ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


قضية الأمة ومؤامرة التسوية

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير امتنا العربية المناضلة

 

تأتي هذه المناسبة اليوم في ظرف قومي تمر فيه الأمة العربية بامتحان تاريخي تنضج فيه تحولات مصيرية، تذكرنا بظروف نشأة الحزب، فنشعر أننا نعيشها، فالحركة الثورية الأصيلة ميلادها لا ينتهي. فهي تولد من جديد مع كل أزمة عميقة ومع كل فرصة تاريخية للنضال الخلاق.

ان إحياء ذكرى مولد البعث لا يذكر بالبهجة والأفراح وإنما بالظروف العصيبة والآلام القاسية التي كانت تعانيها امتنا العربية من مشرق وطننا الى مغربه والتي دفعت جيلا من شباب العرب الى التفكير والتأمل للبحث عن طريق الخلاص.

ولد الحزب في ظروف صعبة قاتمة، كانت الامة العربية فيها مستعبدة ممزقة، تعاني أقطارها من وطأة الاحتلال الأجنبي وما يرافق الاحتلال والاستعمار من ضعف وتخلف وتجزئة ومن قمع وحشي لكل بادرة من بوادر الوعي والتحرر. ان الباعث العميق لظهور حركة البعث كان يكمن في إدراك التناقض الكبير بين أوضاع الأمة العربية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبين الإمكانات الضخمة التي كانت تزخر بها الأمة ولا تستطيع التعبير عنها وتحقيقها في الواقع. ذلك لان قيادات تلك المرحلة كانت عاجزة عن إطلاق طاقات الجماهير وتعبئتها وإعدادها لنضال منظم طويل النفس، واضح الأهداف يعبر عن روح الأمة وضميرها، وعن الحاجات الحيوية لجماهيرها الشعبية الواسعة.

ونحن الآن بعد مضي نحو خمس و ثلاثين سنة على تلك الفترة وبعد ان جلا المستعمر عن معظم أجزاء الوطن العربي نتيجة نضال الشعب وثوراته المتلاحقة وبعد التقدم الذي أحرزه الشعب في مختلف أقطاره وعلى شتى الأصعدة، نجد أنفسنا مرة أخرى امام التناقض الكبير الصارخ بين الواقع العربي الموسوم بالجمود والعجز، وبين الإمكانات الضخمة التي تزخر بها الأمة والتي لا تجد سبيلها الى التحقق والتوحد، ذلك أن العمل الثوري خلال الحقبة السابقة لم يكن عميقا وجذريا الى الحد الذي تتطلبه أوضاع الأمة العربية كيما يحدث التصحيح المطلوب. لأن التصحيح المطلوب إحداثه بالعمل الثوري يجب ان يؤدي الى توفير القدرة الواضحة الحاسمة على تحرير الأرض العربية من السرطان الصهيوني، وتحرير الوطن العربي من النفوذ الامبريالي والقضاء على كل ركائز الاستعمار والصهيونية في هذا الوطن، وذلك لا يكون إلا بتحرير طاقات الجماهير العربية. ولئن لقيت الانجازات التقدمية على اختلافها، رضا من الجماهير فان كثيرا منها لم يلامس بعد أعماقها القومية الانسانية. واهم تعليل لهذه الظاهرة هو ان هذه الانجازات صنعت من فوق، هبة ومنحة، وقليلون هم القادة الذين توجهوا الى الجماهير الشعبية باعتبارها صاحبة الوطن وصاحبة القضية، وصاحبة الحق في النضال قبل الحق في ثمرات النضال. ان الجماهير إذا أعطيت منجزات لصالحها فإنها تقبلها ولا ترفضها. أما إذا استطاعت هي ان تحقق بنضالها هذه المنجزات فإنها تصبح منجزات ثورية، لأنها تحققت على أيدي جماهير مناضلة تعرف كيف تحميها وتدافع عنها. ان كون الثورة العربية في معظم أقطارها لم تصل بعد الى هذا العمق في التأثير، هو في آن واحد، مدعاة أسف، ودافع الى الأمل والعمل.

نأسف لأنّ أوقاتا وفرصا قد ضاعت على الأمة العربية كان يمكن أن تسجل خطوات في التقدم نحو أهدافها ولكننا نشعر بالأمل يملأ جوانحنا، ويحفز هممنا عندما نرى ان شيئا كثيرا مازال ينتظر المناضلين الصادقين والقادة المبدعين المؤمنين بالشعب. نشعر بالأمل لأن العجز الذي نشاهده ونعاني منه في الوضع العربي الراهن، لا يدل على عجز في الأمة وجماهيرها الشعبية بل يشير على العكس الى أن الأمة وجماهيرها لم تشترك بعد اشتراكا كليا في المعركة القومية، ويتحمل مسؤولية ذلك أكثرية القادة والحركات التي تتكلم باسم الأمة والجماهير ولكنها لم ترد او لم تعرف بعد كيف يصل كلامها وعملها الى أعماق الأمة وأعماق الجماهير.

وليس يعني هذا أن الأمة والجماهير الشعبية لم تشارك بعد مشاركة كلية عميقة في أي عمل او انجاز ثوري تم حتى الآن. ذلك أن الأمة وجماهيرها كانت حاضرة ومشاركة الى الأعماق في ثورة الجزائر البطولية وفي تأميم عبد الناصر لشركة القناة وتحديه الاستعمار أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ثم في فرحة إعلان الوحدة بين سورية ومصر، وأيضا في ثورة 14 تموز في العراق التي قضت على أقوى ركيزة للاستعمار في المنطقة. كما كانت الأمة العربية وجماهيرها حاضرة ومشاركة أعمق الحضور والمشاركة يوم أمم العراق نفطه، متحديا الشركات الاستعمارية ومفتتحا عهدا جديدا من السياسة الوطنية الاستقلالية القائمة على الإرادة الثورية الاقتحامية والتخطيط العلمي الثوري الدقيق.

وكانت الأمة وجماهيرها حاضرة ومشاركة بقلبها وروحها وضميرها في كل عملية فدائية جريئة قدم فيها شباب عرب أرواحهم الطاهرة وأعمارهم النضرة نداء للمثل العليا وبدافع الحب للأمة العربية والحرص على مستقبلها، وكم مرة ساد فيها العجز والجمود، وكاد اليأس يستولي على النفوس، وإذا العمل الفدائي يشق حجب اليأس والظلام ويمنح النور والأمل كأنه وحي من السماء يذكر الشعب بقوته الكامنة ويذكر العدو بضعفه الأساسي وبالفرق بين الغاصب المعتدي وصاحب الحق المؤمن بحقه.

ان ما يجدر بالبعثيين وبالمناضلين العرب والجماهير الشعبية الكادحة ان يذكروه وان يرسخ في وعيهم، هو ان فترة العجز والارتداد والاستسلام ليست إلا فترة مؤقتة عابرة، ولا بد ان تنتهي وفي وقت قريب، فهي ليست عامة شاملة، بل تقتصر فقط على بعض الأنظمة والحكام. وأنها ليست إلا استثناء للقاعدة التي هي نهوض الأمة العربية في مختلف أجزاء وطنها، ونضال جماهيرها الذي سجل انتصارات تاريخية ضد قوى استعمارية ورجعية شرسة.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير امتنا العربية العظيمة.

عندما لاح للامبريالية الأمريكية وللكيان الصهيوني ان القوى العربية التقدمية قد ضعفت وتفككت بعد مؤامرة الانفصال على دولة الوحدة، وبعد مؤامرتي 18 تشرين و23 شباط على حزب البعث في كل من العراق وسورية، استدرجت عبد الناصر الى معركة مباغته، واعتقدت ان هذه الضربة ستكون كافية لإخضاع الشعب العربي وتيئيسه، وجره الى الاعتراف بالأمر الواقع، الذي هو: ضياع فلسطين والقبول بالتعايش مع الكيان الصهيوني المنتصر، المسيطر على المنطقة كلها بمساعدة الامبريالية الأميركية ومشاركتها، وكان الأعداء مطمئنين الى موقف الرجعية العربية متأكدين من مؤازرتها للمشروع الامبريالي الصهيوني ومن التقاء مصالحها معه.

ولكن مخطط الأعداء فوجئ، بتفاعلات الهزيمة القومية مع روح الجماهير العربية الشعبية وقواها الثورية، فظهرت المقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي وقام مناضلو حزب البعث في العراق بالاستيلاء على السلطة من جديد، مزودين بتجربة قومية وحزبية غنية أنضجتها النكسات التي مرت على الأمة والحزب.

وكان لا بد من البحث عن طريق يضمن موافقة العرب على ما لم يستطع الأعداء فرضه عليهم بالقوة، فكانت حرب تشرين. ولكن القوة العربية التي فجرتها الحرب تجاوزت ما خططت له الامبريالية الأميركية والأنظمة العربية المتواطئة معها في تدبير تلك الحرب، تجاوزا كبيرا لم يكن في حسبان المخططين. ذلك ان أية قوة دولية عظمى، مهما تكن متفوقة في التخطيط والوسائل تبقى عاجزة عن حساب ما يمكن ان تبدعه روح الجماهير وقواها الكامنة. فحرب تشرين التي دبرت كوسيلة حاذقة بارعة لتمرير التسوية، أي تصفية قضية فلسطين بالصلح مع العدو المغتصب ومفاوضته والاعتراف به، أصبحت عقبة في طريق هذه التسوية اكبر من عقبة هزيمة حزيران، هذه هي المفارقة الكبرى التي أوقعت الأعداء والعملاء في التخبط والتناقض حتى الآن. فالعدو الصهيوني بعد الهزيمة النسبية التي لحقت به، تعرى امام العالم كله، وبان اصطناع كيانه، وانكشف مقتله، وظهر ان وجوده بالذات وجود مؤقت، ينتهي مع أول نصر عربي يأتي به المستقبل، في ظروف وموازنات دولية ملائمة.

امام هذه الحقائق التي هي ليست جديدة، إلا من حيث انكشافها وانتشارها امام العدد الواسع، لجأ العدو الصهيوني الى أساليب جديدة لا تغير شيئا أساسيا في استراتيجيته، بل تخدمها وتعززها. ففي الوقت الذي انكشفت فيه حقيقة الصهيونية على الصعيد الدولي، كحركة عنصرية استعمارية استيطانية توسعية، وأدينت بقرار من أعلى هيئة دولية، يضع هذا الكيان على رأس الحكم لديه، أكثر الفئات تطرفا في عقيدتها الصهيونية العدوانية، لإضفاء مظهر القوة والصلابة والتصميم على المضي في المشروع الصهيوني التوسعي بصورة اشد وأقوى من أي وقت مضى، تثبيتا لثقة سكان الكيان الغاصب ولاحتياطيه في الخارج، وضغطا على الامبريالية الأمريكية التي تعتبر الكيان الصهيوني قاعدة وقلعة وأداة فعّالة لعدوانها ولنهبها ثروات الوطن العربي، لكي تبقى هذه الامبريالية ملتزمة بالتحالف الستراتيجي مع الكيان الصهيوني فلا تبتعد عنه في مساوماتها مع الأنظمة العربية الرجعية العميلة، والأنظمة المتهاوية والمتهافتة (بسبب ضعفها) على التسوية الأمريكية.

اما الأنظمة المتواطئة مع الامبريالية الأميركية في تدبير حرب تشرين، فقد اسقط في يدها، لأنها بعد ان بالغت في حجم انتصار تشرين، أمست تنوء بعبء النصر الذي لم يكن في الحقيقة من صنعها ووقعت في الحرج والتناقض، لان الروح التي خلقتها حرب تشرين تتنافى مع الروح الاستسلامية التي تحاول هذه الأنظمة إشاعتها في أقطارها.

لقد كانت هذه الأنظمة تطمح ان تجري التسوية من موقع المنتصر، محاولة بذلك خداع الجماهير ولو الى حين ولكن حساباتها لم تأت متفقة مع حسابات العدو الصهيوني. فقد رد العدو عندما أوصل الفئات الصهيونية الإرهابية الأكثر تطرفا الى رأس الحكم في الكيان الصهيوني، رد بمنطق المزايدة والمكابرة، على النتائج السلبية التي أفرزتها حرب تشرين بالنسبة إليه. فهو الآن مضطر للتعامل مع العرب بمزيد من القوة والشراسة والغطرسة، بل ان شراسته الآن هي أشدّ منها في أعقاب حرب حزيران متجاهلا حرب تشرين وكأنها لم تحدث، بل انه حاول خلال السنوات الأخيرة ان يعمل على إلغاء نتائج تلك الحرب، بان افتعل بواسطة عملائه وحلفائه الانعزاليين في لبنان حربا أهلية مدمرة، أراد منها القضاء على ما أثارته حرب تشرين في الجماهير العربية من انتعاش وثقة بالنفس.

ان العدو الصهيوني هو الذي يرفض التسوية الآن، لأنه يريدها بشروط المنتصر. وهو يفتقد الشعور بالانتصار رغم استسلام حكام التسوية. فالتسوية التي يقبل بها العدو هي التي تبدأ من ضعف العرب ومن تفرقهم، لتزيدهم باستمرار ضعفا على ضعف، وتمزقا فوق تمزق، وهو لذلك يحتاج الى مزيد من الوقت يحاول فيه بالتعاون مع الامبريالية الأميركية والرجعية العربية، والأنظمة المستسلمة ان يضعف العرب، ويفتت صفوفهم، ويشغلهم بالفتن الداخلية والخلافات الثانوية.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العظيمة

إننا نرى الواقع العربي بكل أمراضه، ولكننا نرى فيه أيضا عوامل القوة والأمل، نحكم عليه حكما ثوريا حاسما، ولكننا نثق أعمق الثقة بان مستقبلا مشرقا سيولد منه. نأسف لهذا الواقع ونتألم ونغضب ولكننا لا نستغرب ولا نحار، فأسبابه واضحة لدينا ونؤمن انه تأهب لقفزة جديدة الى امام، لا علامة ردّة وترَدٍ، وطبيعي ان يظهر من يرى في هذا التوقف المؤقت، فرصته للاستغلال والتمتع بالسلطة، ولو بالتضحية بمصلحة الشعب، ومستقبل الأمة، وحتى عن طريق التآمر والخيانة.

لقد عين الاستعمار للحكام العرب الممالئين له، وللطبقة الطفيلية المحيطة بهم، أدوارهم، ولكن منطق الثورة عين لهم أدوارا أخرى: بان يكونوا بخيانتهم وتواطئهم واستسلامهم، مهمازا يحرك الوعي وينضجه ويثير النخوة والغضب، ويعجل في تفجير ثورة الشعب من جديد. ان الجماهير لا يمكن ان تقبل او تصدق، ان تكون مصر العربية رائدة النهضة الحديثة منذ قرنين من الزمن وحاملة أعباء النضال ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، هي التي تطلب اليوم من العرب ان يصالحوا العدو المغتصب ويسلموا بشروطه. ولا يمكن ان تقبل وتصدق ان تسالم مصر العربية الصهاينة المحتلين وان تتنكر لقضية فلسطين وهي التي قدمت في سبيلها في الماضي البعيد وفي الماضي القريب، مئات ألوف الشهداء، لكي تبقى الأرض العربية مطهرة لا يدنسها غاصب ولا يقيم عليها محتل.

لقد اختار السادات لنفسه ان يكون منفذ الردة والأداة الأولى للرجعية العربية والامبريالية في المنطقة، فارتمى هو والطبقة الطفيلية المستفيدة من حكمه، في أحضان الامبريالية الأميركية، جاعلا إياها، بقرار شخصي منه، طرفا حياديا بل صديقا، متجاهلا نزعتها الى الاستغلال والسيطرة وأطماعها في موقع الأقطار العربية وثرواتها، وتحالفها الستراتيجي مع الكيان الصهيوني، ومصلحتها في إبقائه أداة عدوان على الأقطار العربية وعامل تهديد وإضعاف لها، ليمنع وحدتها، ويعطل نهضتها. كذلك، وكنتيجة منطقية لارتباطه بالامبريالية، وبقرار شخصي منه، اعتبر السادات عندما زار الأرض المحتلة ان الكيان الصهيوني قد غير طبيعته العنصرية العدوانية التوسعية ولم يعد الأداة والقاعدة الرئيسية للامبريالية في المنطقة العربية، وانه أصبح كيانا مسالما، وهو المزود بالسلاح الى حد التخمة، يكرر عدوانه على الأقطار العربية ويوسع رقعة اغتصابه، وينشر القتل والدمار في أرضنا وبين أهلنا. وعندما فوجئ، السادات باستنكار الأمة العربية كلها لفعلته المهينة لم يجد مهربا إلا ان يحاول عزل مصر عن جو الشعور العربي، وان يخرجها من مسيرة النضال العربي.

ولكن الجماهير العربية ستبقى تتطلع الى مصر، رائدة النهضة واثقة ان سحابة التشويه والتزوير لابد ان تنقشع، وان هذه التجارب المريرة ستعجل في تعميق انصهار مصر وشعبها في تيار المصير العربي، لتعود الى مركزها الطبيعي في حركة الثورة العربية، ويتطابق دورها الذاتي الواعي الإرادي مع دورها الموضوعي، باعتبارها الثقل العربي البشري والحضاري الأكبر والأفعل. ان حاكم مصر يستطيع ان ينفرد في اتخاذ الموقف ويكون مطمئنا الى تأييد الجماهير العربية ودعمها له، إذا كان الموقف الذي يتخذه، موقفا ثوريا متجاوبا مع أعماق الضمير العربي الشعبي. ولكن حاكم مصر لا يستطيع ان يتخذ موقف التخاذل والتفريط والخيانة، ويضع العرب أمام الأمر الواقع، حتى ولو كان يعتمد ضمنا على تأييد الأنظمة الرجعية العميلة او سكوتها، لان موقفه هذا يصطدم مع ضمير الجماهير العربية ويثير سخطها واستنكارها، ويتعرض للمقاومة العنيفة الثابتة.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا المناضلة

ليس وضع سورية بأقل خطورة من وضع مصر، من حيث نتائجه وانعكاساته على القضية القومية. بل ان بين الوضعين تماثلا وتجاوبا حتى بالرغم من مظهر التباعد والتخاصم في بعض الأحيان. لان كل واحد من هذين النظامين بحاجة حيوية الى وجود الآخر ومساندته، فالنظام الذي يتكلم باسم سورية يعطي باسم القطر الذي ولد فيه الوعي القومي العربي الحديث الشرعية القومية والغطاء العربي للتفريط المنوط بالنظام المصري ان يقدم عليه، كما ان النظام الذي يتكلم باسم مصر، الثقل العربي الأكبر والاهم، يمنح النظام السوري الدعم والجرأة في إعلان ما لم يألف شعب سوريا سماعه من حاكم، في قبول الصلح مع العدو الصهيوني. وطبيعي ان يختار لهذه المهمة نظامين ضعيفين، ليس لهما جذور شعبية ووطنية.

إن أنظمة التسوية تريد ان تدخل في روع الجماهير العربية خدعتين، الأولى: ان الأمة العربية لا تملك في الوقت الراهن، القوة التي تمكنها من الصمود امام العدو الصهيوني المدعوم بقوة الامبريالية الأميركية، والثانية: ان هذه التسوية ليست إلا هدنة يستكمل العرب خلالها أسباب قوتهم وشروط إعداد أنفسهم لمعركة التحرير. والحقيقة ان القوة العربية الراهنة لا تقصر عن الصمود للعدو، إلا بسبب وجود أنظمة التسوية المتخاذلة ومن ورائها الأنظمة الرجعية العميلة التي تتزعم الردة في البلاد العربية منذ هزيمة حزيران وتتبنى -بشكل مغطى- مشروع التسوية الاستسلامية والتي تتنازل كل عام عن المليارات من أموال الشعب، للامبريالية الأميركية مقابل ان تضمن لها هذه الامبريالية بقاءها في الحكم. وأما الحقيقة الثانية: فهي ان التسوية لن تكون في حال من الأحوال هدنة لاستكمال القوة، ولا أمانة للتحرير تتركها هذه الأنظمة لتنجزها الأجيال القادمة.

ان مقدمات التسوية تدل على ان المطلوب منها -فيما لو نجحت- ان تعيد ترتيب الأوضاع العربية لمصلحة الأنظمة والطبقات الرجعية، وتخلق جوا من الإرهاب والقمع والانكماش والتعصب الإقليمي، وتهدف الى محاصرة الأنظمة والحركات التقدمية ومحاربتها وتصفية المقاومة الفلسطينية وإشاعة الفساد والميوعة وروح الاستسلام، أي ان المطلوب اليوم ان توكل مهمة التحرير الى الأجيال العربية القادمة -كما يدّعون- بل قتل الروح التي يمكن ان تخلق مثل هذه الأجيال. ان أنظمة التسوية والأنظمة الرجعية العربية التي وراءها، هي أكثر من استسلامية لا تكتفي بالخضوع للعدو، بل تسعى الى تشكيل حلف مع الامبريالية و الصهيونية، له إستراتيجية هجومية شاملة للوطن العربي كله. وقد تتعداه الى بلدان العالم الثالث لضرب كل بؤرة للثورة والتحرير يمكن ان تنتقل عدواها الى أقطارها.

ان التصرف بالقضية الفلسطينية أي بالقضية المركزية للأمة العربية والتي تتعلق بمصيرها ذاته، هو من حق هذه الأمة وحدها. أي من حق الملايين من جماهيرها الشعبية الكادحة من أقصى الوطن العربي الى أقصاه، هذه الجماهير الأصيلة المناضلة الوفية لتراث أمتها المجيدة، والحريصة على ان يكون للأمة مستقبل عظيم مشرق في مستوى ماضيها العريق، حتى المقاومة الفلسطينية، التي هي من ابرز عناوين صمود هذه الأمة، واستبسالها في الدفاع عن وجودها، فإنها ليست إلا جزءا من الأمة وطلائعها الثورية ولا تملك حق التصرف في قضية، هي قضية المصير العربي كله. فمن هم الذين يتصرفون اليوم بهذه القضية، ويقدمون على الصلح مع العدو، وعلى الاعتراف له بشرعية اغتصابه لفلسطين؟ وماذا تمثل هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام؟ هل يمثلون تراث الأمة وعراقتها وأصالتها وتمسّكها بحقها؟ هل يمثلون الجماهير الواسعة التي تكدح، تزرع الأرض وتبنى المدن وتحارب، وتقدم دماءها من اجل ارض الوطن؟ أم إنهم يمثلون الطبقات المستغلة المنحلة التي انقطعت صلتها بالأرض وبالشعب وبالتراث، ولم تعد تعرف إلا مصالحها الجشعة؟

أليست الرجعية العربية هي القائدة والمدبرة لمؤامرة التسوية؟ أليست مدفوعة بالحرص على أموالها، التي هي أموال الشعب العربي وسلطانها المدعوم بقوة الأجنبي؟ أوَلم تجد فرصتها الذهبية في هزيمة الأمة وهي تعمل منذ ذلك الحين لإرجاع سيطرة الامبريالية، وتمكين اغتصاب العدو الصهيوني ليتوفر المناخ الذي تستطيع فيه ان تتنفس وتعيش وتستمتع دون ان يهددها خطر من الشعب المطالب بحقه والمدافع عن كرامته؟.

 

أيها الرفاق، المناضلون

يا جماهير أمتنا العربية المناضلة

ان فترة الخمسينات التي حقق خلالها المد الشعبي الثوري انتصاراته التاريخية كانت فترة وضوح في الرؤية واستقرار في الوعي. اما فترة النكسات والتراجعات فطابعها اهتزاز الرؤية واضطراب الوعي وتخلخله، فالعدو صديق والصديق عدو، والنصر نصف نصر، والهزيمة نصف هزيمة، والتسوية تسويتان: رجعية وتقدمية. وهذا كله يسهم في زيادة الغموض والبلبلة، وفي استنزاف حيوية الجماهير وزعزعة يقينها.

ان إنقاذ مستقبل النضال العربي الثوري يستوجب العودة الى الرؤية الواضحة والخط الثوري السليم، لكي لا تبقى قضيتنا المصيرية التي فيها بقاؤنا او فناؤنا كأمة، مرتهنة للدول الأجنبية المعادية لنا والصديقة المحالفة، ينوبون عنا في وضع الحلول لها. فالحل الثوري الكامل الواضح هو الذي يضعنا في صف الجماهير العربية المناضلة لإسقاط التسوية الاستعمارية، لان هذه التسوية هي استمرار لمؤامرات الاستعمار على وجودنا وعلى أرضنا وخيراتها. كما انه يضعنا بالنسبة الى أصدقائنا وحلفائنا على صعيد الاستقلالية والإرادة الحرة.

ان القضية العربية التي تلخصها قضية فلسطين، هي قضية هذا العصر، ولكن ثورتها لم تصبح بعد ثورة العصر، لان النضال العربي لم يرتق بعد الى مستوى قضيته وهذه هي مهمة الشعب العربي وجماهيره المناضلة، وطلائعه الثورية. هذه المهمة التي يجب ان لا توكلها الى احد، ولا تتنازل عنها لأحد، انها الامتحان التاريخي لجدارة الأمة العربية، وهي المراهنة الصعبة التي يطلب فيها الارتقاء الشاق المضني بالنضال العربي الشعبي الى مستوى الرسالة الإنسانية، كما يطلب منها تصحيح مفاهيم الحق والعدل في السياسة الدولية، وبث روح جديدة في النضال الاشتراكي العالمي الذي تكاد السياسة الواقعية، ومجاراة الأمر الواقع تطفئ جذوته المبدعة وتفضي به الى مواقع الدفاع والمحافظة، وتفقده المبادرة التاريخية التي هي أمل الشعوب في خلق إنسانية تقدمية.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العظيمة

إننا ورثة حضارة من أعظم حضارات العالم، وان ملهمات الماضي وتحديات الحاضر تدفعنا الى إحياء دورنا الحضاري، وتشدنا الى العلم والمعرفة، والى بناء المجتمع بناء حديثا، ولكننا ندرك ان قدرنا في مرحلة الانبعاث، هو ان ننشد الحضارة من خلال الدفاع عن بقائنا، وان نبني المجتمع الحديث في جو الثورة والنضال.

ان السلام غايتنا، ولكنها غاية بعيدة، لن نبلغها إلا بعد ان نرد العدوان، ونزيل الظلام، ونُحِقّ الحقّ لان سلامنا هو السلام الحقيقي الثابت الوطيد لنا ولجميع الشعوب المعتدى عليها، الضعيفة المستغَلة لأنه سيكون إنهاء للسيطرة الاستعمارية، وبداية للسلم العالمي.

اما سلام الأعداء فليس إلا خدعة تخبئ لنا الحرب الغادرة والعدوان الوحشي، والمذلة والفقر والدمار.. ورفضنا له لا يعني أننا نرفض السلام او أننا ضد الحضارة وإنما يعني أننا نرفض العدوان علينا واغتصاب أرضنا.. وتقتيل وتشريد شعبنا ونهب ثروات وطننا وفرض التجزئة على كياننا القومي، والتخلف والفساد على مجتمعنا العربي.

ان تطلعنا الى السلام، والى إحياء دورنا الحضاري يفرض علينا ان نستعد لرد العدوان وان نخوض معركة التحرير، فمعركتنا دفاعية مشروعة وهي ثورة إنسانية بناءة، نؤدي فيها الامتحان الصعب لشعورنا بإنسانيتنا ودفاعنا عن كرامتنا، وقدرتنا على تجاوز عوامل التخلف، ومجاراة عصر العلم، ووعينا لدورنا الحضاري ومسؤوليتنا تجاه مستقبل العالم. وعندما نرفض ان نواجه قدرنا مواجهة صريحة شجاعة ونتهرب من المعركة، فإننا عندها نرفض السلام الحقيقي ونرفض إحياء دورنا الحضاري، ونتيح للعدو فرصة لكي يشغلنا بمعارك داخلية تستنزف حيويتنا وطاقاتنا، وتزرع الأحقاد بين صفوفنا كما جرى في لبنان على امتداد سنتين. ولئن كان مفهوما ان تقترن النظرة الحضارية بالحرص على السلام بين الدول القوية المتقدمة التي تعبت من حروب التنافس على السيطرة ومناطق النفوذ، فليس الأمر كذلك بالنسبة الى الشعوب المعتدَى على سيادتها وأرضها وحريتها وثرواتها، والتي ليس أمامها سوى النضال والقتال، ودفع الثمن الذي تدفعه الأمم الحية للمحافظة على بقائها والدفاع عن شخصيتها وقيمها الحضارية. فنحن مكرهون على المواجهة ودخول المعركة، لأننا ندافع بواسطتها عن وجودنا ومصيرنا، لذلك فحربنا جدُّ مختلفة عن حروبهم، وسلامنا جد مختلف عن سلامهم. ان السلام الذي تدعو إليه الدول الكبرى او الدول القوية المتقدمة هو سلام القوي الذي يفرض شروطه، وليس سلام الضعيف الذي يستجدي الرحمة من هنا وهناك. وكما ان الحضارة ملازمة دوما للقوة المدافعة عن الحق وللإقدام المنتصر له، فان الحضارة تبدأ بالتفسخ عندما تضعف هذه الصفات او تفتقد.

ان للأمة العربية وضعا خاصا متميزا، يتيح لها شروطا قلما تتوافر لغيرها.. فهي في الوقت الذي تخوض فيه معارك تحرير أرضها، واسترداد ثرواتها، وتوحيد أجزائها، تضع وتبني مفاهيم جديدة للقوة والسلم والعدل كأساس لحضارة جديدة. ولكن هل تعني هذه المواجهة الصريحة الواضحة لحقيقة ظروفنا وقدرنا، ولما يمكن ان ينتظرنا في مستقبل قريب ان نركب الحماسة ونستعجل الأمور ونرتجل الخطط في قضية المصير؟ ان الشعب العربي قد تجاوز منذ زمن هذا الطور وأصبح ينظر إلى المعركة من كل وجوهها، ويعرف انها بناء صبور وتقدم في العلم والثقافة والفن، وتسابق في ميادين الصناعة والإنتاج والاختراع، مثلما هي قتال وتضحية وفداء.

من واجبنا ان نعرف من هم أعداؤنا، وماذا يبيّتون لنا، فنستعد للدفاع عن بقائنا، ولكننا أصدقاء جميع الشعوب ننفتح على الإنسانية كلها، ونتحاور ونتفاعل ونحن واثقون ان في ذلك خيرا لنا وتعريفا بحقنا، وتعجيلا في انتصاره. ليس تمسكنا بحقنا وحرصنا على أرضنا واستقلالنا وتحقيق نهضتنا، واستعدادنا للقتال في سبيل ذلك ليتعارض مع استعدادنا الصادق للتعارف والتعاون. ان في الشعب العربي توقا عميقا وأصيلا الى الإخاء الإنساني، ولكن من موقع المنعة والعزة والكرامة. الغرب الأوربي يعرف حقنا ولا يجهله، ويعرف العدوان علينا وهو الذي خلق هذا الوضع العدواني في الماضي، وهو ما زال يشارك في دعمه صراحة حينا وحينا في الخفاء والرياء، حضارته بلغت السن المتعبة التي ترى الحق ولا تجد في نفسها القدرة على الاعتراف به والانتصار له، بل تغلبها مصلحتها المادية وتحبب إليها الراحة والسهولة. ان بين نظرتنا ونظرة هذا الغرب فارقا كبيرا لا سبيل الى ردمه وتجاوزه في مستقبل قريب، ولكن هذا لن يمنعنا من التعامل والتفاعل مع شعوب الغرب، وبيننا وبينها أكثر من صلة حضارية خلال قرون عديدة من التاريخ.

اما صلتنا كعرب بالدول والشعوب الاشتراكية، فهي على حداثة عهدها، اقرب وأوثق، بالرغم من انه لا يزال ثمة فارق بين نظرتها الى قضيتنا المصيرية فلسطين، ولكننا أكثر ميلا الى التفاؤل بتطور موقف هذه الدول والشعوب في المستقبل باتجاه تغليب السياسة المبدئية على السياسة الواقعية، كما أننا متفائلون وواثقون بان المستقبل هو للفكرة الاشتراكية وللشعوب التي تؤمن بها، رغم التهويش الذي تنشره الصهيونية ومفكرو النظام الرأسمالي حول البلدان الاشتراكية. إننا نشعر بالتضامن مع هذه الشعوب، ومع شعوب العالم الثالث في قارات آسيا وافريقية وأميركا اللاتينية التي تخوض معنا معركة تصفية القلاع الأخيرة للنظام الرأسمالي الاستعماري الفاسد الظالم، وتربطنا بها تجارب ومعاناة ثورية مشتركة، ونؤمن ان الإنسانية الجديدة التقدمية ستولد من هذا التضامن المصيري.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير امتنا المناضلة

ان حزب البعث العربي الاشتراكي هو لكل العرب، صمم كذلك منذ ان كان مجرد فكرة، ولكن التجزئة المفروضة على الوطن العربي، حتمت ان يبدأ العمل الثوري الوحدوي من بعض الأقطار المهيأة أكثر من بعضها الآخر، لمثل هذا العمل وكانت سورية أكثر الأقطار استعدادا لان ينشأ فيها البعث، ويقطع أشواطا واسعة على طريق النضال الفكري والسياسي أثمرت في أواخر الخمسينات انجازا تاريخيا هو وحدة سورية ومصر. ولكن هذا الانجاز الذي كان نصرا كبيرا لحزب البعث ولمبادئه، كان في الوقت نفسه نهاية لصعود مسيرة الحزب في سورية، وبداية التفكك والضعف. ذلك ان تجربة الوحدة فشلت نتيجة عوامل عديدة، منها، انه لم يُسمح للحزب ان يشارك في توجيهها والإشراف على تطبيقها، ومع الانفصال تركز التآمر الاستعماري والصهيوني الرجعي على سورية وحزب البعث، وهما في أقصى حالات الضعف والتفكك، مما أدى الى ما نشاهده منذ سنوات والى اليوم من مفارقات عجيبة، وارتكابات تتم باسم سورية وباسم حزب البعث وسورية وحزب البعث منها بريئان.

ان فكرة الحزب القومية ضمنت له ان ينتشر في أكثر من قطر عربي، وهذا ما شكل له حماية وقوة. وكان الحزب في العراق قد نشأ نشأة صحية قوية تحمل بذور الصدق والجدية والروح النضالية العالية. فلم تمض سنوات على نشوئه، حتى أصبح له ثقل خاص ورأي حاسم في تطور الحزب القومي، وفي ما حققه من انتصارات، وما واجهه من أزمات وكان يقف دوما مع الخط التاريخي للحزب، خط العقيدة القومية الثورية، مع المواقف المبدئية الثورية التي تتطلب التجرد والنفس الطويل في وجه النزعات الإصلاحية والانتهازية، والميول القطرية والوصولية، مع العقيدة الوحدوية في وجه الذين تراجعوا عنها، او شككوا فيها نتيجة التطبيق المشوّه لوحدة عام 1958، مع العقيدة القومية ضد الذين حاولوا ان يحجبوها ويطمسوها ويقيموا تناقضا بينها وبين الاشتراكية فيقضوا هكذا على أهم ما تميز به الحزب عندما قرن القومية بالاشتراكية.

هكذا حمل الحزب في العراق، الأمانة بحق وجدارة وكانت استعادته للسلطة في 17-30 تموز عام 1968 أي بعد اقل من خمس سنوات من الردة السوداء في 18 تشرين عام 1963، وبعد عامين من مؤامرة 23 شباط عام 1966 عملاً فيه الإقدام والحكمة ومستوى من النضج جديد. وخالط البعثيين وأصدقاءهم شعور هو مزيج من الأمل الكبير والحذر من تجربة السلطة بعد الذي عانوه من الأخطاء التي رافقت ثورة رمضان العظيمة، ومن مرارة تجربة الحكم في سورية حيث كانت سمعة الحزب، تتردى هناك، ولم تعد الجماهير الشعبية تستبين ملامح البعث في ذلك الحكم، البعثيون أنفسهم أنكروا ان يكون ذلك هو حزبهم.

وسارت ثورة 17ـ30 تموز في طريقها الصعبة باتئاد واتزان، تحمل آمال الحزب والشعب، ومخاوفها من ان تتكرر الأخطاء والنكسات. ولكنها كانت تحمل أيضا مبادئ البعث تمدها بالقوة والمنعة لمواجهة المسؤوليات القومية في اخطر فترة تمر بها الأمة العربية وأصبح كل يوم يمر على التجربة يكشف جانبا من صدقها وصدق انتمائها الى البعث وتجسيدها لمبادئه ويقربها أكثر فأكثر من قلوب المناضلين والجماهير العربية.

ان تاريخ الحزب على امتداد مسيرته الطويلة التي أتت بالنجاحات والانتصارات، كما تخللتها العثرات والنكسات قد حمل دوما قرائن الصدق مع النفس والقضية. لأنه عاش في مثول دائم أمام تاريخ الأمة يستلهمه ويطلب حكمه، ولا يطلب الحكم إلا منه. لذلك فضل الحزب في فترات حاسمة من تاريخ نضاله ان يدخل مناضلوه السجون ويشردوا في المنافي على ان يتساهل ويتنازل في أمور عقيدته أو ان تدفعه شهوة الحكم الى عمل ما يخالف هذه العقيدة. هذا هو الإرث الايجابي الذي تتابعه تجربة حزبنا في العراق لتغنيه وتزيده إشراقا.

ان ثلاثين عاما من النضال مرت على الحزب لا تعتبر كثيرة ما دامت قد أوصلت الى هذه التجربة الممتلئة عزما وعافية، والتي هي بداية سليمة على الطريق الطويلة لتحقيق وحدة الأمة العربية ولتحرير أرضها وإرادتها وطاقات جماهيرها الكادحة المبدعة، فالبداية السليمة هي وحدها القادرة على الوصول الى الغاية.

نحن بحاجة دوما الى الرؤية الثورية المؤمنة بحق الأمة العربية في الحياة وبقدرة الشعب العربي على تحقيق أهداف الأمة. نحتاج الى النفس الطويل لان قضيتنا القومية قد تتطلب أجيالا تتعاقب لتكمل الرسالة ولكن واجبنا ان نسلم الأجيال التي تأتي بعدنا إرثا ايجابيا من الصمود والإباء ومن الانجازات والانتصارات.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العربية العظيمة

ان مما يعزز الايمان بقدرة الجماهير العربية الشعبية على الاضطلاع بأعباء الثورة العربية ومهماتها التاريخية هو ما نشاهده من روح الصمود والاستبسال عند المقاومة الفلسطينية وأبناء الشعب الكادح في جنوب لبنان في تصديهم للغزو الصهيوني وأسلحته المدمرة، وأساليبه الوحشية إذ نجح مئات من المقاومين والمقاتلين في إفشال مرامي حملة العدو وإرباك جيشه رغم الحصار المضروب على المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية من مختلف القوى المعادية والمتواطئة. وكان إنجاد العراق للمقاتلين، وتخطيه شتى المصاعب والمعوقات بارقة نور مشرقة وسط ظلام التآمر والتخاذل.

ومما يعزز الايمان أيضا بروح الأمة وجماهيرها الكادحة، ما شاهدناه قبل أشهر، من انتفاضة شعبية عارمة في القطر التونسي حملت معاني كثيرة توحي بالأمل والعبرة ولا يمكن ان نجردها من معنى التجاوب والتضامن مع نضال الجماهير الشعبية في أقطار المشرق العربي ضد التسوية والتفريط بقضية فلسطين، وتحديا للأنظمة الرجعية والليبرالية الإقليمية المتواطئة بشكل او بآخر مع القوى الامبريالية والصهيونية، والتي لا تبدي اهتماما بشؤون المشرق العربي إلا من اجل تسهيل مهمة أعداء الأمة لتمرير مؤامرة التسوية والصلح مع العدو الصهيوني بينما تمنع أي اتصال وتفاعل جماهيري بين أقطار المغرب والمشرق، وتقيم سدا عازلا بين جناحي الوطن العربي، وكذلك ما قامت به الجماهير الشعبية في مصر في العام الفائت من انتفاضة شاملة جارفة ضد حكم السادات والطبقة المستغلة الفاسدة التي تحكم من ورائه، ان دل على شيء فإنما يدل على ان الحاكم الذي يثور الشعب عليه، بمثل هذه القوة وهذا الشمول، لا يحق له ان يتكلم باسم مصر وشعبها، وبخاصة في أمرٍ بخطورة أمر الصلح مع العدو والتفريط بقضية فلسطين.

ان العبرة الايجابية التي تستخلص من هذه الظواهر هي ان الجماهير العربية الكادحة لا تقصّر في مكان ولا تبخل بعطاء من اجل إحباط المؤامرة على مصير الأمة العربية وأهدافها الكبرى. ولكن ثمة عبرة سلبية لا يجوز ان نتجاهلها، وهي ان هذه الانتفاضات الشعبية تُترك وحيدة في مواجهة قوى عاتية مدعومة من الامبريالية وبالتالي فان وحدة النضال بين الجماهير العربية في مختلف أقطارها، أصبحت هي المطلب الثوري الأول.

النضال يكشف عن الجوهر الإنساني للأمة العربية، بينما يفضح طبيعة العدوان والإجرام عند أعدائها. يوحدنا ويفرقهم، يغنينا ويفقرهم، يدفعنا في طريق الرقي والحضارة، ويدفعهم إلي الأعمال الهمجية ويكشف عن عنصريتهم يضعنا في قلب الحداثة والعصر، ويلقيهم في عزلة العقائد المتحجرة. شعارنا للمستقبل يجب ان يكون: إزالة التناقض بين حقيقة الأمة وواقعها الراهن، بين قضية الأمة ومؤامرة التسوية. توحيد طاقات الأمة وتحريرها وإعادة وحدة النضال العربي الى طريقها الصاعدة المتفجرة.. تعميق الطابع الإنساني الحضاري لنهضتنا المعاصرة..

شعارنا للمستقبل يجب ان يكون: الثورة العربية ستكون ثورة الإنسانية الجديدة.

تحية الى شهداء حزبنا، والى شهداء الأمة العربية الأبرار.

تحية الى المناضلين العرب الذين يربضون في المعتقلات والسجون دفاعا عن المبادئ والقيم النضالية.

تحية للبطولات الفذة التي تتفجر في الأرض المحتلة وعلى الساحة العربية، وتفتح أبواب المستقبل المشرق.

تحية للقوى الصامدة في وجه مؤامرات الاستسلام، العاملة على تحقيق وحدة النضال القومي، وتفجير طاقات شعبنا العربي.

تحية للشعوب الصديقة، والقوى المؤازرة للحق العربي، المشاركة معنا في نصرة القضية العربية.

(1 ) كلمة في السابع من نيسان عام 1978، لمناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث