ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


روح الأمة وروح العصر

 

إنها لحظات سعيدة(1) إذ أجدد لقائي بالرفاق المناضلين في هذه الحركة التي نذرت نفسها لخدمة الأمة العربية ولخدمة نهضتها وانبعاثها والتي برهنت بفضل نضال شباب الأمة في مختلف أقطارها وبفضل استجابة الجماهير العربية لنداء هذه الحركة، على ارتباطها العميق بأمتها وبروح شعبها وبأصالة تراثها وتأريخها وبأنها جديرة بان تحمل الأهداف القومية الكبرى، وان تطمح لبناء المستقبل العربي المنشود. في كل سنة من هذا الشهر نستذكر جميعا ما قطعه حزبنا من مراحل على دربه الصعب الطويل، كما نستذكر البدايات الأولى، لان البدايات في حركة أصيلة تكمن فيها البذور الاساسية التي تلهم وتخصب المسيرة كلها، ولطالما قلنا، وكررنا القول بان حركتنا لم تقم على أفراد او أشخاص، وإنما كانت متلقية للدوافع القومية والآمال القومية التي كانت تجيش في قلوب الشباب العربي وفي روح الجماهير العربية، وفي معاناتها ولم يفعل الأشخاص أكثر من ان اجتهدوا ليترجموا ذلك ويعبروا عنه بقدر ما توفر لهم من صفاء في الفكر، ومن صدق في الشعور ومن تجاوب مع روح الأمة وتاريخها وبقدر ما كان يربطهم من حب عميق بأمتهم، لان الحب كما ذكر رفيقنا الأستاذ كمال كان الدافع الأعمق لهذه الحركة، وسيبقى كذلك، وسنبقى متفائلين بالمستقبل وبقدوة امتنا وبشبابها المناضل وجماهيرها الكادحة على ان تُمد هذه الحركة بالدّم والقوة والروح، لكي تتابع رسالتها، لأنها منذ بدايتها ومنذ تصورها الأول وطدت نفسها وصارحت جماهير الأمة وشبابها بان مسيرة البعث مسيرة طويلة وشاقة، لأننا نريد ان تكون نهضتنا متناسبة ومتكافئة مع عظمة أمتنا، ولا نرضى لأمتنا بعد طول انتظار وفي هذا العصر الذي تتصارع فيه القوى وتتفنن في اختراع أسباب الرقي وأسباب الدمار في آن واحد، لا نريد ان يكون عملنا ضعيفا، او واهيا، او مؤقتا وإنما ان نعمل للأجيال القادمة، وعلى أساس صلب متين مستفيدين من تجارب أمتنا في حاضرها وفي ماضيها مستفيدين من تجارب الأمم، وتجارب العالم وعبر التاريخ كله. لذلك فالحركة تملك ثقة بالنفس قلما تتوافر لحركات غيرها، لان نظرها كان بعيدا ولان إعدادها الفكري كان عميقا ولان حرصها على بقاء أمتها وعلى مستقبل هذه الأمة جعلها تنشد الحقيقة، وتنشد الكسب الباقي الدائم، ولا تكترث بالفورات العابرة والانفعالات السطحية والنجاحات التي تبهر آنا ثم تنطفئ.

فنحن أيها الرفاق عندما تتذكر هذه الدوافع وهذه المرامي التي كانت وراء نشوء حزب البعث، فلكي نستمد من ذلك عبرا وثقة بالنفس لكي نتابع الخطى بروح الايمان والتفاؤل ولكي ندرك جدية المعركة التي تخوضها الأمة العربية في هذا العصر فهي معركة قاسية، معركة بقاء، او اندثار، معركة وجود أصيل، او وجود هامشي على هامش الحياة والتأريخ.

أيها الرفاق، أيتها الرفيقات

لا شيء يعدل النزاهة والموضوعية في النظرة من اجل ان تبقى حركتنا وان تنمو وتتقدم وتنضج. النزاهة في النظرة، الصدق مع النفس، الموضوعية العلمية هي التي سمحت وتسمح دوما بان تجدد الحركة ذاتها وان تصحح ذاتها، لأنه لا يفترض في أية حركة وخاصة في ظروف الأمة العربية في هذا العصر ان تأتي كاملة او ان تكون صائبة في كل شيء وبدون خطأ او تعثر فلا بد من التجارب، ولا بد من المحن التي تمتحن الأفكار، والتي تعطي الأفكار حياة وتدخل الأفكار الجديدة في الممارسة والسلوك، لو كان الأمر قراءة كتاب بالنسبة للنهضة العربية لتحققت النهضة منذ زمن بعيد، لان الأفكار مطروحة، ولكن المهم أولا ان تكون الأفكار حية من صلب روح الأمة، ومصلحتها ومعاناتها، ثانيا ان نصل إليها ونفهمها ونتوحد معها وننصهر فيها من خلال النضال، ومن خلال التجارب فتكون عندئذ الأفكار التي تصنع التاريخ. ان حقيقة أساسية يجب ان تُعرف وتكون دوما ماثلة أمامنا، وهي ان النهضة العربية تحتاج الى الروح الثورية والفكر الثوري، إذن لا بد ان نضع في رأس القيم هذه السمة التي ميزت حركتنا والتي انطلقنا منها، وهي أننا أدركنا بان الأمة العربية امتنا بحاجة عميقة قاهرة الى الثورة. أي الى تغيير جذري عميق شامل في كل نواحي حياتها ومجتمعها في الفكر والأخلاق وفي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية هذا الذي لا يدركه الذين يحسبون ان باستطاعتهم ان يبعثوا الروح في الأمة بعد طول هجوع وبعد قرون من الغفوة والتخلف دون هذا الإقبال على الفكر الثوري الذي يغير المفاهيم ويغير النظرة الى الحياة، ويخلق الموقف الحيوي الجديد الايجابي الفاعل ضد الاستسلام والتسليم، ضد التقليد والجمود. الموقف الذي يحرك قوى الإبداع والخلق، يحرك قوى الثورة والتمرد على الواقع المريض، يحرك الطموح والاعتزاز بقدرات الأمة، وان نصل من خلال الثورة والموقف الثوري الرافض للحاضر البائس، الرافض للضعف والجمود والاستكانة، ان نصل من خلال هذا الموقف الجديد الى الأصالة، الى تاريخنا الحي، الى الروح العربية. عندما انطلقت وتجلت على أروع شكل وأعطت أعظم عطاء في عهد البعث الأول، في عهد الرسالة الخالدة، عندما أعطت للعرب و الإنسانية جمعاء عطاء باقيا على الزمن، لم يكن ممكنا ان نصل الى هذه القيم الخالدة إلا من خلال موقف حي، موقف إرادي موقف نضالي موقف خلاّق وبنّاء وبعد ان نكتشف هذه الحقائق من خلال الثورة ندرك حقيقة أخرى ثمينة بلا شك وهي ان الأصالة كانت سابقة للثورة دون ان ندري فالأصالة الحقيقية هي التي تدفع الى الثورة وهي التي تهدي إلى الموقف الثوري، أي إلى الصدق وإلى الحق، وإلى رفض الظلم ورفض الموت ورفض المرض والجمود ورفض الشك والخور، إلى بعث الثقة بالنفس، فتلهم الايمان، الايمان بالإنسان و بالحياة.

أيها الرفاق

نقول أن السمة الأولى لحركتنا كانت في هذا الانتقال النوعي الى النظرة الثورية، وإلى الموقف الثوري، أي إلى روح العصر والتفاعل مع روح العصر لأن الأمة التي تريد ان تنهض، وتريد ان يكون لها شان في العالم، وان تكشف عن حقيقتها وتطلق كل إمكاناتها، لابد لها ان تعيش في عصرها وان تتفاعل معه، هذه السمة الثورية، هذا التفاعل مع الفكر ومع روح الحرية، إذا أردنا ان نلخص روح العصر بكلمات نقول: انها الفكر العلمي وروح الحرية، انها العقلانية التي لم يبلغها الإنسان بسهولة بل دفع أثمانا باهظة دفع الآلام الكثيرة على مد ى أجيال وقرون لكي يصل الى العقلانية التي تسلح الإنسان بما يمكّنه من السيطرة ليس على الطبيعة فحسب، وإنما على نفسه وحياته وحياة مجتمعه، على إرادته وعلى غرائزه. العقلانية التي لها في تاريخنا نصيب كبير وصفحات مشرقة من المفكرين والفلاسفة العرب، هي التي تميز روح العصر في وقتنا هذا والتي كانت الخطوة الأولى الى الثورة في حركة البعث، وهي تتضمن روح الحرية أيضا، لأنها، أي العقلانية هي التي تحرر الإنسان من الوهم ومن الضعف، وتجعل عقله سيد مصيره وتطلق إرادته حرة قادرة. هذه هي السمة التي ان كنا نتذكرها اليوم، فلأنّنا سنبقى دوما بحاجة إلي ان نستعيد الجو والظروف التي تجمعت فكانت الدافع الى نشوء حركتنا. كان هذا الانتقال هو الفاصل، هو الحدّ الفاصل بين المعالجات السطحية وبين الموقف الجدّي، كما قلت كان طموح البعث أكبر بكثير لقد بدأ بالتفاعل مع روح العصر، ولكنه، بدافع من صلته العميقة بالأمة، أوصله الموقف الثوري الى رؤية الماضي الخالد ورسالة الأمة الخالدة في ضوء الحاضر، حاضر العصر وحاضر العرب، فكانت الحقيقة الثانية والمكملة والتي بها وحد الحزب بين مستقبل الأمة وماضيها الخالد، وحّد بين اندفاعها للحياة وبين روحها وقيمها العميقة فكان ذلك الشعور بالاطمئنان وبالارتياح الداخلي العميق بأننا نسير مع التاريخ ونسير مع روح الشعب، ونسير أيضا باتجاه المستقبل.

أيها الرفاق

تعرفون ان مسيرة حزبكم لم تكن سهلة وقد حورب الحزب منذ بدايته وحورب بكل الأسلحة ومن الخارج ومن الداخل وحورب حتى في الأفكار والقيم التي كانت عناوين له وصفات مميزة، فلكم من مرة أتهم في وطنيته واتهم في وحدويته، واتهم في صلته بتراث أمته، أي في أثمن ما يتعلق به، وأثمن ما جاء به ليقدمه طريقا للثورة العربية فكان الافتراء وكان التزوير وكان التشويه دليلا قويا على مقدار الخطر الذي يمثله هذا الحزب على أعداء الأمة، ولكن شعورا قويا عميقا يسري في حياة هذا الحزب منذ بدايته حتى الآن يعزز صموده ويؤجج روحه النضالية واندفاعه للعمل، هذا الشعور هو انه على حق وان هذه الافتراءات ليست إلا بدوافع سلبية عدائية لتعطيل النهضة العربية ولتعطيل دور الأمة العربية في هذا العصر. الحزب كما قلت لكم لا يدعي انه خال من الثغرات لا يدعي انه لا يخطى، ولم يخطى، هذا قدر الحركات البشرية والحزب عمل إنساني بشري تسري عليه القوانين التي تسري على غيره ولكنه يستطيع ان يصحح الخطأ ما دام يشعر بأنه على حق وانه مؤهل ومهيأ ومصمّم على ان يقوم بدور تاريخي في سبيل نهضة الأمة وما دام يمتلك هذا الشعور بأنه نذر نفسه للنضال وللثورة وللبناء من اجل الشعب وبالاتصال بالشعب وبالتفاعل والتعاون الدائم بينه وبين جماهير الشعب، فالأخطاء أيها الرفاق لا تشكل إلا خسارة مؤقتة يمكن تداركها ويمكن تصحيح الخطأ ولكن الشيء الذي لا يتدارك ولا يصحح والذي يشكل خسارة نهائية هو ان يبتعد الحزب، عن طريق الحق وحزبنا إنما يشعر ويثق ويوقن بأنه كان دوما على طريق الحق.

أيها الرفاق

ذكرت بان النزاهة في النظرة وان الصدق مع النفس كانا دوما الواقيين للحزب من الجمود او من الضلال والانحراف، وقد استطاع دوما ان ينهض من عثراته، وان يجدد نفسه ويجدد اندفاعه، ذلك لأن فكرته نفسها تشكل له هذا المحرك هذا المحرض، على المنظر النزيه على مراجعة النفس، على محاسبة النفس، فالحزب هو للعرب جميعا، هو حزب الوحدة العربية هو حزب النهضة العربية لذلك لا يستطيع ان يهدأ ويرتاح أو يفتر، أو يكتفي اكتفاء خادعا، فكرته تحرضه باستمرار على النقد الذاتي تدفعه الى المكان الأرحب والى الزمن الأبعد، الى الوطن الكبير، الى الجماهير العربية الكادحة في ابعد أجزاء وطننا، والى معاناتها والى ظروفها القاسية، فلا يمكن لحزب البعث ان يتجمد على انجازات محدودة مهما تكن رائعة فهو يعرف ان مهمته أبعد وأوسع، كذلك هو ينظر الى الزمن الأبعد، هو ندب نفسه لعمل مستقبلي لعمل طويل النفس لعمل أصيل يصمد للأحداث وفيه مقومات البقاء، وهو لا يكتفي بالنظر الى الوطن العربي وإنما ينظر الى العالم، الى الإنسانية، لان الأمة العربية لا وجود لها و لا معنى لوجودها إلا في قلب الإنسانية متفاعلة معها ومشعة عليها، فالمستقبل العربي لا ينفصل عن المستقبل الإنساني، لذلك فالحزب في جدل مستمر مع نفسه مع أجزاء وطنه الكبير مع الإنسانية وهمومها ومشاكلها ودور الأمة العربية المستقبلي كما يؤملها إليه ماضيها المجيد، وكما تدفعها وتحدوها إليه رسالتها الخالدة، عروبتنا أيها الرفاق ليست مجرد لفظ ليست تسمية ليست صفة وإنما هي محملة بقيم غالية بقيم إنسانية خالدة. فنحن ان كنا متعلقين بعروبتنا محبين لها مدافعين عنها. فمن اجل ان تتحقق هذه القيم وتعلن عن نفسها كما أعلنت في الماضي بشكل خالد على الزمن، هذه العروبة مهما نعمل ومهما نناضل ونضحي ومهما نبدع ونبتكر فسنبقى مقصرين بحقها ولن يكون استحقاقنا لها سهلا. لأنها كما قلت حاملة قيم ورسالة وحاملة آمال عظيمة لأجيال مقبلة من الأمة العربية.

أيها الرفاق

قلت لكم ان الحرب على الحزب لم تهدأ ولم تفتر منذ ظهوره حتى الآن لأنه برهن على امتداد أربعة عقود من الزمن على انه الحركة الوحيدة الحية المتماسكة ذات الشخصية المميزة التي صمدت للزمن والتي يكتب لها ان تبقى وتستمر، لذلك فهو هدف الأعداء ومن خلال الحزب يريدون ضرب الأمة وضرب مستقبلها وإمكانات هذا المستقبل. ان العداء الذي وُجّه للأمة العربية في هذا العصر وما يزال لم يوجه لأي شعب في العالم لأي بلد في العالم. لم يهدأ هذا العداء منذ عشرات السنين وانتم تعرفون التاريخ وهو مستمر في هذا العصر. الحروب الصليبية لم تنته بعد وصيغتها الأخيرة هي الكيان الصهيوني كما تعرفون وصيغتها الأخيرة هي زرع هذا الكيان ليكون عقبة كأداء في قلب الأمة العربية ليشغلها عن بناء نهضتها ليزرع الفتن والانقسامات في داخلها ليجلب العدوان بين الحين والآخر عليها. لم يعرف شعب من الشعوب مثل هذه الوسيلة التي لجأ إليها الغرب الاستعماري ليدمّر حياتها ونهضتها بإقامة هذا الكيان المصطنع، ونضالنا يجب ان يكون في مستوى هذا التآمر التاريخي. ولذلك قلنا النهضة العربية لا تستطيع ان ترضى بالإصلاحات العادية بالتغيير السطحي، لأن ذلك لن ينقذ الأمة. فالإنقاذ يكون بمستوى العداء الموجه الى أمتنا وهذا كان واضحا للحزب منذ بدايته بان نطلق طاقات الجماهير العربية كلها فتكون قادرة على رد هذا العداء وعلى تصحيح ما أفسده الأعداء في حياتنا، لكي تكون نهضتنا قادرة على التكافؤ مع أعدائنا ومع أسلحتهم الخبيثة المدمرة لابد ان نرجع الى فكرتنا الاساسية بان الثورة العربية يصنعها الشعب العربي تصنعها الجماهير العربية الكادحة الواسعة، أي ان نوصل أفكار الثورة الى أبعد نقطة من وطننا الكبير، الى أعمق مستوى من مستويات حياة الشعب والطبقات الشعبية، ان نحرك الوعي والروح في شعبنا، ان ندخله في جو العمل التاريخي، ان يشعر الشعب بأنه إنما يعمل للأجيال المقبلة لبقاء الأمة لعزة الأمة لكي تستعيد مجدها ولكي تنشر رسالتها، الخبز مطلوب، المادة مطلوبة لكي نرفع مستوى جماهير شعبنا. ولكن الشعب العربي لن يقنع بحياة مادية لن يكتفي بان يضمن احتياجاته المادية انه يطلب البطولة ويطلب الشهادة في سبيل أمته، حركة البعث أيها الرفاق من بدايتها كما قلت تُوحّد بين الايمان وبين روح العصر. ابتدأت بالثورة نتيجة تفاعلها مع روح العصر ولكنها أدركت ان هذا نصف العمل وان هذا نصف الحقيقة، حقيقة الأمة العربية لا تكتمل إلا بالإيمان إلا ان تسري روح الرسالة في جماهير هذه الأمة وان تشعر بأنها تقدم شيئا ثمينا للحياة وللإنسانية وللمستقبل وللخلود ونحن سائرون على الطريق أيها الرفاق طريقنا طريق الحق والصواب نشعر لأول مرة في تجربة حزبنا في هذا القطر العظيم بان الأفكار أصبحت لها قيمة وقيمة حقيقية. ان الأفكار أصبحت تنبت حياة.. نشعر بثقة ونؤمن بأنه لأول مرة توجد سياسة مقترنة بروح الرسالة نشعر لأول مرة بان الكلام ينبع من الضمير ومن الصد ق وما علينا إلا ان نتابع السير ونضاعف الهمّة ونعزز الايمان. ان ما تحقق حتى الآن ليس بالشيء البسيط إذا قيس بما نراه في أجزاء وطننا الممزق وأثمن من كل المنجزات المادية. أيها الرفاق الأمور المعنوية هي هذه الصفات وهذه السمات التي تتجلى في مسيرتنا وفي تجربتنا والتي قد تمضي أحيانا مئات السنين ولا يتوافر مثلها. هنا اتخذ البعث صورته التاريخية كحركة أجيال عربية تدرك مهمتها التاريخية، هنا اتخذ البعث صورته الصادقة لأنه تجديد، ولو ضمن الإمكانات البشرية وفي الحدود المتواضعة للعرب في هذا العصر وفي هذه الظروف الصعبة، المريرة اتخذ البعث هنا صورته بأنه تجديد للقيم الروحية والأخلاقية التي عرفتها ارض العروبة في عهدها الذهبي. إننا لا نقنع بما حققناه. هو كثير بالقياسات النسبية إذا قيس كما قلت بما نراه في أجزاء الوطن ولكنه قليل وقليل جدا إذا قيس بأهداف الأمة العربية وأهداف حركة البعث وبما تحتاجه الأمة العربية من نضال ومن تضحية ومن عقول نيّرة مبدعة تغير الواقع وتقتحم أسوار التجزئة وتنجد الإخوة العرب حيث يعانون المحن. لا ننسى ما حل بمصر لا ننسى المحنة التي يعانيها شعبنا في مصر، نؤمن بأنها محنة عابرة ولكنها قاسية وتتطلب جهودا وآلاما كثيرة حتى ننقذ مصر من براثن الأعداء الذين ورّطوها في مؤامراتهم وأرادوا فصلها عن الجسد العربي وعن المصير العربي، ومنْ غير حزب البعث بعروبته المحبة الحانية الشاملة يستطيع ان يحمل الى جماهير مصر عون الأخ لأخيه مع ثقتنا بان جماهير مصر لن تسكت على ضيم وان عروبة جديدة نقية مصهورة بالألم ونار الثورة ستولد او هي في طور الولادة في مصر المناضلة، ومن ينقذ سورية التي تعيش مأساة التزوير ومأساة التشويه للحركة التي كانت سورية مهدا لها، من ينجد شعبنا الأبي في سورية وهو يعاني يوميا من القمع الوحشي، ان مهمات حزبنا أيها الرفاق كثيرة وواسعة ولا أذكر فلسطين وبطولات شعبنا في تصديه للاحتلال الصهيوني، لان فلسطين أصبحت الأرض العربية كلها والشعب العربي كله فحيث ينبض عرق للعروبة توجد فلسطين بكل معاناتها وبكل آمالها في التحرير.

أيها الرفاق والرفيقات :

إنني سعيد بهذا اللقاء متفائل الى أبعد الحدود مؤمن كل الايمان بقدر حزبنا وبعظم دوره في حياة العرب الحديثة وبأنه سيبقى وسيؤدي الرسالة. وسوف اكتفي وأقدر ان لديكم أسئلة تجول في ضمائركم وأذهانكم وأنا بشوق وحاجة الى ان اسمع مباشرة ما يجول في عقول رفاقي المناضلين في هذا القطر، لذلك اترك لكم المجال لطرح الأسئلة.

 

***

أسئلة و أجوبة

 

● برزت في الآونة الأخيرة مسألة - وإن لم تكن جديدة في تاريخنا العربي- هي الصراع العربي الفارسي، وقد تزامنت مع مخططات مكشوفة للامبريالية والصهيونية في المنطقة، ما هو في تصوركم البعد التآمري لهذا التحرك الامريكي – الصهيوني- الشعوبي الجديد ؟

النقطة الأولى عن الصراع العربي الفارسي، ما عودتكم أيها الرفاق إلا الصدق والمصارحة، فأنا أقول انه بالنسبة لما تم في ايران منذ سنة وأكثر من ثورة شعبية أسقطت حكما باغيا فاسدا تحت شعارات روحية إسلامية هذا شيء لم يسُؤنا بل أفرحنا واهتززنا له وتجاوبنا معه وقلنا حيث يكون الاسلام يكون نفس من العروبة. ولكن مع الأسف الشديد تطورت الأمور الى ما نراه ونشاهده. لقد بينت في كلمتي أيها الرفاق بان الحزب لن يرضى لأمتِه إلا بالأسس المتينة الصلبة القابلة للحياة والاستمرار من اجل نهضة أصيلة وتاريخية، ولذلك كان أول تعبير للحزب هو فكره الثوري وتفاعله مع روح العصر ثم اتصاله بالتراث الخالد. ففقدان نصف الشرط لاكتمال الثورة أو العقل الحديث العقل النير الفكر العلمي يوقع في مثل هذه الانحرافات ويلقي ظلالا على المبادئ السامية، إن هذا الصراع الذي نلمس او نتابع تطوراته وآثاره يوما بعد يوم ليس من العدل في شيء وليس من النزاهة في شيء ولا يمت الى القيم السامية التي ينتسب إليها، لان العراق بما يشكل من قوة عربية سليمة جدية تبني نفسها كل يوم من أجل مجد الأمة العربية ومن اجل معركة حريتها ومن اجل وحدتها بنفس صادق أخلاقي. هذا القطر لا يجوز ان يعامل وكأنه هو الممثل للفساد ولما شاهدوه وعانوه في بلدهم فشتان بين ما كان سائدا زمن الشاه، وبين الحياة الصحية السليمة التي يحياها العراق. ان أي منصف يستنكر هذا التجني ولا يسع المنصف إلا ان يرى روح الأحقاد التاريخية وغير التاريخية وراء هذا التجني غير المشروع وغير المبرر.

نحن أيها الرفاق نريد أمتنا ان تجسد قيمها الروحية الإنسانية التي تجاوزت كل العنعنات والعصبيات الجاهلية والقبلية والعنصرية. نحن نؤمن بان الأمة العربية في مستقبلها وفي دورها الحضاري في العالم ستتجاوز كل ما نراه على الساحة الدولية من شراهة في الاستغلال ومن قسوة في التناحر ومن همجية متلبسة بلباس الحضارة، نريد هذه القومية العربية المشبعة بروح القيم الأخلاقية المستلهمة لروح السماء ولا نريد ان نرجع القهقرى الى العصبيات عصبيات بين عنصر وآخر وبين شعب وآخر..فنحن في موقف الدفاع ليس بمعنى الضعف ولكن بمعنى أننا لم نرد هذه المعركة ولا ترضينا، ولكننا لم نضعف أمامها ولن نضعف.

اما محاولات الامبريالية للاستغلال فهذا شيء محسوب دوما وهل للامبريالية عمل إلا عمل الشر، إلا الاستغلال وإلا الإفساد وإلا التآمر؟ وما دمنا متنبهين ويقظين وما دمنا متوجهين الى جماهيرنا في هذا القطر أولا والى الجماهير العربية المناضلة ضدّ الامبريالية وضدّ الصهيونية وضدّ كل استغلال وكل نفوذ أجنبي فإننا لن نقع في لعبة الامبريالية أو غيرها.

 

تتعرض منطقة الخليج العربي لأخطار مصيرية ولتحد امبريالي من نوع جديد، فقد جاء في احدى المحاضرات بان نسبة السكان العرب أصبحت لا تتجاوز %25 من مجموع السكان، فما هي مؤشرات الحل كمدخل لدرء هذا الخطر؟.

بالنسبة للخليج العربي أولا هذه أوضاع نعتبرها مؤقتة تزول بزوال النفوذ الأجنبي والسيطرة الأجنبية والامبريالية كما تزول بوحدة العرب وعندها ستبقى أرض العرب للعرب وسيعيش عليها العرب والأقليات التي ترضى بقوانين الدولة العربية وتُخلص لمبادئ الدولة العربية. ولا يؤذينا أن يكون بيننا بعض او أعداد قليلة من غير العرب إذا كانوا مخلصين وغير مزدوجي الولاء، ثم ان في السياسة التي ينتهجها الحزب ممثلا بقيادة الثورة في العراق وبالرفيق القائد صدام حسين ما يسهل مهمة تجنيب الخليج مثل هذه المخاطر، أي هذا الانفتاح الذي تمثله سياسة القطر تجاه دويلات الخليج يعزز عروبة الخليج ويعزز ثقة شيوخ هذه الإمارات والدويلات بأنفسهم امام الضغط الفارسي او الإيراني ففيه كما نلمس جميعا إنعاش للروح العربية في الخليج وتصليب لموقف الحكام رغم أننا لا نجهل حقيقة هؤلاء والأسس الضعيفة التي تقوم عليها كياناتهم وارتباط هذه الكيانات المصطنعة بالمصالح الأجنبية.

 

● ما هو في تصوركم مستقبل الصراع على الساحة اللبنانية بضوء ظهور كيان جديد في جنوب لبنان، وسعي العدد من الأطراف السياسية اللبنانية الى الإعلان عن قيام كيانات مصطنعة مستقلة عن لبنان العربي الموحد؟

الجواب لا يختلف عن الجواب السابق لان هذه المشاكل الجزئية يفتعلها الأجنبي يفتعلها المستعمر والعدو الصهيوني لإشغال الأمة ولتبديد قوتها ولزيادة انقساماتها وان أي تقدم يحرزه النضال العربي وتحرزه حركتنا وقطرنا المناضل ينعكس ايجابيا على هذه الساحات الصغيرة، فتذكروا قبل عام يوم كان هناك مشروع علقنا عليه الأمل فترة من الزمن مشروع الوحدة بين العراق وسورية فبمجرد ان أعلن عن هذا المشروع تغير شيء في لبنان وصار يحسب حساب للدولة الجديدة التي يمكن ان تقوم وتضم أكثر من (20) مليون عربي وتمتد من الخليج الى البحر المتوسط وفيها حزب عربي مناضل ضد الامبريالية وضد الصهيونية. فالأدوات العميلة بدأت تخاف وتحسب حسابا للمستقبل، ولكن لما طُوي المشروع عادت الى سابق عهدها، فنحن أمامنا دوما مهمات عاجلة ومهمات آجلة، المهمات العاجلة هي ان نعالج هذه الانقسامات وهذه التراجعات بما يخفف أضرارها وبما يحد من رقعتها ومن امتدادها، والمهمة الآجلة هي ان نعمل للأهداف الكبرى للمعركة الكبرى لمعركة الوحدة لمعركة التحرير وعندها تكون مثل هذه الحالات هينة وحلها غير عسير.

 

ظهرت خلال الفترة الماضية من مسيرة الحزب النضالية، العديد من الانشقاقات، وفي أكثر من قطر عربي، عرّضت الحزب لمخاطر حقيقية، فما هي العوامل التي أدت الى مثل هذه الانشقاقات؟.

الحزب أيها الرفاق حركة تعمل ضمن الواقع العربي وضمن المجتمع العربي بكل ما فيه من أمراض ومن تدخلات أجنبية استعمارية ومصالح رجعية معادية للثورة ولنهضة الأمة، الحزب لا يعمل في الفراغ ولا يعمل عملا نظريا وإنما لابد ان يصادف مثل هذه الصدمات - لابد ان تتسرب حتى الى داخله بعض الأمراض - المهم هوان يقوى على المرض، ليس الحزب معصوما لا من الخطأ ولا من المرض ولكن عليه ان يبرهن بان بنيته صحيحة وقوية وأنه رغم الانشقاقات فهو باق وخطه الأساسي الأصيل باق يتابع السير.

 

● وردت عبارة في الكلمة التي ألقيتموها في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في شباط عام 1964، هذا نصها " أنا لست ضد الماركسية ولكن البعث هو اشتراكية علمية زائدًا روح"، فهل لكم توضيح ذلك؟

الحزب تميز عن الماركسية ولكنه لم يعتبرها عدوا. لقد وجدها ناقصة وغير ملبية لحاجات الأمة العربية. وقد تصلح لان تهتدي بها حركات أخرى في بلدان أخرى. اما القول بان اشتراكيتنا علمية فانا قصدت ليس الاصطلاح وإنما المعنى الحقيقي للفظة علمية.. اصطلاح الاشتراكية العلمية محتكر للماركسية ونحن نجادل الماركسية في هذا ولا نعترف لها بصحة هذا الادعاء بان اشتراكيتها هي وحدها العلمية، نحن بنينا اشتراكيتنا على أساس علمي ولم نكتف بالعلم لان حركة البعث كما قلت لكم من الأساس اعتبرت ان نصف الحقيقة ونصف الثورة هو التفاعل مع الفكر العلمي. ولكنّ الروح هي الأساس ولذلك قلت بان اشتراكيتنا هي علمية وأيضا هي روح - أي قيم روحية وأخلاقية-.

 

حقق الحزب في العراق قبل وبعد ثورة السابع عشر - الثلاثين من تموز 1968، من الانتصارات والمنجزات ما عجز عن تحقيقها في أي قطر عربي آخر، رغم ان ظروف النضال في العراق تُعدّ أعقد وأصعب منها في كثير من الأقطار العربية الأخرى، ما هو تفسيركم لذلك؟

مسيرتنا أيها الرفيق طويلة وطموحاتنا بعيدة وكبيرة، ولذلك لا نعتبر ان الفترة التي مرت على الحزب حتى الآن هي فترة طويلة جدا، بل نعتبرها مقدمة لنضالات مقبلة، الوطن العربي فيه اختلاف وتباين في الأوضاع الاجتماعية والسياسية وفي المستويات الحضارية والثقافية ويختلف أيضا من حيث الموقع كل قطر، الموقع القريب من الساحة الساخنة او البعيد كثيرا او قليلا عنها، الحزب في سورية بنا أشياء كثيرة وثمينة - الحزب في سورية بقي حتى عام 1958 عندما أسهم في تحقيق أول تجربة وحدوية منذ مئات السنين والتي ما كانت لتقوم لولا الحزب، لكنها فشلت لان الحزب كان مبعدا عنها - الحزب في سورية خاض نضالات عديدة معروفة ونشر فكرته على امتداد أكثر من عشرين سنة ولكن مواطن ضعف ذاتية في الحزب يضاف إليها ظروف لم يكن الحزب مسؤولا عنها مسؤولية مباشرة أو حقيقية جعلته في حالة تمزق وضعف - وهذا كما اعتقد غير خاف على البعثيين-الحزب ضحى بتنظيمه في القطر السوري من أجل ان يقوم انجاز قومي كبير هو وحدة سورية ومصر جاءت النتيجة على عكس ما أراد الحزب وتمنى جاءت النتيجة ان هذا الانجاز فشل وخرج الحزب منه جريحا مثخنا وممزقا أي لم يحتفظ بوحدته، بل انقسم وتفرق وجاء انقلاب 8 آذار في عام 1963 الذي كان هو الى حد كبير نتيجة الدفع الذي أعطته ثورة رمضان في العراق، جاء والحزب لمّا ينهض بعد من عثاره وهكذا تسلط عليه العسكريون والبقية معروفة، فإذن التساؤل هل كان بمقدور حزب البعث ان يحجم عن اهتبال الفرصة التي سنحت في إقامة وحدة... إقامة تجربة وحدوية ضخمة في ذلك الحين في الخمسينات، وأثر عبد الناصر في الحركة المقاومة للاستعمار مع حزب البعث كان شيئا كبيرا، ولكن التجربة فشلت وكان هذا أهم سبب في ضعف الحزب، اما في الأقطار الثانية لم تقم حتى الآن تجارب ناجحة، هذه لم تتهيأ فيها بعد القوة الحزبية الكافية، هناك تنظيم حزبي يمشي ويسير و يتقدم في بعض الأقطار ولكن يحتاج أيضا الى استكمال بعض عناصر القوة، الفرصة قائمة ومفتوحة بالنسبة للحزب على امتداد الوطن العربي وإذا استطاع الحزب في العراق أن ينجح في إقامة هذه التجربة فهذا طبعا بالدرجة الأولى لمزايا اختص بها حزبنا في العراق مزايا معروفة ومقدرة كل التقدير، وأيضا لأنه أفاد من كل تجارب الحزب السابقة من النجاحات والنكسات على السواء فتجربة الحزب هنا هي أيضا حصيلة لتجارب الحزب كلها.

19 نيسان 1980

(1) حديث في مدرسة الإعداد الحزبي بتاريخ 19 / 4 / 1980.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث