ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


البعث وتحديات المستقبل

 

 

أيها الرفاق المناضلون(1)

يا جماهير أمتنا العربية

تأتي هذه المناسبة في ظرف بالغ الخطورة، قلما عرفت الأمة العربية مثله في تاريخ نهضتها الحديثة.

ويكاد تاريخ هذه الأعوام الثلاثين، يتضاءل امام أهمية الحاضر الذي نعيشه وأمام حراجته.

بل ان أهمية الحاضر وحراجته لتمليان الطريقة الوحيدة التي يجوز أن يعالج بها الماضي: أي ان يثبت جدارته وقيمته وجدواه بان يعطي الجواب المقنع والنافع على الأسئلة المصيرية التي يطرحها الحاضر العربي.

فلمثل هذا اليوم توجد الحركات الثورية الأصيلة، وفيه تجد مبرر وجودها، فالحزب هو جزء من الأمة، خرج من آلامها وحاجاتها، وتطلعاتها، ويبقى مرتبطا بالأمة وتاريخها ومصيرها، ويبقى وسيلة، والأمة هي الغاية. فماضي الحزب لا ينفصل عن حياة الأمة وحياة الثورة العربية وكل ما أصابته من نجاح أو فشل في الثلاثين سنة الأخيرة. كذلك فماضي الحزب لا ينفصل عن حياة مناضليه وما قدموه من عطاء وما تحملوه من تضحية ومشقة.

فكرة هذا الحزب كانت رهانا على أصالة الأمة العربية وعبقريتها المبدعة، لم يعتبر الحزب أَنَّه من الضروري، كما لم يكن بالإمكان، ان يأتي بالصيغ الجاهزة الكاملة لما يجب ان تكون عليه الحياة في المجتمع العربي المنشود. بل اكتفى بوضع إشارات وعلامات وملامح وخطوط أساسية، تاركا للأجيال العربية الصاعدة المناضلة ان تغني بتجربتها الحارة العميقة المتفاعلة مع الأحداث القومية والعالمية هذه المؤشرات الثورية على طريق المستقبل الفسيح المنفتح.

كذلك لم يعتبر الحزب أنَّ من مهمته ان يأتي بنظرية كونية عالمية تستوعب تفسير التاريخ الإنساني، وتحدد مستقبل البشرية، انه لو فعل ذلك -على افتراض ان ذلك مستطاع- لما كان الحزب، حزب البعث العربي الاشتراكي أي حزب الثورة العربية المعاصرة، بل ربما كان تقلص الى حلقة دراسية وعمل نظري مجرّد.

اما الحزب الذي ينبثق فعلا وبصدق من الحاجات العميقة للأمة العربية، في مرحلة انبعاثها الراهنة، فانه لا يستطيع ان يأتي بما هو بعيد أو غريب عن المعاناة الصادقة للأمة في هذه المرحلة.

وتجربة الأمة في هذه المرحلة التي نشأ فيها الحزب لم تكن بعد مهيأة للشمول والإشعاع. ولكن صدق المعاناة جعل تجربة الأمة -من خلال تجربة الحزب- تفصح عن استعدادها الأصيل للشمول والإشعاع، عندما أعطت جوابها وتعديلاتها الخاصة على النظريات والحركات الثورية العالمية التي كان لابد للأمة في طور تحفزها للثورة، ان تحتك بها وتتفاعل معها. وهكذا فقد جاء فكر البعث ليكمل الفكر الاشتراكي لا لينقضه، واستطاع وهو بعد في بداية طريق التجربة الثورية ان يؤدي قسطه من المساهمة على الصعيد الإنساني بمجرد ان واجه مشكلات أمته ومجتمعه، مواجهة نزيهة عميقة، بتسليطه الضوء على هاتين الحقيقتين الأساسيتين: قومية الاشتراكية وإنسانية القومية.

ولم يكن الاهتداء الى هاتين الحقيقتين اللتين ظهر إثرهما الكبير في ثورات العالم الثالث، ثم في الآونة الأخيرة على صعيد العالم المتقدم ممكنا، لولا ان سبقهما تصحيح أهم وأعمق، هو الانطلاق من الواقع الحيّ الذي كان يعني الانطلاق من الحرية. وإن الوقفة الأصيلة الصّادقة لفكر الحزب مدينة بالدرجة الأولى لروح الحرية التي استلهمها، وان كل فكرة أصيلة ومبدعة أتى بها الحزب على امتداد مسيرته الطويلة، وان كل موقف ثوري نضالي في تاريخه، إنما كان بفضل الحرية.

لقد كانت اللحظة التاريخية في حياة الثورة العربية المعاصرة هي سلامة الاختيار.. ولم يكن الاختيار بسيطا، لأنه لم يكن بين نقيضين فحسب: المحافظة والثورة، اليمين واليسار، التجزئة والوحدة، الرجعية والاشتراكية، بل كان الاختيار أيضا: بين ثورة وثورة، يسار ويسار، وحدة ووحدة، اشتراكية واشتراكية. ولم يكن بين روح ومادة، بل بين مادة مستقلة مسيطرة، ومادة نابعة من الروح وتابعة لها. والروح في تفكيرنا ليست شيئا غيبيا ولا سحريا يناقض منهجنا العلمي، وإنما هي الوعي، وهي الإرادة، والأخلاق وكل النزعات التي تشدنا الى الخير والجمال والتضحية والبطولة، وهي الايمان بالحقيقة والعدالة والحرية. وكان على الحزب التاريخي ان يقول كلمة واحدة امام كل اختيار مُحيّر، هي الكلمة التي تنبع من الأصالة ومن تجربة الأمة فتجعل الأفكار المجردة مبدعة حياة وصانعة تاريخ.

وقد كان الموقف من التراث القومي أي من الإسلام وعلاقته الوثيقة بمرحلة الانبعاث القومي المعاصرة، معبرًا عن إحدى الاختيارات الكبرى لفكر البعث الذي قام منذ البدء على تصور ثوري للتراث، فحقق في نظرته الجديدة هذه، كما حقق في مفهوم القومية وفي النظرة الى الحرية سبقاً على الحركات التي أتت قبله. وليس موضوع التراث في حزبنا اليوم، ولم يكن في الماضي، موضوع مناسبات وظروف، بل هو محور أساسي لتفكيرنا ولان هذه النقطة الأساسية لم تعط حتى الآن الاهتمام الذي تستحقه، بل بقيت مجهولة من الكثيرين، كان لا بدّ، حرصا على المستقبل وسلامة الاتجاه، من الإشارة الصريحة الى ذلك، والتتمـّة على الأجيال البعثية الصّاعدة.

ان هذه النظرة، وهذا الموقف من التراث الذي أعلناه قبل أربع وثلاثين سنة، لم يكن موقفا تفسيريّا للماضي بقدر ما كان موقفا ثوريا من الحاضر ورؤية للمستقبل. ولقد حرصنا دوما منذ بداية الحزب، وانطلاقا من حقائق نفسية معروفة، على تجنيب الثورة العربية، ما استطعنا الى ذلك سبيلا، الأمراض الخطيرة التي أصابت ثورات غيرها، فمسخت إنسانية المبادئ في بعضها، وكانت سببا في فشل وانهيار بعضها الآخر.

فاستلهام التجربة الخالدة في حياة الأمة العربية إنما يعني استلهام الإبداع والدوافع والقيم الإنسانية العميقة، القيم الثورية التي لا تخول الأمة العربية حقوقا وامتيازات بقدر ما تحمّل ثورتها المعاصرة مسؤولية كبرى، وواجبات عالية، نحو نفسها ونحو الإنسانية. انه تأصيل لفكر الحزب وليس تراجعا عن تقدميته ونهجه العلمي أو عن سياسته تجاه حلفائه التقدميين في الداخل والخارج.

يا جماهير شعبنا العربي

أيتها الطلائع الثورية

لاقت حركة البعث منذ نشوئها الارتياح والتجاوب العميق من الجماهير العربية، لذلك فإنها تعرّضت، وهي ما تزال تنتظم العدد القليل ممن كانوا يأتونها فردا بعد فرد، الى مقاومة شرسة وتشكيك وتجريح من فئات واسعة من السياسيين المتزَعـّمِين وأعوانهم، ومن أكثرية المثقفين الذين لم يرق لهم ان يروا الثقافة تتحول الى نضال.

ثم لما أصبح لها بعض الشأن والتأثير، وبدء التفاعل بينها وبين جماهير الطلبة يتحول الى جسر يصلها بالفئات الشعبية التي تجاوبت مع الدعوة والتقطت بغريزتها الصافية جوهر الأفكار التي كانت مثار جدل وإنكار من قبل أدعياء الثقافة والفكر، تنبه لها الاستعمار وأعوانه من السياسيين والرجعيين والمتسترين بالدين، فاستُعملت في محاربتها جميع الأسلحة دون تورع أو شرف.

ولكن مقومات الحياة في الحركة، كانت أقوى من كل المصاعب والعقبات، وأقوى من العثرات التي كانت تصاب بها من ذاتها، ومن داخلها، والتي كانت كافية لإنهاء حركة غير أصيلة، لأنها كانت تستمد قوتها من الأمة ومن صعود الأمة واندفاعة نهضتها.

لقد امتلك الحزب حسا واقعيا جعله يحرص دوما على ان يكون حركة ثورية نضالية تقوم على الفكر، لا مدرسة فكرية تبشر بالثورة والنضال، وهذا ما يفسر كيف ان هذه الحركة لم تبق في منأى عن بعض أمراض المجتمع الذي تصدت لقيادته ومعالجة مشكلاته، كما انه ينبئ عن المعاناة الداخلية المُمِضّة التي تعيشها الحركة في أعماقها، والتي يهون ويصغر أمامها كل ما يصيبها من خارجها، ولكنه قدرها الذي آمنت به وظلت أمينة له.

وما كان لهذا الحديث الآن مجال لولا أننا نعتبر الظروف الراهنة من أقسى وأصعب ما مرّ على الأمة العربية، وبالتالي فان المناسبة صالحة لكي تقال الكلمة الناصحة المغموسة بدم التجارب، لعلها تنفع الصادقين.

لتجربة حزب البعث خصوصية، ان هي أهملت أو تجوهلت، فان ذلك يعرض هذه الحركة الاساسية في مسيرة الثورة العربية لكثير من التشويه والانحراف، وهذه الخصوصية التي تميـّز بها الحزب: هي اقتران الموضوعي فيه بالذاتي في شكل وحدة عضوية، فلا يمكن فصل أفكار الحزب القومية والاشتراكية والديمقراطية عن العملية النفسية الداخلية التي تشكل هذه الخصوصية، ولقد أصبحت أفكار الحزب مشاعا للشعب العربي منذ عشرين عاما على الأقل، ولكن أياّ من القادة او الحركات لم يستطع ان يكون البديل للبعث، لأنهم اخذوا الأفكار كنتائج جاهزة ولم يدخلوا الى المعاناة الفكرية والنفسية والأخلاقية التي ولدتها. فالأفكار قد تكون ذات قيمة وتأثير، ولكنها لا تصبح فكرا موحدا خلاقا يلد حركة حية إلا بتلك المعاناة التي لا تـُفتعل، ولا تـُقلد، ولا تستعار.

لقد ارتبطت حركة البعث بالجماهير الشعبية الكادحة ارتباطا مصيريا عميقا متعدد الأسباب والعوامل. فبالإضافة الى القناعة العقائدية الراسخة بان أي هدف من أهداف الثورة العربية المعاصرة لا يمكن ان يتحقق إلا بنضال الجماهير الواسعة، فلا التحرر من الاستعمار والصهيونية، ولا تحقيق الوحدة العربية، ولا بناء الاشتراكية يمكن ان يقوم إلا على هذا النضال الجماهيري. فان ارتباط حركة البعث بالجماهير الكادحة هو الذي يحصنها من عدة أمراض فتاكة يفرزها مجتمعنا نتيجة للتخلف الحضاري والضعف الثقافي، وخاصة في ظل التجزئة. لان الجماهير الكادحة هي وحدها القادرة بما تمتلكه من قدرة على الصبر والصمود، وبما تمتلكه من حس نقدي أصيل، وبما تختزنه من عبقرية وإبداع، على فرض التصحيح من جهة، وعلى رفد الحركة الثورية بأدواتها الثورية من جهة ثانية.

 

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العربية

ثلاثون عاما مرّت من عمر الحزب، ومن عمر الأمة، ومن عمر المناضلين، وقد يصاب المناضل بالغرور، او باليأس إذا لم ير إلا نفسه وتاريخ نضاله. ولكنه عندما ينظر الى نفسه ونضاله كجزء من حركة أوسع منه وأبقى، فانه عندئذ يقترب من النظرة الموضوعية ومن التوازن النفسي.

كذلك الحزب إذا حصر نظره في نفسه، فانه يتعرض للمحاذير ذاتها، اما إذا رجع لأصل مهمته، ودوافع ظهوره الى الوجود، وتذكر انه ليس إلا نتاجا لأمته ولحظة من تاريخها، ومحاولة للتعبير عن حاجاتها وإرادتها، وأنه الفرع وهي الأصل، فانه كذلك يحافظ على موضوعيته وتوازنه.

وفي هذا الظرف بالذات ما احرانا ان نتجنب المرضين الخطيرين: الغرور واليأس.

لا يفرحنا او يدفعنا الى التباهي أن نكون وحدنا على حق، وأن نرى الآخرين يسيرون في طريق الضلال والانحراف، بل ان ذلك مدعاة ألم لنا ودافع الى مطالبة أنفسنا بالمزيد من النضال، والتضحية، والمزيد من الموضوعية والانفتاح والحوار مع القوى التقدمية والقومية الأخرى، والعمل المثابر والدءوب معها وحثها على ضرورة التنسيق، لمواجهة الردة الرجعية، الاستعمارية المتمثلة في "الوحدة المضادة"، التي لا ينجح في مواجهتها إلا تجمع القوى الوحدوية وتضامنها الدفاعي والهجومي.

ونحن نرى انه من الطبيعي في أوضاع التجزئة الراهنة ان تتعدد التجارب الثورية في المجتمع العربي وتتنوّع. وننظر إليها كأنها تجربة واحدة متعددة الجوانب متكاملة الأجزاء، وإنها مكملة لتجربة الحزب لا منافسة له، ومن واجبها ان تتكامل وتتفاعل في سبيل تعزيز وحدة النضال ونضال الوحدة، لأنه من غير الطبيعي وفي منتهى الشذوذ ان تكون هذه التجارب مغلقة بعضها على بعض فلا تستفيد إحداها من التجارب الأخرى ولا تفيدها.

ولا يوهن من عزيمتنا ان نرى مظاهر التنكر والتآمر ومحاولات العزل والحصار، فحزب البعث وُجد لمثل هذه الظروف العصيبة. فقد صهرته التجارب والمحن، وضرب جذوره قوية عميقة في الأرض العربية، وربط مصيره بمصير الجماهير الكادحة على امتداد الوطن العربي، وهي القوة الأكيدة، بل القوة الوحيدة صانعة التاريخ والمستقبل.

لقد نبذنا التعصب بكل أنواعه، والغرور، والاستعلاء وضيق النظرة، وضيق الأفق، منذ ان اخترنا طريق البعث طريقا للثورة، فنحن، منفتحون على العالم وحضارته بل حضاراته، مقدرون حاجتنا الى الأخذ والاقتباس، ولكننا في الوقت نفسه نشعر بالقدرة وبالحاجة الى العطاء، وأننا نستطيع ان نضيف الى حضارة العالم شيئا جديدا وشيئا ثمينا، وان لنا شخصيتنا القومية المميزة وهي طريقنا الى الإنسانية، وان لنا خصوصيتنا وهي إسهامنا في إغناء التراث الثوري والحضاري في العالم.

بل إننا نخشى التعصب ونحاربه، ولقد اصطدمنا منذ بداية الطريق بتعصب اليمين المتخلف، وتعصب اليسار المتحجر، واضطررنا الى الدفاع عن حرية اقتناعنا وشق طريقنا الخاص بالمشقة والكفاح والايمان ضد الذين كانوا يدّعون امتلاك الحقيقة واحتكارها.

وبعد ان ثبتنا حقنا في حرية اختيار الطريق الى الثورة، وفي حرية فهم ماضينا وتراثنا، لم نعد نعتبر ان ثمة مشكلة تقوم بيننا وبين الذين يلتقون معنا في الأهداف كلها او بعضها، ويختلفون عنا في طريق الوصول الى تلك الأهداف إذا كانوا يحترمون حرية اختيارنا وخصوصية طريقنا.

نحن لسنا ضيقي الفكر حتى نعتبر ان الثورات التي قامت منذ بداية هذا القرن ضد الاستغلال والظلم والتخلف، وشملت بلدانا واسعة وكتلا بشرية ضخمة، وهي تقيم الآن أنظمة ودولا تحتل المكان الأول من حيث القوة المادية والأدبية، لها التأثير الكبير في السياسة الدولية، وتقف الى جانب حرية الشعوب واستقلالها، لسنا ضيقي الفكر حتى ننكر على هذه الثورات وأنظمتها وشعوبها فضلها ومكانتها، كل ما في الأمر أننا اخترنا طريقنا الخاص وأيدتنا الوقائع والتطورات التي طرأت على العالم وعلى هذه الثورات بالذات، إذ أنها انتهت الى إقرار تعدد الطرق الموصلة الى الاشتراكية.

إننا لا نساوي بين الأصدقاء والأعداء، بين الرجعيين والتقدميين، بين العملاء والذين يجتهدون في الرأي.

أيها الرفاق، المناضلون

يا جماهير أمتنا العربية

ان الأعوام الثلاثين الأخيرة التي مرت على الوطن العربي مليئة بالدروس والعبر. فقد بدأت بضياع فلسطين، ولكن الهزة العنيفة التي أوقعها ذلك الحدث في الضمير العربي فجّرت العديد من المحاولات الثورية. وكان أهمها ثورة تموز في مصر التي بتفاعلها مع نضال حزب البعث في أقطار المشرق العربي، استطاعت ان ترد على الهزيمة بجملة مواقف وانتصارات تـُوّجت بقيام دولة الوحدة بين مصر وسورية، بعد قيام دولة الاغتصاب الصهيوني بعشر سنوات، وكان تجاوب الجماهير العربية من المحيط الى الخليج مع تلك البداية الوحدوية معبرا عن الوعي التاريخي لهذه الجماهير وحِسّها العميق، وإدراكها ان الجواب الوحيد على الاستعمار والصهيونية، هو الوحدة.

وبدلا من ان تنمو تلك البداية وتتسع، انكمشت واعتلت وسهل على الاستعمار والصهيونية والرجعية ضربها، فظهر تخلف القيادات، وتخلف أساليبها في الحكم، وخطأ تصورها ونقص ثقافتها، لأنها لم تعرف كيف تحافظ على تلك الوحدة الصغيرة لكي تطورها فيما بعد، في حين ان الجماهير لم تبخل بعطاء أو تضحية.

لقد كان من المفروض بعد الانفصال ان تلتقي القيادات العربية لتبحث معا أسباب هذا الفشل الأول، ولكن بدلا من ذلك، استمرت الأخطاء والأساليب الضارة والتصورات الناقصة والثقافات المسطحة، وازدادت الأوضاع سوءا وترديا، لان طبيعة التجزئة تشجع هذه النواقص والأمراض، بينما من أهم فوائد الوحدة رفع المستوى القيادي العربي، ورفع مستوى التخطيط للقضية القومية.

وكانت حرب حزيران والهزيمة التي أعقبتها نتيجة منطقية لتلك الحالة من التمزق والتناحر وضيق الأفق عند الحكام العرب. وكما ان نكسة الانفصال لم تعط كل الفوائد النقدية التي كان مؤملا ان تعطيها من أجل مراجعة الأخطاء ورفع الشروط السليمة للخروج من الانفصال الى الوحدة، فسرعان ما حصل الانتقال. ولكن من الانفصال الى الانفصال، ومن صف النضال الوطني الى كراسي الحكم، دون ان يتوافر الحد الأدنى من شروط الفكر والثقافة والتجربة والممارسة للاضطلاع بمسؤوليات الحكم في تلك الظروف العصيبة. كذلك لم يترك لهزيمة حزيران ان تثير كل ما تستطيع إثارته من مراجعة ونقد ذاتي وتصحيح جذري لذلك المستوى القيادي، فكل تصحيح او تقدم او ارتقاء دون مستوى الوحدة، والعمل الوحدوي والتفكير الوحدوي، يقصر عن النجاح حتى على المستويات القطرية، ويعجز عن الاستمرار طويلا، لان الوحدة هي التي تستطيع ان تقف في وجه الاستعمار والصهيونية وتنتزع منهما كامل الحقوق العربية في فلسطين وكل ارض عربية. وفي غياب الوحدة يبقى كل استقلال مُهدَّدا، بل ملغوما بألغام كثيرة يفجرها الاستعمار في الأوقات التي يختارها.

بعد زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، لم تعد الوحدة حلما يداعب الخيال وأملا يرتجى لجمع الشمل ومضاعفة القوة، بل أصبحت تعني البقاء والدفاع عن المصير. لقد أصبحت الهدف القومي الرئيسي، وأكاد أقول: الوحيد الذي يتضمن تحقيقه تحقيق كل الأهداف الأخرى. فالوحدة هي الثورة، والثورة مطالبة لكي تثبت صدقها ان تكون ثورة الوحدة على وثنية القطريات، أي ثورة التحرير. لان كل كلام عن معركة التحرير دون وحدة هو لغو أو خداع.

لقد أدرك الاستعمار والصهيونية هذه الحقيقة أكثر من كثيرين من العرب، ولذلك فإنهما يحاربان الوحدة الثورية بكل ما أوتيا من علم ووسائل وقوة، ويدعمان التجزئة الحالية التي استبدل بمفهومها مفهوم جديد هو "القومية القطرية" الملقحة ضد الوحدة، بان تلحق بها صفة العربية، فهي القطرية المصرية العربية.. والسورية العربية.. الخ. وهذه القومية الجديدة هي في الواقع قومية الفئات والطبقات الحاكمة التي تبتعد عن الوحدة الحقيقية.

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العربية

لقد تآمر الاستعمار والصهيونية على أول تطبيق للوحدة في تجربة عام 1958 واستغلوا الثغرات والأخطاء التي ظهرت في هذا التطبيق، واستطاعوا، مع الرجعية العربية ومن خلالها ان يضربوها ضربة أرادوها ان تكون قاصمة ونهائية ورادعة، وركزوا تآمرهم على القطر الأصغر، والأسهل تناولا، وهو سورية، لان سورية كانت قد تنازلت في سبيل الوحدة عن كل شيء، عن شخصيتها الدولية وحركتها الشعبية المتقدمة، ودورها القيادي العريق، دون ان يؤدي هذا التنازل الى اغتناء الكيان الوحدوي الجديد. لذلك لم يكن الانفصال مجرد عودة بسورية الى ما قبل الوحدة. بل كان وضعا جديدا أصبحت فيه سورية على درجة من الضعف، غير قادرة معها على التغلب على المؤامرة الاستعمارية التي أوجدت لها ركائز داخل البلاد في بعض الأجهزة السياسية والعسكرية، فجعلت من الانفصال وضعا معاديا للوحدة بشكل هجومي، محركا لشتى النوازع والمصالح والعصبيات المضادة للوحدة، كالطائفية والعشائرية.

وعلى أثر نجاح حزب البعث في العراق في ثورته المجيدة في الرابع عشر من رمضان عام 1963، سقط حكم الانفصال في سورية دون أية مقاومة، لكي يبقى جوهر الانفصال قائما، وراسخا في العهود المقبلة. ولكي تدخل سورية في دوامة ليس منها مخرج. وقد أصاب حزب البعث من جراء التطبيق المشوه لوحدة عام 1958 ما أصاب القطر السوري من تمزق وضعف. فلم يستطع ان يسيطر على الظروف الجديدة المعقدة، ظروف استلام السلطة في ظل التسلط العسكري عليه. وعندما تمسك بمبدئيته ورفض التشويه والتزوير، أسقط بقوة السلاح.

وكان ذلك مأساة بطولية للمئات من مناضليه الذين استشهدوا، أو لاقوا ألوان العذاب في سجون القطريين المزورين، ولكن بالنسبة للحزب فقد سلمت المبادئ وانتصرت الهوية القومية الوحدوية للبعث، وهذا ما أفصحت عنه بعد ذلك ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز في العراق بتميـّزها الواضح الحاسم عن الخليط الغريب المشبوه الذي ظل يحكم سورية حتى اليوم، منتحلا اسم الحزب، والذي أسفر عن وجهه الحقيقي ودوره الضالع في التآمر على البعث وعلى القضية الفلسطينية وعلى الأمة العربية من 23 شباط إلى حرب حزيران الى حرب لبنان.

ان حزب البعث الذي شهد النور في ربوع سورية ونما فكرا ونضالا في أجوائها العربية الحرة الصافية وتقاليدها القومية الوحدوية والذي ضحى بالعديد من الشهداء، ولا يزال المئات من مناضليه الصامدين يقاسون العذاب في سجون سلطة دمشق، يعرف ما لسورية عليه من حق. ولكنه في الوقت نفسه يؤمن ان مسؤولية إنقاذ سورية ليست مسؤوليته وحده، بل هي مسؤولية عربية، مسؤولية الجماهير والقوى التقدمية العربية. وان لسورية في الظروف المصيرية دورا أساسيا نابعا من موقعها في مواجهة العدو الصهيوني، ومن تاريخها الحديث كحاملة لمشعل الدعوة القومية الوحدوية. وقد استفرد الأعداء الاستعماريون والصهاينة هذا القطر بشكل أدى تركيز التآمر عليه الى ان ينقلب دور سورية القومي الى عكسه، فبعد ان كانت سورية تدفع القطر المصري في طريق الوحدة، أمسى النظام فيها يسهل له طريق الاستسلام والصلح مع العدو. وبعد ان كانت سورية تلتقي مع مصر على طريق مقاومة الاستعمار وأحلافه، صار اللقاء في أحضان الامبريالية كمقدمة للتلاقي مع الكيان الصهيوني، وأمست المقاومة الفلسطينية ومناضلو الحركة الوطنية في لبنان يموتون برصاص السلطة السورية.

لقد انكشفت حقيقة هذا النظام للجماهير العربية داخل القطر السوري، وعلى امتداد الساحة العربية، وحكمت عليه حكمها الأخير. ولن تنفعه بعد اليوم محاولاته الخادعة للتظاهر بادوار مضللة عن حقيقته كأداة بيد المخططات الامبريالية.

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العظيمة

ان تصورنا للمرحلة التاريخية كان دوما انها مرحلة انبعاث وصعود بالنسبة للأمة العربية وهذا يعني، ان النكسات والتراجعات وفترات الجمود والتردي ليست إلا أعراضا زائلة وفترات استثنائية عابرة، على طريق النهضة الطويل الصاعد، وأنها في أكثرها ردود فعل وأعمال دفاعية من قوى التخلف المندحرة، وخطط تآمرية من أعداء الأمة، الاستعماريين والصهاينة يستغلون فيها الثغرات ونقاط الضعف في حركة الثورة العربية وفي المجتمع القديم الذي لم تترسّخ فيه بعد، القيم الجديدة، والثورة العربية تنمو وتتقدم بمنطق جدلي، أي انها تتفاعل وتتعامل مع الظواهر السلبية التي تعترض مسيرتها من الداخل أو من الخارج، بشكل يساعدها على تسريع عملية التصحيح والتكامل والتوحيد.

ان إدراك هذه الحقيقة هو الذي يميز الثوريين عن غيرهم، فالثوريون يوظفون هذه الحقيقة في تخطيطهم ويدخلونها في الحساب حتى في نضالهم اليومي.

وهذا ما يفسر كيف أننا نشاهد الى جانب مظاهر التراجع والتردي، مظاهر للنمو والتقدم. فقد كانت أول ثمرة ثورية طيبة لهزيمة الخامس من حزيران، ثورة السابع عشر من تموز المجيدة في العراق التي فجرها حزب البعث العربي الاشتراكي، فكانت ثأرا للهزيمة القومية، كما كانت ثأرا وردًا حاسما على الردة الشباطية الحزبية التي وقعت في القطر السوري.

كذلك حصلت ولادة ثورية في القطر اللبناني لم تأخذ شكل الانقلاب المفاجئ، بل التفاعل البطيء العميق مع النكسة القومية، وأخذ لبنان يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، يصبح متنفس الضمير العربي الجريح، والفكر العربي الثائر، ومسرحا للنضال الشعبي الملتزم بالعروبة و المتوجه نحو فلسطين.

وفي حين يظهر الاستعمار والصهيونية والرجعية بأنهم هم المهاجمون المبادرون، يمكن ان تظهر لنا النظرة المتعمقة الجانب الآخر من الصورة، حيث تبدو تحركات الأعداء كهجوم معاكس على ذلك التفجر في القوة العربية التي ان وضعت العراقيل في طريقها من ناحية، فاجأت العالم بسيلها الجارف يصب في ناحية أخرى.

إنّ الصورة التي تبدو قاتمة للوضع العربي الراهن لا تخيفنا. لأننا نؤمن بان الأمة العربية في طور انبعاث تاريخي، وان مظاهر التردي هي مؤقتة وزائلة، ويقابلها، في الوقت نفسه، مظاهر للتقدم والثورة لا يجوز إهمالها أو إسقاطها من حساب المناضلين.

فما حدث في لبنان، ليس في النتيجة، سوى مظهر من مظاهر التقدم على طريق الثورة العربية لأنه بلور قضية الصراع العربي الصهيوني، وقضية الثورة العربية في لبنان. لقد كرست الأحداث الأخيرة عروبة لبنان، كما كرست شعبنا في لبنان أداة فعالة من أدوات الثورة العربية، ولابد للجماهير التي سارت وراء القيادات الانعزالية ان تكتشف خديعتها الكبرى عندما تسقط المؤامرة ويعود لهذا القطر المناضل وجهه العربي.

وما الانتفاضة الشعبية الشاملة التي حدثت في مصر، في الآونة الأخيرة، سوى مظهر آخر من مظاهر التقدم على طريق الثورة العربية لان شعبنا العربي في مصر استعاد دوره الاجتماعي والوطني والوحدوي، رغم الردة السياسية والاقتصادية والقومية التي حدثت في هذا القطر المناضل. لقد أصبح الشعب العربي في مصر سيد نفسه، لأنه تخلص من الوصاية التي فرضت عليه سنين طويلة. وهو إذ يدرك الآن العلاقة بين وضعه وبين المصير العربي، فإنما يفعل ذلك نتيجة لمعاناته ولشعوره بالمسؤولية القومية، وتمسكه بدور مصر العربي.

اما ما قدمته وتقدمه الجماهير الفلسطينية من تضحيات وبطولات خارقة، في مواجهة العدو الصهيوني في الأرض المحتلة، أو في مواجهة التآمر والغدر على ارض لبنان، ليأتي في مقامة العوامل الايجابية التي تدعو الى التفاؤل والثقة بالمستقبل، وان هذا المستوى من الوعي الثوري والصمود والاستبسال عند هذه الجماهير ليشكل الضمانة الأولى لاستمرار المقاومة الفلسطينية، ولمحافظتها على دورها الثوري. وهو في الوقت ذاته نداء الى الجماهير العربية لتتحمل مسؤوليتها في إحباط مؤامرة التسوية الاستسلامية والتصدي للضالعين فيها.

ان الاستعمار والصهيونية يركزان هجومهما على وطننا العربي، وبدرجة عالية من الإعداد، بسبب عاملين هما:

أولا- الوضع العالمي الذي يشهد الآن فترة انتعاش وتفوق مؤقت للأنظمة الرأسمالية الاستعمارية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والذي يعبر عنه بالتفوق التكنولوجي، وبأساليب التآمر.

الثاني- أهمية الوطن العربي الإستراتيجية وأهمية الثروات النفطية الموجودة فيه وإدراك الاستعمار والصهيونية لإمكانات التقدم والثورة الكامنة في الأمة العربية.

إن المخطط الاستعماري الصهيوني، استباق لهذا التقدم المحتوم على المدى البعيد بقصد عرقلة سيره وتأخيره، والأمر الذي يلاحظ بسهولة، ان الاستعمار قد طور أساليبه تطويرا كبيرا، بينما ظلت الثورة العربية في حالة تجمد وانكفاء، مما أتاح للاستعمار ان ينازلها في الساحات والأوقات والأساليب التي يختارها هو.

المطلوب، هو أن يصبح اختيار الساحة والوقت والأسلوب بيد الثورة، وهذا يتطلب توافر عاملين:

1 - النضال الجماهيري الواسع.

2 - النضال العربي الموحد الذي يشمل الوطن العربي، أو معظم ساحاته.

وهذان العاملان، يضمنان دوما، الرجحان والتفوق للثورة العربية على أعدائها، فلا النضال القطري قادر ان يتكافأ مع قوى الأعداء، ولا الوحدة بدون نضال تستطيع ان تغير شيئا في ميزان القوى، ولا الاستسلام الى ظاهرة التطور السلمي والانخداع بنتائجها المحدودة والسطحية، كفيل بأن يبعد عنا الأعداء أو ان يوصل الى تحقيق الأهداف.

ان مهمة التصحيح والقضاء على مظاهر التردي، هي مهمة الأحزاب والحركات الثورية في الوطن العربي، وفي مقدمتها حزبنا الذي تصدى لهذه المظاهر منذ نشأته، وهي كذلك مهمة الأنظمة العربية التقدمية، بل ان مقياس تقدميتها، يجب ان يحسب على هذا الأساس، وهي أيضا مهمة الجماهير العربية التي ازداد وعيها، ونضجت تجربتها، وأثبتت قدرتها النضالية خلال حرب تشرين، و خلال الحرب اللبنانية، وخلال الهبّة الجماهيرية في مصر، وخلال مقاومتها للنظام السوري، وخلال عطائها الفذ والرائع للثورة الفلسطينية.

إن نجاح هذه المهمة، يتوقف آخر الأمر، على مدى وعي الثورة العربية لذاتها وللظروف والقوى المحيطة بها. كما يتوقف على النتيجة العملية لهذا الوعي: وهي قدرة الثورة على السيطرة على الظروف والتخطيط للمستقبل المستوعب تخطيط الأعداء، فالثورة هي دوما مهاجمة، بمعنى انها تفهم المستقبل وتسهم الى حد ما في خلقه، فتقدر ما يحتوي عليه من إمكانات مساعدة أو معوقات، وتعمل وتتصرف بشكل يمكنها من استغلال الإمكانات المساعدة، واتقاء المعوقات أو تذليلها والتغلب عليها.

وإذا كان الحزب قد اعتبر دوما الوحدة مرادفة للثورة، فلان الوحدة تتيح، حتى قبل ان تتحقق، أسلوبا في التفكير ومستوى في التخطيط، وغنىً في إمكانات النضال ووسائل المواجهة، مما لا يتيحه أي منطلق آخر.

وسوف يبقى أعداء الثورة العربية، الاستعمار والصهيونية والرجعية في موقع الدفاع ورد الفعل، حتى لو استطاعوا، أحيانا، ان يتفوقوا في وضع الخطط الهجومية وأخذ المبادرة لصالحهم، فالثورة بالإضافة الى كل الوسائل والقوى التي تستطيع تعبئتها في الحاضر، إنما تستند أيضا الى قوتين صاعدتين غنيتين بالمفاجآت: قوة التاريخ العربي، وقوة التاريخ الإنساني. التاريخ العربي في تقدم، وكذلك التاريخ الإنساني، ونحن في مرحلة توافق وانسجام كبيرين بين هاتين القوتين.

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العظيمة

ان من المظاهر المهمة التي تميز المرحلة التاريخية، التي هي مرحلة انبعاث وصعود بالنسبة للأمة العربية، ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة قبل اثنتي عشرة سنة، كردّ على تهرب الأنظمة العربية من معركة تحرير فلسطين وارتدادها عن طريق الوحدة، طريق التحرير، ولقد كان في تكوينها عنصران، سلبي وايجابي: اما السلبي فهو قطري ضيق ورد فعل على الأنظمة العربية التي كانت تتعامل مع قضية فلسطين تعاملا قطريا سلطويا استغلاليا، فكان جواب المقاومة على ذلك: قطرية بقطرية، واستغلال باستغلال، أي انها تحاول ان تستفيد من كل الأنظمة دون تفريق بين رجعي وتقدمي، كما انها جعلت هدفها امتلاك السلطة هي أيضا.. أي الحصول على دولة فلسطينية.

وأما العنصر الايجابي فيها فهو العنصر الثوري الذي يلتقي مع الثورة العربية، وأهدافها التحررية التقدمية الوحدوية، لأنها تُنازل الاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح والعمل الفدائي، وهو ارقي أسلوب في المواجهة الثورية.

وقد استعملت قيادة المقاومة هذين العنصرين، محتفظة بالتوازن بينهما حينا، ومرجحة الأول، القطري السياسي على الثاني حينا آخر. وهذا الترجيح للجانب القطري السياسي، هو الذي يهدد بالخطر الأكيد ثورية المقاومة وإمكانية استمرارها وهناك خلط وعدم تمييز بين القطرية والهوية الفلسطينية، فالهوية الفلسطينية هوية قومية ايجابية مشروعة، تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار والصهيونية، وتكسب من خلالها التأييد العالمي. ولكن العالم الغربي المتحالف مع الصهيونية يحاول ان يجعل لهذا التأييد ثمنا باهظا وتثبيت قطرية الفلسطينيين، ومحاصرتهم فيها وعزلهم أو إبعادهم عن العلاقة المصيرية بالثورة العربية.

قناعتنا ان الواقع العربي ومنطق الثورة العربية يحتمان وجود المقاومة الفلسطينية، كضرورة تاريخية، ويعملان على إرجاعها الى دورها الثوري الطليعي كلما ابتعدت عنه تحت ضغط الظروف القاسية التي تحيطها بها أنظمة التسوية، أو نتيجة تراجع الوعي الثوري عند بعض قياداتها.

إن الحقيقة الموضوعية التي تـُقرِّرُ أن قضية فلسطين هي القضية المركزية في الثورة العربية، ترتب على المقاومة الفلسطينية واجبات ومسؤوليات، كما تعطيها حقوقا ودوراً طليعياً بارزاً. فكما ان الثورة العربية مسؤولة عن حماية المقاومة ورفدها بالعطاء النضالي المستمر، كذلك فالمقاومة مطالبة بان تبقي قضية فلسطين في مستواها التاريخي، الذي هو مستوى الأمة العربية ونهضتها المعاصرة، وأن يكون التعبير العملي عن ذلك مزيدا من الاقتراب والاندماج مع نضال الجماهير العربية الكادحة في سبيل أهدافها القومية.

أيها الرفاق المناضلون

يا جماهير أمتنا العظيمة

إن هذه التجربة التي يقودها حزبنا في العراق منذ ثورة السابع عشر من تموز، هي تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي كله، بفروعه ومنظماته القومية في كل مكان. وتجربة البعث كله بماضيه وحاضره، وقاعدة لانطلاقه الى المستقبل بكل آماله وأهدافه القومية ومبادئه الأخلاقية والإنسانية، بل نستطيع القول بأنها لم تعد تنحصر في حزب البعث، فهي أيضا تجربة القوى الوطنية والتقدمية في العراق وفي الوطن العربي، وإنها بانجازاتها الكبيرة، وبالنسبة الى ظروف الواقع العربي وإمكاناته، تقدم نوعي في مسيرة الثورة العربية.

إن ما قدمه الشهداء من دماء عطرة، وما تحملته أجيال من مناضلي الحزب من الآلام والمتاعب ليهون امام هذه الحقيقة المشرقة: وهي ان البعث العربي الاشتراكي يقف اليوم في ظرف تاريخي مصيري، وعلى ارض قطر بأهمية العراق العربية والدولية، ليمثل مرة أخرى إرادة الأمة العربية في الصمود، وتمسكها بحقوقها ومبادئها وسلامة مستقبلها دون تراجع ولا تفريط، ولكي تبقي راية النضال العربي مرفوعة ومشعل المبادئ مضيئا ومشعا. وهذا الشرف الذي يؤول الى حزب البعث إن هو إلا ثمرة إيمان الحزب بوعي الجماهير الشعبية، وروحها النضالية الغنية المتجددة والتي كانت لها دوما الكلمة الأخيرة.

لقد استطاع حزبنا في العراق، نتيجة لارتباطه بالجماهير الكادحة، ان يكون التجربة الحزبية الوحيدة في الوطن العربي التي ضربت جذورها في الأرض وينتظرها مستقبل مديـد. لقد ساعدته ظروف العراق السياسية القاسية على امتداد ربع قرن على ان يبني نفسه البناء العقائدي والنضالي المتين، وصهرته السجون والعذابات والمحن، حتى أصبح أهلا لتحمل مسؤولية الحكم، ونجاح الحكم رهن بالحفاظ على الفضائل النضالية التي أهَّلت الحزب لهذا الدور القومي البارز.

ولذلك فاني عندما أتحدث عن حزبنا في هذا القطر المناضل، تهزني عاطفة المحبة العميقة، ويغمرني شعور بالاعتزاز والتقدير. فتاريخه ملحمة رائعة من الايمان والثبات والبطولة والتضحية، وحاضره مَحَـطّ لآمال المناضلين، ومشعل يبدد الظلام الذي يسود المنطقة.

إن الجماهير العربية الكادحة في أرجاء الوطن العربي، وهي تعيش ظروف الردة الرجعية الاستعمارية، وترى أبعاد المؤامرة التي تحاك ضد العراق محط آمال المناضلين العرب وأحرار العالم الثالث، لخنق صوته المعبر عن آلامها وتطلعاتها وإرادة الصمود فيها، تحيط الحكم الثوري في العراق بكل دعمها وتأييدها.

إن الطاقات النضالية التي يزخر بها هذا القطر المناضل، عماله وفلاحوه ونساؤه وجيشه الباسل، ومناضلوه في الجيش الشعبي، وشبيبته التي جعلت عيدها مقترنا بعيد تأسيس حزب الثورة العربية، وطلائعه الطلابية ومثقفوه الثوريون، وقواه الوطنية والقومية التقدمية المتحالفة.. ان هذه الطاقات الثورية، طاقات جماهيرنا المناضلة في هذا القطر مع جماهير امتنا العربية كفيلة برد التآمر على القوى الصامدة في الوطن العربي وعلى ثورتها في العراق. وكلما ازداد اعتماد القوى العربية على الجماهير وانطلقت من أطرها التقليدية الى مجال العمل القومي الخصب الفسيح على امتداد الأرض العربية، في جبهة قومية تقدمية واسعة، كلما سارعت في نقل حركة الثورة العربية من مواقع الدفاع الى مواقع الهجوم، والانقضاض على بؤر التخاذل والاستسلام والتآمر في الساحة العربية، التي تشكل قوى الثورة المضادة والتي تحاول عبثا ان تعترض مسيرة النهضة العربية وخطها الصاعد التاريخي.

يا جماهير أمتنا العظيمة

أيها الرفاق المناضلون

لقد حمل حزبكم أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبة.

وانه لشرف عظيم ان تتناقل الأجيال العربية المناضلة تلك الأمانة، كالراية في المعركة، حتى يرتفع علم الدولة العربية الواحدة، علم الوحدة والحرية والاشتراكية. وان إيماننا العميق بأمتنا، وثقتنا اللامحدودة بطاقات جماهيرنا المناضلة يمداننا في هذا الظرف المصيري الذي تمر فيه الذكرى الثلاثون لتأسيس حزبنا، حزب الثورة العربية، بالقوة والتصميم على الصمود امام كل التحديات التي تواجهها امتنا، لنصون كرامتها، ونحقق إرادتها، ونؤدي الأمانة التي نحملها بصدق وبشرف ورجولة. تحية الى شهداء حزبنا الأبرار، والى شهداء الأمة العربية في كل مكان من الأرض العربية.

تحية الى جميع الذين كان لهم شرف المساهمة في بناء هذا الحزب، وفي نضاله، وفي تحقيق انتصاراته والذود عنه في المحن والملمات.

تحية الى رفاقنا الذين يربضون في المعتقلات والسجون على امتداد الساحة العربية، وبخاصة سجون حكام دمشق.

تحية الى رفاقنا الأبطال الذين قاتلوا واستبسلوا وقدموا أغلى التضحيات دفاعا عن شرف العروبة في لبنان والذين ما زالوا يتصدون للمؤامرة الصهيونية الرجعية على جنوب لبنان.

تحية الى جماهير شعبنا الصامدة في الوطن المحتل.

تحية الى قوى الصمود والثورة في الوطن العربي.

تحية الى جماهير شعبنا في الوطن العربي وفي المهاجر.

تحية الى حلفاء الحزب من القوى الوطنية والقومية التقدمية، العاملة معه على تحقيق أهدافه الثورية.

تحية الى الحركات التقدمية وحركات التحرر الصديقة في العالم.

تحية الى الأجيال العربية الشابة الصاعدة، التي تحمل مشعل المستقبل العربي، والى شبيبتنا في هذا القطر في عيدها اليوم.

تحية حب وتقدير الى جماهير أمتنا العربية وعهدا على المضي في طريق النضال لتحقيق أهدافنا القومية.

(1) كلمة في السابع من نيسان عام 1977 لمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث