النضال بين الأقطار العربية في المعارك المصيرية التي تهدد وجودهم وبقاءهم.

 

أيها الرفاق البعثيون

يا جماهير أمتنا العربية المناضلة

ان التجزئة وأسوارها الشاهقة، هي التي كانت تحول دوما دون ان تتجمع القوة الجماهيرية العربية. وان ما تطلبه الجماهير في هذه المرحلة، هو التطابق بين الحقائق التي يكشف عنها التحليل السياسي لهذا الظرف المصيري، و بين الممارسة، فمؤامرة التسوية والصلح مع الكيان الصهيوني، وتصفية قضية فلسطين لصالح الإمبريالية والصهيونية، هي التحدي المهدد لوحدة الأمة ومصيرها، وهي القضية المركزية التي تتطلب جوابا منبعثا من ضمير الأمة، ومن أرادة الجماهير العربية المكبوتة، المتطلعة الى دورها التاريخي. والجواب هو حتمية الوحدة فحتمية فشل المؤامرة له تعبير وحيد هو تحقيق الوحدة، وتحقيق حالة جماهيرية جديدة في الوطن العربي.

فالوحدة العربية الآن تأخذ معناها الثوري الحاد بان تكون هجومية ومتقدمة دوما الى امام، فهجوميتها هي الشرط الضروري لانتصارها على المؤامرة، وللدفاع عن بقائها كحركة تاريخية.

ان اللحظة التاريخية تتطلب حدوث تحول جذري لدور الجماهير في الواقع العربي، لكي تكون الوحدة وحدة نضال وكفاح، وحدة دفاع عن المصير والمستقبل، وعن كل ما يحمله المستقبل من آمال وإمكانات وطاقات تزخر بها الأمة العربية وأجيالها الصاعدة. فوحدة صحوة الضمير والاضطلاع بالمسؤولية هي وحدها الجواب على المؤامرة الكبرى على الأمة.

انها وحدة الجماهير الكادحة التي تعيد للنضال العربي حرارته، وتحتضن الجماهير الفلسطينية المقاتلة، وتحرك الجماهير المناضلة في مصر، وتزيد في عزلة السادات ونظامه الخائن. الوحدة التي تعطي العروبة وجهها الحضاري الحديث، ومضمونها الشعبي الديمقراطي، وتتجاوب مع أعمق حاجات الجماهير، وظمأها الى العادل والحرية، والى الكرامة الإنسانية والقيم الروحية والأخلاقية التي تتضمنها فكرة الرسالة.

وهي الوحدة التي تتعاطف معها وتتضامن، حركات التحرر في العالم الثالث بشكل خاص، والتي تحظى بدعم القوى الاشتراكية والتقدمية المؤمنة بحق الشعوب.

 

أيها الرفاق البعثيون

يا أبناء شعبنا العربي العظيم

ان خصوصية الثورة العربية تكمن وتتلخص في الوحدة وعقيدتها. فالثورات لابد ان تبدأ في قطر بحكم واقع التجزئة في الوطن العربي. وقد تتقنع التجزئة بأقنعة متعددة دفاعا عن بقائها. وقناع التقدمية والاشتراكية والتحديث والتحضر، ليس اقل تلك الأقنعة خبثا وتمويها.

وليس غير الحزب الثوري ذي العقيدة الوحدوية العلمية بقادر على دحر التجزئة وملاحقتها حتى آخر معاقلها، وفضح حججها، ومغالطاتها، وتمزيق أقنعتها المتعددة الأشكال والألوان.

فقد أدرك حزبنا خصوصية الثورة العربية التي تفرض التمييز بين (ثورة قطر) وبين (الثورة العربية في قطر). ففي حين ان الأولى هي ثورة انتهت وأصبحت نظاما، فان الثورة العربية في قطر تعني ثورة دائمة، ما دامت التجزئة قائمة، وهي تحول القطر الى قاعدة انطلاق وإشعاع لفكرة الوحدة، والربط الحي بين الوحدة والحرية والاشتراكية.

وإذا كانت خصوصية الثورة العربية تكمن وتتلخص في الوحدة وعقيدتها، فان تحقيق الوحدة لا يمكن ان ينفصل عن الحزب الذي أنتجته الأمة، والذي اعتبر ان الطريق التي لا توصل الى الوحدة هي طريق ضالة لثورة ناقصة او مزيفة، فحزب الوحدة يعود الآن الى نفسه والى وحدته عن طريق وحدة الوطن والأمة. وبتحقيق الوحدة، يسترجع البعثيون شخصيتهم القائمة منذ البدء، على هذا الأساس، فتتحقق هذه الشخصية وتنتعش وتتفجر في هذا الجو الصحي المنقذ، بعد ان عانت حركة البعث من جرح التجزئة والانقسام أمدا طويلا. وإذا بالخطر الكبير والألم العميق، إضافة الى تعلقها بأهدافها القومية الكبرى، يضعها امام مسئولياتها من جديد فتتنادى لحمل عبء الوحدة وشرفها. لأنها بتصديها لأعتى الأعداء في أشرس هجمة لهم على امتنا، إنما تجعل من وحدتنا منطلقا لتوحيد الأمة والانتقال بنضالها إلى مواقع الهجوم، ويرتفع ببنيانها الداخلي الى المستوى المتكافئ مع العمل التاريخي الذي ندبت نفسها له.

ان ولادة الوحدة في هذه الظروف هي الولادة المثلى. لان الوحدة و هي اهم وأعلى هدف من أهداف الثورة العربية ينبغي ان تعكس الظروف المصيرية للأمة. أي ينبغي ان تكون صورة الأمة في حالة النضال والصراع من اجل الوجود، ومن أجل تحقيق الذات، وان تعكس في ان واحد ضرورة الاندفاع الثوري، ومستوى النضج الذي بلغته الثورة العربية في هذه المرحلة.

ان الوحدة التي تشكل الجواب الوحيد على المؤامرة، هي الوحدة التي تكون تعبيرا عن الثورة العربية وعنوانا لإشعاعها، انها الوحدة التي تخلق أملا للجماهير العربية في كل مكان، يعزز صمودها، ويجعلها تلتقي بحقيقتها، انها الوحدة الاشتراكية التي تنقذ الاشتراكية من محاولات الإلهاء عن الوحدة، او طرح نفسها بديلا لها. انها الوحدة المقاتلة التي تتجه نحو تحرير فلسطين.

 

أيها الرفاق المناضلون

أيتها الجماهير العربية المناضلة

ان الثورة العربية وهي تدخل مرحلة النضج بارتكازها على دعامتي: الأصالة والحداثة، وبفهمها الثوري لتراثها الروحي الخالد، مطالبة بان تستشرف في مثل هذه الظروف المصيرية دورها الطليعي بين الشعوب الإسلامية كجزء أساسي من دورها الحضاري في العالم.

وفي يقيننا ان الشعوب الإسلامية تبادلنا مشاعر الأخوة، والتنبه الى أخطار المؤامرة الكبرى على القضية الفلسطينية، وتنظر الى الأمة العربية وثورتها المعاصرة، نظرة أمل ورجاء واستلهام واقتداء، تدرك بالتجربة التاريخية الطويلة ان عزّ الإسلام مرتبط بعزّ العرب.

ونحن كعرب، نعتز بعاطفة القربى تجاه الشعوب الإسلامية التي حمل إليها الإسلام مع العقيدة الدينية شيئا من الروح العربية... وأواصر القربى هذه ترتب على الأمة العربية مسؤوليات تجاه هذه الشعوب في كل الأحوال. فكيف إذا كانت في حالة ثورة على الظلم والفساد وفي سبيل التحرر من الاستعمار، ومن كل ما يعوق الجماهير الشعبية عن التقدم. لذلك فنحن نستقبل الثورة الشعبية في ايران بالفرح العميق، وبالشيء الكثير من التعاطف. فحيث يكون الإسلام تكون العروبة وعبقريتها. إذ لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فالإسلام روح العروبة، ومكون شخصية الأمة العربية، ومع ظهوره دخلت القومية العربية مرحلة جديدة ناضجة وحاسمة. حتى ليمكن القول بأنها خلقت مع هذا الحدث التاريخي العظيم. فالعرب أصبحوا مع الإسلام أمة عظيمة، ولكن الأمة العربية هي التي حملت رسالة الإسلام، وقوته من قوتها، كما أن ضعفها يضعفه. وليس غريبا أن تظهر ثورة الإسلام اليوم في أكثر الشعوب الإسلامية التصاقا وامتزاجا بالأمة العربية وتأريخها وحضارتها، وأن تقف ثورة ايران هذا الموقف المشرّف الحاسم من القضية الفلسطينية، وأن تكون مهمة تحرير بيت المقدس من الصهيونية المرتبطة بالإمبريالية، هي أساس الرابطة الكفاحية التي تستند إلى مفهوم ثوري للإسلام كحركة جهاد ونضال من أجل القيم الإنسانية، قيم الحرية والتحرر والعدل الاجتماعي والمساواة بين الشعوب.

وهكذا تقف الأمة العربية في مواجهة المؤامرة الكبرى على مصيرها اليوم، متسلحة بثقتها بنفسها وإيمانها بجماهيرها، وبوحدة الثورة العربية والثورة الفلسطينية، وبالدعم الذي تحظى به من الشعوب الإسلامية وحركات التحرر في العالم الثالث والأنظمة الاشتراكية، وبخاصة الإتحاد السوفيتي، حيث تقوم العلاقة مع هذه القوى الشقيقة والصديقة والحليفة على أساس إدراك الخطر المشترك الذي يحتم الانطلاق في هذه المرحلة من منظور استراتيجي جديد يطرح الوحدة كمرحلة حتمية ذاتية وموضوعية، وكجواب حاسم على مخططات الأعداء، وهجمتهم الضارية على الأمة العربية.

إن الردّ الأقوى على المؤامرة هو الوحدة بين العراق وسورية، تلك الوحدة المتوجهة نحو خوض معركة المصير العربي في فلسطين، وما يعنيه ذلك من التقاء وتفاعل وتوحّد مع نضال شعب فلسطين، وحركة المقاومة الفلسطينية. وهذا ما أدركته الجماهير العربية بحسها الثوري، وعبرت عنه بالإنتعاش والفرح والتفاؤل، وهو الردّ الثوري الحقيقي، لأنه لا يتكافأ مع الأخطار المداهمة فحسب، بل يشكل النواة الصلبة والمشعة للتضامن العربي. وهو أخيرا الظاهرة الأكثر تأثيرا في جماهير مصر العربية، تعزز ثقتها بنفسها، وارتباطها العربي المصيري، وترفع من قدرتها على مواجهة نظام السادات وإفشال تآمره.

ان المقاومة الفلسطينية ظاهرة ثمينة مشرقة من ظواهر الثورة العربية المعاصرة، وتعبير تاريخي عميق وصادق عن جانب أساسي من جوانب هذه الثورة. فمنذ قيام دولة الاغتصاب الصهيوني على ارض فلسطين، أصبحت قضية فلسطين، قضية العرب المركزية، التي تتلخص وتتركز فيها السمات الاساسية لصراع الأمة العربية التاريخي، مع أعدائها: الاستعمار الغربي والامبريالية والصهيونية. وأصبحت معركة فلسطين متسعة اتساع الوطن العربي، وأصبحت كل معركة تخوضها الجماهير العربية في أية ساحة من ساحات النضال ترتبط بمعركة فلسطين تؤثر فيها وتتأثر بها. ولكن شعب فلسطين الذي لم يهدأ نضاله منذ بداية المشروع الصهيوني الاستعماري، شق لنفسه بهذا النضال المتواصل دورا طليعيا في حركة الثورة العربية لا غنىً عنه ولا بديل له. وكانت المقاومة الفلسطينية تجسيدا تنظيميا لهذا النضال الطليعي، شمل تأثيره الوطن العربي كله، كما حمل رسالته الى كل أحرار العالم.

ان تعاظم التآمر الامبريالي الصهيوني على مستقبل امتنا، دفع القوى الثورية المخلصة الى مضاعفة الجهد من اجل التكافؤ مع متطلبات المرحلة الجديدة، وتجسد هذا النضج الثوري في الاندفاع نحو بناء الوحدة العراقية-السورية، وفي تصاعد نضال المقاومة الفلسطينية، وانفتاحها وتفاعلها مع هذه الوحدة المتوجهة نحو الصمود والتحرير.

ان الوحدة العراقية-السورية، والمقاومة الفلسطينية الموحدة، هما ذراعا الثورة العربية للرد على الأعداء، وللاتصال بالأصدقاء في العالم، للتعبير عن الوجه الحضاري الحقيقي للأمة العربية، فالحضارة لا تنفصل عن الثورة والنضال في سبيل استرداد الحقوق، ومحاربة الظلم والطغيان في العالم.

ان المطلوب في هذا الظرف الخطير، هو التحرك الجماهيري على الساحة العربية كلها ضد المصالح الامبريالية، وضد الأنظمة المرتبطة بها او المهادنة لها ويفترض هذا تعاون وتوحيد عمل جميع الحركات والهيئات الوطنية والتقدمية المناوئة للامبريالية وحليفتها الصهيونية، وذلك في جبهة عريضة على امتداد الوطن العربي.

وفي هذه الظروف العصيبة التي تتطلع فيها امتنا العربية الى ما يشد أزرها ويعزز فيها الأمل والتفاؤل والثقة بالمستقبل، يبرز العراق وتجربته الثورية منارا للنضال الذي لا يعرف التردد، وقلعة للقوة العربية المتوثبة، وللعقيدة القومية الراسخة المتوهجة. فلقد أثمر نضال حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد أكثر من ربع قرن مضى على بدايات الحزب في هذا القطر، وبعد أكثر من عشر سنوات مضت على تفجير الحزب لثورته في السابع عشر من تموز من العام 1968، معالم نهضة جدية شاملة، تمثل تطورا نوعيا ثمينا في الحياة العربية الحديثة.

وقد عبرت ثورة الحزب في العراق عن هذه المزايا في المبادرات القومية المتتالية التي بدأتها على اثر اتفاقات كامب ديفد، والتي قضت على حالة اليأس والتداعي، وأحدثت تغييرا ايجابيا كاملا في نفسية الجماهير العربية من اقصى الوطن الى أقصاه. هذه المساهمة التي يقدمها العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الى الأمة العربية والى مسيرة البعث التاريخية، لجديرة بان تكون موضع اعتزاز العرب، والتفاف مناضلي الحزب والأمة حولها.

 

أيها البعثيون المناضلون

يا جماهير امتنا العربية المجيدة

لقد اعتبر البعث نفسه منذ نشأته الفكرية النضالية الأولى، انه ليس إلا نتاج أمته، وان الأمة أعطته كل شيء، وانه مَدين لها بكل شيء، فضميرها هو الذي نبه الجيل الأول من البعثيين الى دوره ومسؤولياته، وتراثها هو الذي أمدهم بالإيمان والثقة بالنفس، وقضاياها القومية، ومشاكل مجتمعها هي التي خلقت وطورت وأنضجت فيما بعد تجربتهم النضالية، وتجربة الأجيال التي تعاقبت على المسيرة الطويلة.

ان قومية البعث وعروبته ووحدويته، هي حبّ قبل كل شيء، كانت كذلك منذ البدء، وفكرها نبع من الانتماء والالتزام، والأمة العربية في ضمير البعث تتجمع وتتلخص، حيث تكون المعاناة أشد وأعمق، وحيث يحمل أبناؤها السلاح دفاعا عن حريتهم وكرامتهم، انها تتجمع في الجزائر، عندما تكون الجزائر ثائرة، وتتجمع في لبنان عندما يغدو لبنان طليعة الفداء العربي، وتتجمع اليوم في مصر، حيث تعيش مصر محنتها ومحنة العرب الكبرى، وتتجمع وتتلخص دوما في فلسطين.

فلنصعد نضالنا في كل ساحة عربية ضد مصالح الأعداء وركائزهم، فان ذلك يفت في عضد السادات ويزيده افتضاحا وعزلة امام جماهير مصر، ولنسرع خطانا على طريق الوحدة، فذلك يمد هذه الجماهير بمزيد من العزم والأمل. ولتشع مبادئ الرسالة العربية من خلال نضالنا الوحدوي ليكون فيها الرد على كل الذين يشككون في انتماء مصر العربي ويحاولون فصلها عن المصير العربي.

- تحية إجلال لذكرى شهداء الحزب والأمة الذين شقوا بتضحياتهم الطريق الى الكرامة والنصر.

- تحية الى مناضلي حزبنا الذين يصنعون الوحدة والمستقبل العربي المنشود.

- تحية الى مناضلي الأمة العربية وطلائعها المقاتلة في كل أرجاء الوطن العربي.

- تحية الى جماهير شعبنا العربي الأبي في مصر.

- تحية الى شعبنا الصامد في الأرض المحتلة الذي يمنح البطولة ويمارس الفداء كل يوم.

- تحية الى الحركات والقوى التحررية والتقدمية، والى الدول الاشتراكية والصديقة في كل أنحاء العالم.

- المجد والخلود لامتنا المناضلة ولجميع الشعوب المكافحة من اجل الحرية والعدالة والتقدم.

( 1) كلمة في السابع من نيسان عام 1979، لمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث