ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


التراث يعطي الأمة شعورا بوحدتها

وطموحا الى تجديد رسالتها

 

 

بعد 23 شباط 1966، وخلال اختفائي في دمشق، استعرضت في ذهني تأريخ الحزب(1)..

في أوائل الأربعينات كان هناك في نظرنا، العرب، وأوربا، وكانت فرنسا تحتل سوريا ولبنان وأقطار المغرب العربي.. وكان لجيلنا أن نما وكبر في جو الإحتلال. فلسطين كانت في أذهاننا دوما. وكذلك الأقطار التي كانت تحت الإحتلال البريطاني. واذا كان هناك شيء آخر فهو شيء بعيد، وباهت.

مِن هنا تشكلت بداية الحزب الفكرية، كما تحدد الموقع المصيري الذي يكون الفكر تعبيرا عنه واتساعا له. ومن جهة ثانية فإن أوربا ولدت نظاما جديد، هو الحزب الشيوعي السوفيتي.. وله حزب شيوعي في وطننا..

إذاً، كان هناك استعمار غربي، وحركات تدعو للتحرر بمفاهيم غربية. يقابل هذا الشيوعية، وهي حركة قوية تخاطب عقول الشباب وليس الجماهير.. وهي وإن كانت من نتاج التفكير والثقافة الغربية، إلا أنها كانت مرتدة عليها، وناقدة لأسسها.

لقد كان الصراع المباشر مع الغرب.. أما الصراع غير المباشر فكان مع الشيوعية، كحل ممكن وقابل لأن يحتل عقول الأجيال العربية.

مرحلة الثورة، أو التهيؤ للثورة لا تكون خصومتك الفكرية مع الرجعية -وإن كنت تحاربها- وإنما تكون مع الذي يحارب الرجعية ليأخذ دورك. ومن هنا كان ما يشغلنا هو: كيف نستطيع محاربة أوربا الاستعمارية في الوقت الذي نتفادى فيه خطر الشيوعية، كفكر يؤثر على عقول الشباب ويجعل من نفسه البديل لحركتنا ؟

هنا لا بد ان نتساءل: كيف نكون ثوريين اشتراكيين مجددين وفي الوقت نفسه نرى في الشيوعية خصما فكريا بدلاً من أن نرى فيها صديقا وحليفا. علما بأننا كنا من الناحية السياسية نقدّر دور الإتحاد السوفيتي في السياسة الدولية ونعرف نقاط الالتقاء الحتمي بين مبادئه ومصالحه وبين طريق الثورة العربية؟

لو لم نكن واثقين من صحة منطلقاتنا ومن أن لنا دورا أساسيا في حركة الثورة العربية، لما كنا أجزنا لأنفسنا أن نهاجم الشيوعية ونخاصم الشيوعيين في السنوات الأولى لنشوء حزبنا، بل لجاز أن نرى فيها حينذاك، مثلما نرى اليوم، لونا تقدميا وحليفا. ولكن المسألة كانت مسألة صراع حيوي على الدور القيادي لحركة الثورة العربية، فضلا عن أن الصيغة الستالينية قبل ثلاثين عاما كانت عاملا هاما في خلق تلك الفجوة بيننا وبين الشيوعية.

قراءة جديدة للإسلام كشفت لنا عن حقائق أساسية في روح شعبنا ونفسيته وأضاءت لنا طريق العمل الثوري.

وثمة واقع ذاتي جاء في الوقت نفسه تعبيرًا عن واقع موضوعي.. الواقع الذاتي هو أنني شخصيًا، في بداية تكوين الحزب، اكتشفت الإسلام. أقول اكتشفت ولا أعني أنني لم أكن أعرف الإسلام -فقد كانت هناك ألفة منذ الصغر- اكتشفت الإسلام كثورة.. كتجربة ثورية هائلة، وقرأته قراءة جديدة من هذا المنظار.. في أنه: عقيدة، ونضال في سبيلها.. وقضية هي قضية أمة، وقضية إنسانية. بل إنه قضية أمة بتصور إنساني أوسع.. ونضال على أروع ما يكون بأعلى مراحله وبما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف، إلا أنه أيضًا دين، فهو تجربة ثورية، السماء فيها متداخلة بالأرض.

لولا هذا الاكتشاف لما كان مستبعدا أن يأخذ تفكيرنا، كشباب مثقف مخلص لبلده يريد أن يعمل شيئا، بإحدى الصيغ: إما التحرر بالصيغ الغربية.. وهذه كانت معروفة عند الكثيرين ولم تكن شيئا معيبا.. وإما صيغة أخرى أحدث وفيها نزعة تقدمية، وجديدة.. وهي صيغة الماركسية، أو الشيوعية وفيها النقد للمجتمع والاستغلال الرأسمالي والطبقي. كل هذا كان واردًا. وقد مشى عشرات المثقفين العرب في هذه السُبل.

لماذا اختط حزب البعث طريقا خاصا به؟

هذا أمر لم نتحدث فيه، لأننا لا نريد الدّعاية.. ولكن بعد أكثر من ثلاثين سنة من نشوء الحزب علينا ان نذكر ذلك ونقول: ان الفضل في ذلك يرجع الى اكتشافنا الاسلام.

ان المسلم لا يكتشف الاسلام.. وكذلك البعيد عن الاسلام، الذي يكتشف ينبغي ان يجمع بين الاستعداد النفسي وبين الجدة.. أي ذلك الذي لم تُضعِف العادة والألفة حساسية عينيه وأذنيه.

فالمسلم الذي نشأ في بيت مسلم منذ طفولته، واعتاد دوما سماع الكلام عن الاسلام، يتكون عنده نوع من الضعف في رهافة الحس والذهن، فلا يرى الجديد في هذا الكلام، ولا يدرك المعنى العميق والهزة الروحية.. كما يحصل حين يهزك الكلام الذي تسمعه لأول مرة.

ولكن هل اكتشاف الإسلام وقراءته قراءة جديدة هو، فقط، ان شخصا وضع جهده وقرأ الاسلام قراءة جديدة ؟

لا، فهناك ظروف موضوعية للأمة العربية.. للثورة العربية، هي مواجهة الاستعمار الغربي والحضارة الغربية، والسؤال عن سبيل الخلاص، عن كيفية الإنقاذ. كيف نتحرك؟ كيف نتقدم؟ هل بالشيوعية؟.

قرأنا الاسلام. هذا الاسلام هو: الاسلام بعد قراءة الشيوعية.. بعد مواجهة التحدي الاستعماري الغربي وحضارته وبعد الاطلاع على الحل الثوري الشيوعي الآتي من الغرب أيضا. فهي، إذا، قراءة من خلال موقف مصيري من تحديات الاستعمار والحضارة الغربية، ومن تحديات الفكر الشيوعي.

المهم هو هذه الصورة التي انطبعت اثناء القراءة الجديدة للإسلام، والتي أعطت أشياء أساسية، بعضها واضح، وبعضها واقع بين الوضوح والإبهام..

 

إن الأمة التي يختارها القدر لتكون مسرحا لمثل هذه التجربة البشرية السماوية، هي أمة حكم عليها وإلى الأبد، ان تكون متميزة عن باقي البشر، لأنها ذاقت طعم شيء لم يشاركها احد فيه. ونحن هنا نستبعد -طبعا- كل المعاني السطحية لهذا الكلام، كالغرور والانتفاخ والتفاخر.. فليس هذا هو المقصود عندما أقول أن الأمة العربية تميزت بهذا الحادث الفريد الذي طبعها الى الأبد.. وإنما فعلا، لا يمكن ان تستطيب شيئا اقل من مستوى الوحي الإلهي.. الشيء السماوي الذي هو أيضا، بشري متجسد في عقل بشري واضح.

عندما نضع يدنا على هذه الميزة التي للأمة العربية بهذا الوضوح وبهذه الواقعية، وهذه القوة، فلا شك انها توحي بطريق خاص للثورة العربية ليس المطلوب فيه ان نخالف العقل البشري، او ان نخالف العصر والقوانين العلمية. فمن ضمن القوانين البشرية، ومن ضمن قوانين العقل والعلم يعطي هذا الاكتشاف لحركة الثورة العربية خصوصية.. يعطيها مستوى، وأخلاقية معينة.. كما يعطيها سعة إنسانية، وكونية.. يعطيها اتساعا وشمولا.

قلت ان المواجهة كانت بالدرجة الأولى مع الشيوعية، فنتيجة تقدير لأهمية الشيوعية في هذا العصر ونتيجة حساب بأنها قد تكون البديل لفترة من الزمن، وبالتالي تصبح عامل تشويش وتضييع للوقت على الثورة العربية.. ونتيجة الإحساس بان الثورة العربية لا بد ان تكون جذرية وحاسمة، نظرا لفداحة الأخطار وضخامتها -الأخطار المحيقة والنازلة بالأمة العربية من الاستعمار والصهيونية- ونتيجة الإحساس بان الغرب يتابع حربا مزمنة ضد الأمة العربية منذ مئات السنين.. واحتمال ان تجد الشيوعية قبولا -خاصة ان وراءها دولة عظمى هي الاتحاد السوفيتي- لأنها حل جذري وحاسم ويمكن ان يظهر بأنه متكافئ، مع الأخطار والقوى المعادية للأمة العربية.. فنكون قد دخلنا في متاهات ليس لها آخر.

ولكننا كنا ندرك، نتيجة اكتشافنا للتراث، بأنه بالرغم من كل هذه الاعتبارات فإن الأمة العربية لا يمكن آخر الأمر ان تقبل بالشيوعية.

لا أريد القول ان الأفكار كانت كلها جديدة. لأنها في الجو العربي.. ولكن الحزب كثفها وأحس بها بقوة اكبر، انبعثت كلها من لحظة اللقاء مع التجربة الخالدة. لذلك بدأنا من وحدة الأمة. كانت الأمة مجزأة، والقطر الواحد مجزّأ ومشتت. لكن وحدة الأمة واجهت رسالة أخرى، هي رسالة الشيوعية. الأمة العربية لها رسالة لا تستطيع التنازل عنها وتبنِّي غيرها. فالأمة العربية شغلت بحضارتها ثلث التاريخ البشري، كانت هذه الحضارة احدى الحضارات الإنسانية الثلاث المؤثرة.

على ضوء تجربتنا القومية وقراءتنا لتراثنا، فسرنا الشيوعية انها "رسالة الأمة الروسية" فالشيوعية نظرية معروفة لأوربا بصورة خاصة وللعالم بصورة عامة.. وقد وجدت الظروف الملائمة لها في هذا البلد غير المصنّع خلافا لقوانينها نفسها. الأمة الروسية التي كانت متخلفة هي التي تبنت الشّيوعية. إذن كانت الأمة الروسية في حالة تأهب لإعطاء مساهمة حضارية عالمية.. يُنبئ بذلك الكتّاب الذين ظهروا فيها كتولستوي ودوستويفسكي ودللوا على ان هذه الأمة كانت مهيأة للعطاء الحضاري.. فتلقت الماركسية وجعلتها مناسبة لإنضاج الحالة الثورية التي كانت تتمخض عنها.

من غير المنطقي ولا المقبول، الحديث عن الرسالة، بدون إرجاع الأمة العربية الى وحدتها الكاملة، فالأمة العربية في عودتها الى تراثها تشعر بأنها امة واحدة وان لها رسالة لا يمكن ان ترضى عنها بديلا.

ولكنها في واقعها الراهن أمة مجزأة الى أقطار ودويلات بعضها يخضع للاحتلال والاستعمار الأجنبي وكلها تعاني التخلف الحضاري. وعندما تدخلها الحركة الشيوعية فإنما تدخل على أجزائها في ظروفها المتخلفة الضعيفة، وهنا يظهر الخطر نتيجة عدم التكافؤ بين وضع القطر العربي المدرك لضعفه وعزلته وبين الحزب الشيوعي الذي يخاطبه ويتعامل معه باسم "النظرية العلمية" العصرية وباسم الحركة العالمية وبالاستناد الى نفوذ إحدى اكبر دولتين في العالم.

فالتراث وحده يعطي الأمة شعورا بالوحدة كما يعطيها حق الطموح الى حمل الرسالة.

 

قراءة التراث تعطي للثورات في العالم، ولثورات هذا العصر، بما فيها الثورة العربية، نسبية معينة، لأنها جميعا ثورات بشرية بحدود طاقة الإنسان، مهما بلغت هذه الطاقة. وتجربة الأمة العربية من خلال الإسلام فيها شيء مطلق.. في حين ان كل شيء آخر نسبي، قد يعيش عشر سنوات، أو مائة سنة.. ولكن ليس فيه الخلود.

هذا بالذات أعطانا جرأة معينة لنقد الشيوعية، تجاوزنا أوضاعنا القومية الى الأوضاع الإنسانية عامة. أي ان نقدنا للشيوعية لم ينحصر في أن الشيوعية لا تلائمنا كعرب، بل تعداه إلى الكشف عن النقص الأساسي في هذه النظرية بالنسبة للعرب ولغيرهم.

عندما نقول ان القومية شيء خالد، وان الشيوعية قفزت من فوقها وأرادت ان تحطمها، فإننا نكون قد وصلنا إلى ان نكتشف شيئا له صفة الشمول، بالمعاناة كأمة وكعرب. تأتي نظرية ثورية وتدّعي انها تقدم لنا الحل للخلاص، ولكن بثمن باهظ لا يمكن ان نقبل به.. أن نعتبر قوميتا مرحلة وشيئًا من مخلفات الماضي (2) فتقرير حقيقة العامل القومي شيء إنساني.. وهو شيء عام وليس خاصًا.

أشرنا إلى نقص أساسي في الشيوعية وفي الماركسية، يصحّ على العرب كما يصحّ على غيرهم من الأمم، وها هو الحزب الشيوعي الفرنسي يعود اليوم الى المواقع القومية.

من الطبيعي أن نكتشف حقيقة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى، وهي حقيقة الدين، فطريق البعث كان نتيجة اكتشاف الإسلام، كدين وتراث، وإذا كان للتراث صفة قومية فان الدين شيء إنساني لا ينحصر بالعرب، والدين بصورة عامة حقيقة إنسانية إلا ان عوامل سلبية قد تطرأ عليه فتشوهه، وتضعفه، وتجعله أحيانا عامل تخلف، وعامل استغلال وعبودية، ولكنه في الأساس شيء ايجابي موجود في أعماق النفس البشرية..

استلهام التراث يعطي الثورة شيئا مميزا، هو أخلاقية متميزة، فالنظريات الاجتماعية التي كانت أساسا للحركات والانقلابات في هذا العصر، أخذت المجموع كعامل أساسي، كما أخذت العوامل الموضوعية (الاقتصاد في الشيوعية مثلا، والعنصر والمميزات البيولوجية في النازية).

التراث يبرز أهمية الفرد والإنسان، دون التقليل من أهمية الجماعة ومصلحتها وقوتها وتنظيمها. ولكن الأساس في الجماعة هو الفرد.. الإنسان الذي له عقل وضمير وسلوك.

ان الأمانة للماضي هي في الاختلاف عنه، وبمقدار ما نختلف عن الماضي نكون أوفياء وأمناء له. فالذي يريد ان يكون مثل عمر بن الخطاب في هذا العصر يجب ان لا يكون نسخة طبق الأصل عنه وإنما يجب ان يتوخى ان يكون ذا تأثير يوازي تأثير عمر بن الخطاب في زمنه، وهنا يتضح الفرق بين التقليد وبين الإبداع.

فإذا أردنا ان نفهم الماضي فهما إبداعيا فيجب ان نأخذ منه الروح والجوهر، الذي يعني الثورة، فإذا كنت مؤهلا للإبداع تتمكن ان تعطي أشياء يختلف ظاهرها كل الاختلاف عن الماضي، ولكنها على العموم، التعبير الأمين عن تأثرك بالتراث، فقد أخذت من الماضي الجوهر الذي هو في حقيقته الثورة على البالي، على الضار، وعلى الفساد من اجل تجديد الحياة.

فنحن ضد تمجيد التراث وتعظيمه بدافع الرّهبة منه والشعور إزاءه بالضعف والعجز، وضدّ النظرة الخارجية للماضي، القائمة على التقديس والذوبان أمامه، وإنما نحن مع المشاركة والمعاناة والوصول الى التقديس نتيجة الفهم الواعي، والى الإعجاب عن طريق المشاركة الفعالة حسب ظروف عصرنا.. لان الإعجاب بالتراث وتقديسه لا يأتي من مجرد الوقفة المنبهرة امام عظمته، وإنما من استيعاب روحيته والعمل بوحي منها. فالنضال ودفع ضريبة النضال لقهر المجتمع الفاسد، المجتمع القديم البالي، وبناء المجتمع الجديد هي الفهم الحقيقي، وبالتالي هي الاقتراب الصّادق من روح الاسلام، الذي هو عقيدة، وجهاد في سبيل العقيدة.

ان العلاقة بالتراث يجب ان تمر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: - مرحلة الاطلاع على التراث لاكتشافه وفهمه.

المرحلة الثانية: - الافتراق عنه، بحيث نسير في طريقنا الخاص، طريقنا المتميز، الذي هو قدرنا، بعد تأثرنا بهذه الرؤية.

المرحلة الثالثة: - الالتقاء من جديد بالتراث بعد ما نكون قد أدينا قسطنا من النضال، وأصبحنا ثوريين حقيقيين ومناضلين مجاهدين، وبالتالي قادرين على فهمه فهما حقيقيا فكلما تقدمنا خطوة على طريق النضال يزداد فهمنا الحي له، وهذا يعني ان فهم التراث مرتبط بالخطوات النضالية، والخطوات الجادة على طريق بناء المجتمع الجديد.

هناك مواضيع أخرى.. مثلا، موضوع الحياد الايجابي.. صحيح ان الحزب لم يناد به، إلا بعد سنوات من تأسيسه، كسياسة دولية ولكن بذرة فكرة الحياد الايجابي موجودة في أصل التصور الأول... وهو استقلالية الثورة العربية، استقلالية الأمة العربية، فالأمة العربية، هي بحد ذاتها وزن عالمي ولا يمكن ان تنحاز، لان لها طريقها الخاص، ولها رسالتها، فالثورة العربية، التي هي الكشف عن طاقات الأمة العربية وإزالة العراقيل من وجهها، وإطلاق مواهبها وإمكانياتها وتحرير مجتمعها، هي ثورة لها مقاييسها السليمة (3)

لقد خلصنا من معاناة الواقع الحي الى هذه النتيجة: بأننا نحن، كأمة عربية في طور الثورة، أصدق ثورية من كل الثورات.. ومن كل من يطلقون على أنفسهم صفة الثورية، لأننا نعاني الظلم من الاستعمار.. ونعاني، أيضا، الغبن ممن يدعون صداقتنا ومساعدتنا..

فأصول وجذور نظرية الحياد الايجابي وعدم الانحياز هي بالدرجة الأولى خصوصية الأمة العربية وخصوصية ثورتها.. فهي امة ذات رسالة عالمية.. رسالة إنسانية. وإذن، فهي مستقلة لا تنحاز.

وجذورها تأتي، ثانيا، من معاناة الواقع، لأن ظروفها الراهنة وضعتها في مواقع اقرب من أية ثورة أخرى من المبادئ.. فهي متطابقة مع المبادئ التي تنادي بها انها تتحالف مع الدول الاشتراكية في النضال ضد الاستعمار، ولكنها لا تنحاز. أي انها تتعاون وتتساعد، ولكنها لا تنحاز.. بمعنى ان لها فكرها المستقل، وموقفها من القضايا العالمية الأساسية، موقف مستقل.. لأنها تعتبر نفسها أكثر مبدئية من غيرها..

هذه الفكرة تطورت مع الزمن، ووضحت أكثر فأكثر، خاصة بعد قيام الكيان الصهيوني، لأن الظلم الواقع على الأمة العربية، والعدوان والاغتصاب، وكل العوائق الاستعمارية، وأضخم ما فيها إقامة الكيان الصهيوني، كل هذه فرضت على الأمة العربية ان تكون ثورتها أعمق، وأكثر مبدئية في العصر، لأنها بدون ذلك لا تستطيع ان تغالب هذه القوى المعادية.

 

هل تعتقد ان بإمكان الحركات التحررية ان تستفيد من تجربة الحزب، على صعيد الفكر، والتطبيق ؟

لقد بقي فكر الحزب مجهولا غير مشروح، وغير منشور على نطاق واسع، فهو لم يترجم.. ولم يطلع عليه إلا القلائل ضمن أهداف دراسية.. وهذا نقص كبير بلا شك، وان كانت له، في الوقت نفسه، ناحية إيجابية.

هو نقص كبير، لأننا لم نتفاعل مع غيرنا.. كنا نستطيع ان نفيد ونستفيد لو أننا ترجمنا أفكارنا منذ وقت مبكر، فنتصل بالأحزاب المتقاربة معنا في العالم الثالث بخاصة، ونتحاور معها ونتعاون.

هذا كله كان يمكن ان يعطي حركتنا جوا أرحب تتنفس فيه، وأفقا أوسع.. ويساعدنا على ان نؤثر في أوساط وبلدان أخرى.

نتيجة هذه العزلة النسبية التي بقينا فيها فترة غير قصيرة.. ماذا حصل؟

حصل ان البلاد الأخرى والحركات الأخرى، تطورت حسب توقعاتنا، او نحو شيء قريب من توقعاتنا.. ولكن دون تأثير مباشر منا. الأحداث سارت كما توقعنا، وكأننا نتنبأ في صومعة. بينما لو كنا نشرنا أفكارنا.. لو كنا ترجمناها.. ربما كنا اختصرنا الزمن على أنفسنا، وعلى غيرنا، نتيجة التفاعل بيننا وبينهم..

حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تلتقي معنا في بعض الأشياء المهمة، وفي شوط طويل من الطريق، ولكنها تظل أصغر منا.. وتظل طريقها أقصر وأضيق. ربما كانت عندها أشياء نفتقدها نحن، لو اطلعنا على هذه الحركات بانفتاح فربما كنا سنجد أشياء ثمينة. ولكن إذا أخذنا الأمور بنظرة بسيطة، فمن غير المنتظر ان نجد لدى غينيا، أو غانا، أو الهند، هذا التصور. فالهند، مثلا، لديها تراث فلسفي ضخم.. ولكن لأنه ليس لديها هذا الحدث الخارق -أي الإسلام- لم تصل الى مثل هذا التصور.

وفي آسيا شعوب عريقة لها حضارات ترجع الى آلاف السنين.. لكن لا موقعها الجغرافي ولا حضارتها ولا حاضرها، يؤهلها لهذا الطموح.. هذا الطموح الموجود بشكل طبيعي غير مفتعل وغير مصطنع عند الأمة العربية.. الذي يأخذ، أحيانا، على ألسِنة بعض الكتاب والشعراء لهجة جاهلية من الفخر.. ولكن لو تم النظر إليه بشكل هادئ، لوُجد انه شعور صادق وعميق بأن الأمة العربية لها دور آخر، ووزن آخر.. لها رسالة، موقعها الجغرافي المتوسط بين القارات.. العداء لها كان قبل اكتشاف ثرواتها.. أي ان الاقتصاد فيها ليس هو الشيء الأهم والباعث على هذه المنافسة وهذا العداء. ان المنافسة هي بسبب هذا الدور الحضاري الذي جاء به الاسلام. خذ الهند مثلا.. ليس هناك عداء لها، او للصين وفيتنام.. فبانتهاء الحرب فيها انتهى كل شيء. اما العداء للعرب فباطنه الخوف من إمكانات الدور الإنساني الذي يمكن أن يؤول إليهم والذي عليه برهان في الماضي، وهو الحضارة العربية أيام العباسيين وفي الأندلس، فعندما تكون لدى العرب هذه القابلية لخلق وتكوين حضارة كهذه، فان الغرب يفهم ما معنى ذلك.. ويفهم ان هذه الحضارة قابلة للتجدد.

ولكن لم يعد الغرب منفردا في السيطرة على العالم.. ولا هو الواضع الوحيد لقيمه الحضارية والأخلاقية. لذلك فان الفرصة أمام العرب أكبر ممّا كانت عليه في القرن الماضي، حينما كانت أوربا هي المسيطِرة. الصهيونية هي الاختراع الجهنمي للاستعمار الغربي، اختراع رهيب ولكن نهايته الفشل.

لم يكن هنالك سلاح افتك منه ليوجه الى العرب. إن كل العداء التاريخي الغربي، مضافا إليه الطمع والجشع الاستعماريان في النهب والاستغلال، قد أوجد هذه الواجهة التي فيها بعض الشبه الخادع بالخصائص العربية.. كأنه سم مصنوع لهذا الجسم. فالصهيونية حركة عنصرية تقوم على دين سامي فيه الإطلاق.. لأن فيه التوحيد، وفيه الشعور القومي كذلك، وفيه فكرة الرسالة. ففي الدين اليهودي، وفي الصهيونية نفسها هناك شيء من هذا.. ولكن الفروق أكبر بكثير من نقاط التشابه. أي ان الإختلاف أكثر بينها وبين القومية العربية.. لدرجة تبدو فيها الحملة الصهيونية، وقيام الكيان الصهيوني وكأنه الوجود المعكوس والمشوه والنقيض للكيان العربي.. لمقوّماته ولروحه.. ولطموحه.

ان اليهود ظلوا أقلية صغيرة، مزاياهم هي من مزايا الأقلية الصّامدة. ولكن عيوبهم هي، أيضا عيوب الأقلية المنعزلة، الحاقدة، المعقدة.. التي مهما حاولت ان تبرز وتتفوق وتنجح في مجالات كثيرة، تظل وكأنها تتوغل في العزلة، وفي الغرابة والشذوذ. فظل اليهود أسرى هذه الفردية الموحشة، التي تضعف من إنسانيتهم.

الشعب العربي، بفضل الاسلام، (لأنه بدون الاسلام كان يمكن ان يبقى بعقلية قبلية) شعب واسع، رحب، لا تكتنفه العقد، وهو منفتح متسامح، مستقر على أرضه، غير مشرّد وغير تائه، مؤمن بالمستقبل، وواثق بهذا المستقبل مهما حدث. تحرّر من العنصرية ومنذ مئات السّنين دخلت إليه عناصر مختلفة امتزجت به وأصبحت جزءا منه. فهو إنساني بعقيدته وبتكوينه أيضا، وبامتداد، رقعة وطنه.. فقد تكونت الأمة العربية، بالإضافة الى الشعب العربي، من شعوب كانت في السابق قريبة من العرب، ولكنها ليست عربية، مهيّأة لان تتعرّب. فانصهرت في بوتقة حضارية وروحية واحدة.

هذه من أبرز المزايا التي في يدنا كأمة عربية: الاتساع. الانفتاح. الإنسانية. فالأمة العربية تبدو وكأنها مصغر للإنسانية.. ليست معزولة على الهامش، وليست حاقدة، رغم كل ما أصابها. هذا، كمقارنة بين اليهود، والشعب العربي.

ولكن المقارنة مع الصهيونية تظهر ضعف الصهيونية وأمراضها التي تحكم عليها بالفشل.. هذا الفشل الذي يبدو وكأنه حتمية. هذه السلبيات الموجودة في اليهود الصهاينة، مضافا إليها العدوانية، كنزعة من نزعاتهم، جاؤوا غزاة ومعتدين، مغالطين في عدوانهم هذا، ومبرّرين، وفوق كل هذا جاءت الصهيونية مدعومة بحراب الاستعمار، ووقفت الى جانب كل ما هو رجعي ومتخلف في هذا العصر، مسلحة بالحقد والعدوان.

ترى، ألا نخشى ان يكون تميز حركتنا هذا دافعا لحركات التحرر في العالم الثالث لان تخشى حركتنا في المستقبل؟

هناك تهمة روّجها الاستعمار من قبل، ويروّجها اليوم.. وهي أن العرب أمة تريد ان تتوسع. وتسعى الصهيونية اليوم في إفريقيا لنشر مثل هذه الأكذوبة. إن آسيا بعيدة، وليس فيها أذن صاغية لمثل هذا الكلام: لكن إفريقيا قريبة من الأمة العربية.. وهي متأخرة حضاريا.. مفتتة الى دويلات.. وتشعر بالضعف. ولهذا اختارتها الصهيونية أرضا لزرع مثل هذه الأفكار عن العرب. كما ان أوربا روّجت للفكرة ذاتها. إلا أن كل هذه المساعي باءت بالفشل نظرا لعمق الرّوابط بين الأمة العربية وإفريقيا.

نحن نراهن على الميزة التي نتميز بها عن غيرنا من الأمم، وكثوريين عرب.. كحزب ثوري، حزب الثورة العربية، نرى أنّ هذه الميزة هي العُروة الوُثقى.. لأن العرب انفردوا بكون نهضتهم الأولى التي كونتهم كأمة اقترنت برسالة دينية لها خصائصها المعروفة.. ولذلك، وما دمنا نعتبر العروبة جسما روحه الإسلام فلا خوف أن تشتط القومية العربية وتقع في الأمراض التي وقعت فيها الدول الاستعمارية.

نشير أيضا الى شيء آخر له نفس الأهمية، غير هذه الميزة الروحية التاريخية التي طبعت المصير العربي. هناك التجربة الحالية التي تخوضها الأمة العربية.. وهي المعاناة. معاناة الظلم الاستعماري.. التخلف.. الظلم الداخلي.. الاستغلال الطبقي.. ومعاناة التجزئة القومية. هذه التجربة، مع الأساس الروحي القديم تخلق القناعة بأن الحضارة العربية الجديدة ستكون مختلفة عن الحضارات التي عرفتها الإنسانية.. وستكون لها قيم جديدة.. وهذا ما نسميه الرسالة العربية. أي انها حصيلة الرسالة الخالدة في تاريخهم والمعاناة في عصرهم الراهن.

نحن قلنا في قضية هي، نسبيا، صغيرة، ولكنها نموذجية. هي قضية الأكراد: إذا لم نحلها بشكل مبدئي وكأننا في عصر الخلفاء الراشدين، فإن التمرّد سيعود.

عندما جئت في تموز الماضي ورأيت الرفاق القياديين يذهبون الى الشمال، ويعودون منه، استبشرت، بالروح المبدئية العالية التي كانوا يعالجون بها الأمور ويواجهون المستقبل. وقلت لهم هذا الكلام.. نحن نريد من الأكراد ان يفهموا أنهم شعب شقيق، يجد مستقبله مع العرب، في ظل العدل.. وهو يريد ان يتخلص من الإقطاع ومن الاستعمار.

فقضيتنا، إذن، صعبة الى حدّ أنه لا ينجح فيها إلا المستوى الذي هو بين الأرض والسماء.. او المستوى الذي تكون فيه الأرض والسماء ممتزجتين.. لما تواجه من تكالب، ومشاكل، وسرطان صهيوني. وهذا بطبيعة الحال، لا يتنافى ولا يتعارض مطلقا مع التنظيم العصري والعلم الحديث في مواجهة الصرع القاسي.

هذه الميزة الروحية لثورتنا هي الجو الذي يغلفها، ولا يبعدها عن العلم.

نحن نسعى لاستثمار أرضنا وثرواتنا بالأساليب الحديثة. وننظم جيوشنا بالأساليب الحديثة.. ولكن الروح التي تلهمنا هي هذه.. الرسالة الخالدة.

فكرة الرسالة التي هي مستمدة أساسا من التراث.. وفكرة الأخلاقية التي قلنا عنها انها من نوع خاص، والتي ينبغي ان تميز الثورة العربية بأسلوبها وسلوكها وتعاملها.. هذه الأمور إذا أخذناها من الناحية العلمية فإنها تبدو لنا ضرورات للنجاح. فهي ليست فقط صفات ملازمة لنا بطبيعتنا، ومقدرة علينا لأننا من هذه الأمة، وتاريخ الأمة يفرضها عليها.

لو أننا حللنا أوضاعنا وأردنا ان نضع خطة مدروسة لتقدمنا وتحررنا، فلن نجد مندوحة من وضع هذه الأشياء كضمان لنجاح ثورتنا(4).

الأخلاقية في حزبنا ليست فضيلة.. هي ضرورة، كما التنظيم ضرورة. كما ان الفكر ضرورة، هي أيضا كذلك. هذه الأخلاقية ضرورية لنجاح ثورتنا.

تكلمنا عن الكيفية التي توصل بها الحزب الى فكرة الرسالة، وعن منابعها.. ولكننا اليوم، وبعد مضي أكثر من ثلاثين سنة على نشوء الحزب تبدو لنا المسألة وكأننا أخذنا بفكرة الرسالة بعد ان درسنا خطة لنجاح الثورة العربية. فالثورة العربية لا تنجح إلا إذا آمنت برسالة. وهذا الايمان هو الذي يحرك الجماهير العربية ويوحدها. نجد هذا بصور شتى، وبحجوم اصغر عند أمم أخرى.. ولكنه عندنا يشكل ضرورة قاهرة.

ان الثورة هي من اجل القضاء على التخلف والاستغلال.. من اجل القضاء على الاستعمار..

ومن اجل سعادة الناس.. الخ. ولكن كل هذا يأتي بالدرجة الثانية بعد الرسالة.. لأنك إذا لم تضع الرسالة في الدرجة الأولى لا تتحرر من الاستعمار ولا تتخلص من الصهيونية. فهذه الأشياء هي المميزة فعلا لحركتنا(5)، لان التفكير الماركسي، وشبه الماركسي، " والعلمي" وشبه العلمي لا يوصل الى هذه الحقائق.. وأحيانا يوصل الى الاستهزاء، بها والتنكر لها ومجافاتها.. وبالتالي الى التعثر والفشل.

1 نيسان 1976

 

 

(1) حديث لمجلة آفاق عربية، بتاريخ 1/4/1976

(2) " النظرية الشيوعية وليدة الغرب وقومياته المتعصبة المتناحرة، وصناعته المتضخمة. لذلك فهي في البلاد العربية تحارب أمراضا غير موجودة،أي انها تلهي العرب عن محاربة أمراضهم الحقيقية.

فالشيوعية تهدم العصبية القومية في أمة لم تتكون قوميتها بعد، وتخشى من هذه العصبية على الأمم الأخرى وعلى السلام العالمي في وقت لا يزال العرب فيه محكومين من قبل غيرهم.

وأخيرا فالشيوعية تمنع العرب من التفكير في اشتراكيتهم والاهتداء إليها، لأنها تدعي ان الاشتراكية هي الماركسية، ولا اشتراكية إلا فيها و بها.

وليس بعسير على العرب ان يهتدوا الى اشتراكية عربية مستمدة من روحهم وحاجات مجتمعهم ونظرتهم الحديثة. " 944 1.

(3) " إن حرص العرب على رسالتهم الخاصة بهم وعلى استقلال شخصيتهم لا يعني منهم تعصبا ورغبة في الإنعزال والجمود. ففي حاضرهم وماضيهم ما يكذب هذه التهمة.. ولكنهم مقتنعون بان كل إصلاح او تقدم لحياتهم لا يستمد دوافعه وغايته من عقيدتهم القومية ومن الايمان بوجود رسالة عربية خالدة، سيكون تقدما سطحيا يعجز عن توحيدهم ورفعهم الى مستوى الإبداع والبطولة، ويتركهم أفرادا متنافرين، تستعبدهم الأنانية وشهوة المادة. " 944

(4) "ان استفحال الأمراض التي تفتك بالأمة، وعمق الآلام التي تحز في جسمها لم تعد تنجح فيهما حيلة السياسيين، مهما كانوا أذكياء بارعين، ولا بدّ لها من مناضلين مؤمنين يستمدون روح نضالهم وأسلوبه من روح أمتهم وأخلاقها. " 1943.

(5) " طلب العرب السماء فملكوا الأرض، فلما اقتصروا على طلب الأرض، أضاعوها والسماء معا. لا يسيطر العرب على حياتهم حتى يؤمنوا بالخلود. ولا تعود إليهم ملكية أرضهم حتى يؤمنوا بالجنة من جديد. " 946 1.

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث