ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


وحدة التجربة النضالية للحزب في الزمان والمكان

 

أيها الرفاق (1)

عندما التقي بمناضلي هذا القطر أود لو أن باستطاعتي في لقاء واحد أن أعطيهم خلاصة تجربتي لأني اعرف بأن تجربتكم ايها الرفاق هي الأرض الخصبة التي تثمر فيها الأفكار والتي تعلق عليها الآمال والتي حققت حتى الآن الكثير من الآمال القومية ولكن المرجو منها هو أكثر واكبر. طبيعي في هذه اللقاءات وأنا في هذه السن أن ارجع الى الماضي باحثا عن شيء يمكن ان يفيد الحاضر، يمكن ان يكون له نفع في نضالكم الحاضر.

وتصوري وأمنيتي الدائمة ان تكون تجربة الحزب بصورة عامة تجربة غنية واسعة وموحدة حتى تستطيع ان تؤثر في الأحداث وان تخلق العمل التاريخي، وأمنيتي ان تكون تجربتكم التي فاقت كل التجارب بجدارة والتي تميزت عن غيرها منذ خطواتها الاولى -اذ اننا لم ننتظر وصولكم الى الحكم حتى نعجب بكم ايها المناضلون، وانما كان نضال بعثيي العراق منذ سنواته الاولى متميزا بالرجولة والجدية والعمق- لذلك أتمنى وأسعى دوما لكي تكون تجربتكم متسعة لتجارب الحزب كله، ملخصة لهذه التجارب كلها، مستوعِبة لها وان تكون بذلك قادرة على شق طريق المستقبل.

طموحنا ايها الرفاق يذهب الى أكثر من ذلك، فنحن قد تحررنا من الضيق ومن الغرور، من التعصب ومن العزلة خاصة بعد الدروس والنكسات المرة التي انتابت حزبنا وأمتنا. وعندما نتكلم عن تجربة الحزب لا نضعها في صومعة عالية وننسب اليها كل الكمال ونستخف بما يظهر في الأقطار العربية من نضال صادق ومحاولات جدية وننفتح ونحاول ان نسَعَ تلك التجارب وان نفهم الأسباب والعوامل الايجابية والسلبية التي كانت وراء نشوئها وهناك عوامل ايجابية وراء كل نضال عربي وهناك عوامل سلبية ربما كنا مسؤولين عن بعضها لاننا اذا لم نستطع ان نشغل الساحة العربية كلها، اذا لم نستطع ان نوصل صوتنا وافكارنا وتنظيمنا الى جماهيرنا العربية في كل مكان من الوطن الكبير فلا يكون كل اللوم على المحاولات التي لا تمشي في طريق البعث. كذلك نحن ندرك منذ بداية حركتنا بأننا لسنا معزولين عن العالم وانه اذا عزلنا انفسنا فنحن الخاسرون ولذلك نظرنا الى الواقع بكل جرأة وبكل وضوح وعرفنا في اي الاشياء يسبقنا العالم ونحتاج فيها الى الأخذ والاقتباس والاطلاع، وعرفنا اي الاشياء هي التي لا يستطيع احد غيرنا ان يفهمها وان يدركها وانها من خصائص مجتمعنا ومن خصائص نضالنا وانها بالتالي تكوّن تجربة متميزة يمكن ان يفيد منها العالم عندما يطلع عليها.

أيها الرفاق

التجربة الحزبية هي في الزمان وفي المكان وعندما نطالب بتوحيدها ففي هذين المجالين معا. علينا ان نعرف ماضي حركتنا والاطوار التي مرت بها ونموها الناجح والمتعثر، الطبيعي والمصطنع، كل هذا مطلوب منا ان نستوعبه لكي يكون حاضرنا مليئا قويا بغناه ومادته الفكرية والاخلاقية والعملية لكي يولد منه المستقبل القوي. كذلك في المكان: فالحزب وجد في عدة اقطار ولو انه كان بدرجات متفاوتة من حيث القوة والضعف، من حيث الضيق والاتساع ولكن لا يجوز ان نهمل تجربة واحدة من تجارب حزبنا في شتى اجزاء وطننا الكبير اذ لا بد ان تحتوي اصغر تجربة للحزب في اصغر قطر على شيء ثمين، على خاصة من الخواص، ما دمنا واثقين بان حزبنا كان دوما ينطلق من الصدق، ينطلق من الشعور بحاجات الأمة، الحاجات الصادقة لامتنا، لجماهير شعبنا لمجتمعنا، فلا بد بالتالي ان تعبر تجربته مهما صغرت وتضاءلت عن شيء صادق يغني تجربتنا الكبيرة.

طموحنا ان يجد العرب كلهم في حزب البعث اللغة التي تخاطب عقولهم وأفئدتهم والطريق التي تتسع لفئاتهم ولهجاتهم ومستوياتهم المختلفة، فنحن لا نتهرب من رؤية واقعنا القومي؛ واقعنا مجزأ مشتت متفاوت من حيث التطور الاجتماعي والنضج السياسي ومن حيث الثروة والفقر ومن حيث التقدم الحضاري وغير ذلك، ولا يمكن ان تكون لفئة دون أخرى، لمستوى دون آخر، يجب ان نحنو على أجزاء وطننا وعلى فئات شعبنا وان نفهم بعقولنا وقلوبنا هذه الأوضاع التي تحيط بشعبنا كي نعرف سبل معالجتها. يجب ان نجمع دوما بين الوحدة والتنوع، ان تكون تجربتنا واحدة موحدة، ولكن ليس وحدة الجمود والفقر والسكون واللون الواحد، وإنما الوحدة الغنية المتنوعة الخصبة التي تستطيع ان تؤلف بين هذه التجارب المتنوعة وان تجد الخيط الذي ينتظمها والطريق الذي يصل فيما بينها وهذا يرينا سمة من سمات حركتنا، سمة مهمة في هذا الجدل المقصود والمصمم بين نقيضين، بين ضدين دوما، لان مرحلة الانبعاث العربي هي كذلك.

أيها الرفاق

مرحلتنا طبيعتها طبيعة جدلية تتراوح دوما بين نقيضين، فنحن نطلب الوحدة ولكننا لا نتقدم ولا نرتقي الا بالتنوع. فإذن هي وحدة من نوع خاص، هي وحدة راقية فيها كل الرقي، فيها الحرية الواسعة لكي يزدهر التنوع، ولكي تعبر الشخصية العربية بملء الحرية عن طاقاتها، عن طبيعتها عن طموحاتها ولكن فيها ايضا الارادة فيها العقل المنظم وفيها الارادة الحاسمة التي تضع حدا للفوضى وللتسيب وللتشتت وللضياع وتجعل من الشتات وحدة حية.

أيها الرفاق

وصل حزبنا الى درجة من النضج، من نضج التجربة نستطيع معها ان نشعر بالارتياح، بالثقة بالنفس، بتفاؤل بالمستقبل. تجربة هذا القطر كانت كما قلت متميزة ولها خصوصيتها ولكنها ايضا استفادت من تجارب الحزب كلها واصبحت الى حد ما ملخصة لمسيرة الحزب ولو اننا نطمح الى ان تتسع لفهم تجارب الحزب اكثر مما هي الآن -وهذا شيء أُلح عليه- وصلت الى هذا الحد الذي يشعرنا بالغبطة في اعماق نفوسنا خاصة اذا تذكرنا بعض صفحات الماضي، كيف كان يساء فهمنا؟ كيف كانت الافتراءات على الحزب؟ على مقاصده ودوافعه، على افكاره، على وطنيته، على أخلاقيته؟ صحيح ان الافتراءات لم تنته ولن تنتهي، ستبقى المصادر نفسها التي كانت تفتري على الحزب لتناقض مصالحها مع وجود هذا الحزب، لخوفها من تقدم هذا الحزب، كانت وستبقى مضمرة له الحقد والعداء، مستعملة كل انواع الدس والكذب والتآمر، ولكن الفرق هو بين ان تستطيع هذه المصادر ان تجد لها جمهورا واسعا ينخدع باقوالها وافتراءاتها وبين ان يصبح هذا الجمهور قليلا محدودا، وان تمسي أسلحتها ضعيفة الجدوى ان لم اقل مفلولة، فنحن اذن في وضع مريح للنفس، بهذا المعنى بأننا نجد التفهم من الجماهير الواسعة نجد التقدير، ونجد الحب، ومازال يعوزنا الكثير، ايها الرفاق، حتى نكون صرحاء مع أنفسنا ما زال يعوزنا الكثير حتى نوصل صوتنا وحقيقتنا الى كل الجماهير العربية، لكننا في وضع جيد يسمح لنا بالتفاؤل ويسمح لنا ايضا بالنقد الذاتي لاننا نعرف اننا عندما نكون على ارض صلبة وفي وضع متين لا نخاف من ممارسة النقد الذاتي، لا نخاف من البلبلة ومن الانقسام ومن اليأس والروح الانهزامية لأن قلقنا هو هذا القلق الايجابي، القلق السليم، البعيد عن اليأس البعيد عن مرض النفس، القلق الخلاق، لذلك اقول بأننا اذا بحثنا عن شيء في ماضي حزبنا يساعدنا على متابعة النضال وينفعنا في حاضرنا، لوجدنا في ماضي الحزب، روحاً نضالية أكاد أصفها بأنها في بعض الأحيان كانت صوفية، نظرة الى النضال، والى الاهداف المقدسة، فيها كل الإيمان وكل التواضع وكل الزهد وفيها الذوبان في القضية، ذوبان الانانية. ونحن بحاجة الى ان نتذكر هذه الروح، وان نبعثها باستمرار وان نحييها، فعندما قلت يجب ان نوحد التجربة الحزبية في الزمان، قصدت هذا، قصدت ان الماضي يجب ان يكون ماثلا دوما في الحاضر، ان لا يكون بين مراحل نضال الحزب أسوار وانقطاع وتباين وانما روح واحدة وفكر واحد وشخصية بعثية واحدة، تنمو وتنضج مع الاحداث وتحتفظ بالزاد الروحي والاخلاقي الذي كانت تتغذى منه في اوقات صعبة وفي مراحل النضال الشاقة، اذ لا يجوز ان نتناقض، ايها الرفاق، فالفضائل التي أوصلت الحزب الى النجاح، هي نفسها التي تمكنه من المحافظة على نجاحه ومن الاستمرار والتقدم فيه، لا يمكن ان تختلف الفضائل الاساسية وانما هناك مستويات في النفس وفي الفكر، التجربة تعمق النفس، وتعمق الفكر، تعمق النظرة الواقعية الى الحياة والى العالم، والذي يصلح لزمن الحكم عندما يكون الحزب في الحكم هو نفسه الذي كان صالحا لزمن النضال، ولكن ازدادت نفسه غنى بالتجربة، توسعت آفاق فكره وتوسعت معارفه وتوسعت نظرته العملية، لكن بقي هو ذلك الشخص المناضل، اننا نواجه قدرا تواجهه كل الثورات وكل الحركات الثورية. ان هناك اجيالا جديدة تنضم الى الركب. كيف نطلب من الاجيال الجديدة التي لم تمر بالتجارب السابقة، ولم تنشأ فيها تلك الفضائل او بالأصح لم يتح لها ان تنمو فيها، لان الفضائل هي امكانيات موجودة في كل انسان وفي كل شخص ولكن التجارب تعطيها مجالا للظهور، للنمو، للتكامل، كيف نوفر للاجيال الجديدة هذه الفضائل النضالية. هذا التصوف الذي ذكرته لكم الذي كان يميز الحزب في بدايته، هي عملية صعبة بلا شك. ولكن اذا أحجمنا امام صعوبتها، فاننا نعرض حزبنا ونعرض ثورتنا لمخاطر كثيرة، اذا نحن لم نخلق للأجيال الجديدة ما ينمي صفاتها النضالية الحرة، تلك الصفات التي نمت وترعرعت عند البعثيين في الشدائد والمحن والسجون والمعتقلات والفقر والجوع والتعرض للظلم بشتى انواعه والصمود والإيمان، كيف نوفر ذلك للأجيال التي تجد الطريق أمامها معبدا والامور سهلة، فإن السهولة قتالة، هذا ايضا مما يعزز قولنا وقناعتنا بأن توحيد التجربة في الزمان وفي المكان هو ضرورة قاهرة ضرورة حيوية لاستمرار حزبنا ولنجاحه في اداء رسالته لكي لا يطرأ عليه الوهن، لكي لا تدخله طبيعة من غير طبيعته وأخلاق من غير أخلاقه.

أيها الرفاق

كما قلت لكم، فكرتنا او قدرنا في مرحلة الانبعاث ان نجمع دوما بين الضدين وبين النقيضين. يجب ان نتحلى بالتواضع، بالواقعية، ان نرى امكانياتنا وواقعنا وقدراتنا دون مبالغة ودون تضخيم، ان نرى نواقصنا، ان نرى تقصيرنا ولكن في الوقت نفسه ان نحتفظ بطموحنا، بذلك الطموح الكبير الذي لولاه لم تنشا حركة البعث. هو طموح مستمد من طبيعة امتنا، من تاريخنا، من عظمتنا، من مكانتها في التاريخ، من تراثها، لم نخترعه اختراعا، وانما هو يفرض نفسه فرضا، يجب ان نحتفظ بهذا الطموح، فنحن تقدمنا لكن ما زالت الطريق طويلة وبعيدة وشاقة وقد يبدو لنا احيانا اننا مازلنا في اول الطريق، لماذا، لان طموحنا بعث الامة العربية، بعث الحضارة، وهذا أمر كبير وخطير لان الدافع الاول والتصور الاول لهذه الحركة كان دافعا حضاريا، تصورا حضاريا، لم ينشأ حزب البعث ليضيف حزبا سياسيا الى بقية الاحزاب العربية ولا حتى ليضيف حزبا اشتراكيا الى بقية الاحزاب الاشتراكية العربية وغير العربية، استهوته نظرة كلية الى الحياة والى التاريخ، والى مصير الانسانية، لم يخترعها كما قلت، هي غيض من فيض تراثنا العظيم. العربي لا بد ان يرجع الى التراث، لا بد ان يستلهمه امام حضارة هذا العصر، هذه الحضارة العجيبة، وامام التخلف الذي كنا نحيا فيه قبل ثلاثين وأربعين سنة. كان لا بد من نظرة الى الماضي ونظرة الى المستقبل، نظرة الى هذا التراث ومقارنة بين الحاضر والماضي، ومقارنة بين الحاضر والمستقبل الذي نطمح اليه والذي لا بد ان يستفيد من حضارة العصر، هذه الجدلية إذا جاز التعبير هي في بدء نظرة الحزب. وعندما يكون الطموح بعثا حضاريا للامة العربية في هذا العصر، تعطي فيه امتنا مساهمة جدية متميزة للحضارة العالمية، عندها لا غنى عن الرجوع ايضا الى تلك الروح الاولى التي ألهمت الاجيال البعثية الأولى، الروح الصوفية وفي الوقت نفسه الروح الواقعية العلمية، ولا احد يستطيع ان ينكر علينا واقعيتنا وعلميتنا، نعود الى تلك الروح نحييها ونجددها، لاننا بدونها لا نستطيع ان نفي بشروط هذا الطموح الكبير.

أيها الرفاق

الحزب مجموعة من المناضلين لهم فكر ولهم تنظيم ولهم أهداف كبيرة، كيف يمتحنون جدية عملهم وصدق عملهم بين الحين والاخر؟

الحزب يقف بين حدين، بين الامة، وبين الانسان الفرد. على الحزب باستمرار، لكي يمتحن صدق نضاله ومدى تقدمه على الطريق، ان يرجع الى الامة بدورها التاريخي بعظمتها بعبقريتها ورسالتها وايضا بواقعها المرير، بآلامها، بكل ما نزل بها من محن وبالواجبات الضخمة المترتبة على ابنائها لكي يحرروها. الحزب اذ لم يرجع بين الحين والآخر الى الامة بحقيقتها وماضيها وتراثها وايضا بواقعها الراهن، يخشى عليه بأن تضيق مطامحه وتصغر أهدافه وتفقر نفسه ويرضى بالقليل ويقنع بالقليل ويسكر من الانجازات البسيطة.

كذلك الحزب مطالب بأن يرجع الى الانسان العربي، تارة الى الامة العربية، وتارة الى الانسان العربي، الى المناضل العربي، الى المناضل البعثي، لان المناضل العربي أو المناضل البعثي هو الاداة المقدسة لتحقيق اهداف الامة العربية في البعث العربي، يجب ان يرجع الى الانسان والمناضل ليرى الى اي حد تحقق نمو شخصية الانسان العربي، الى اي حد اخذت هذه الشخصية حقها من التفتح، من الحرية، من المعرفة، من الحياة، يرجع الى هموم المناضل البعثي، الى هواجسه وخلجات فكره وضميره، الى ما ينتاب فكره من تساؤلات وما يحرك ضميره من قلق. اذ لم يكن الحزب بهذه الشفافية، بهذه المرونة، التي تترواح بين الامة بعظمتها وبين الفرد بانفراده ووحدته وهمومه، فيخشى ان يتحول الحزب الى صنم لا قلب له ولا مشاعر ولا صلة انسانية تربطه بأعضائه بل لا تربطه بالملايين من ابناء امته. الحزب، وإن تكن ثمة ضرورات لا جدال فيها لجدية تنظيمه وانضباطه لكي يكون قادرا على الانجاز والتحقيق، لكن يجب ان يبقى حزب الأمة العربية بكل ما تعنيه وتوحيه هذه الكلمة في الماضي وفي الحاضر. ويجب ان يبقى كذلك حزب المناضل العربي الفرد والانسان، بكل ضعفه وقسوة ظروفه وبكل طاقاته وقدراته الكامنة والتي هي الأساس في كل ثورة وفي كل بعث، الانسان العربي هو الاساس، المناضل البعثي هو الاساس في حزبنا، وهو المحك، وهو المعيار لمدى تقدمنا ولاستقامة سيرنا.

15 آذار 1976

(1) حديث في فرع بغداد بتاريخ 15/3/1976.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث