ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثالث


أصالة الأمة قوة نضالية متجددة

 

أيتها الرفيقات، أيها الرفاق(1)

أشعر بالسعادة واشعر بالمسؤولية عندما أتحدث إليكم في هذه الظروف القومية الخطيرة التي نعيش فيها، اشعر بالسعادة لأنني اعرف بان حزبنا ومناضليه في أرجاء الوطن العربي، وفي هذا القطر المناضل بصورة خاصة، كان دوما الملبي المستجيب للنداء وللكلمة الطيبة، لكلمة الثورة، هذا الحزب في هذا القطر المناضل برهن دوما بأنه مؤهل أكثر من سواه لان يفهم فكرة البعث، وان يتجاوب معها تجاوبا حيا عميقا بكل كيانه، وليس مجرد تجاوب لفظي أو ذهني وإنما بكل ما تعنيه كلمة البعث بكل ما تتضمنه من إيمان ومن وعي ومن إرادة للعمل والتحقيق ومن شعور بالمسؤولية
التاريخية. هذا ما ميز حزبنا في العراق وهذا ما يرتب عليه وعلى مناضليه مسؤولية كبرى هي لذة وشرف بان يكون البعثيون في هذا القطر هم الأمل المرتجى لأمتهم العربية في الظروف المصيرية.
أيها الرفاق

الحاضر لا ينفصل عن الماضي كما انه لا ينفصل عن المستقبل، انطلقت حركتكم كما تعرفون من نظرة ايجابية مليئة بالإيمان والتفاؤل مليئة بالجد وروح النضال، من نظرة إلى الحياة والى الإنسان والى الأمة العربية والإنسان العربي.

هذه النظرة لم تفارقنا أبدا مهما تقس الظروف، لا بل هي سر صمود هذه الحركة الثورية، هي سر تغلبها على العديد من العقبات والمؤامرات والتشويهات والنكسات ذلك لأننا منذ البدء آمنا بأننا أبناء امة أصيلة: طرأت عليها ظروف قاسية عبر أجيال وأجيال ولكنها رغم ذلك صمدت واحتفظت بجوهرها وإنها مهيأة لان تعيد النظر وتستجمع قواها وإرادتها وصحوها الفكري ونزاهتها العقلانية وموضوعيتها وإيمانها بالحياة لكي تعيد الأمور إلى نصابها ولكي تزيل التشويه والتزييف وترفع الظلم والعراقيل المصطنعة التي وضعت وكدست من قبل الأعداء في طريق نهضتها.

امتنا هي الباقية، وليست الأجيال التي تمثل البعث إلا تعبيرا عن أصالة هذه الأمة وإلا نتاجا لخصبها وحيويتها وإرادة الصمود والتقدم فيها وإننا مطالبون بان نمثل ذروة النضال وذروة الثورية ولكن مع الشعور والاعتراف بأننا لا نمنح امتنا قوة أو فضلا وإنما نحن نستمد منها ونغرف من نبعها ونترجم إرادتها وحيويتها وإنها هي التي تمنحنا هذه الميزة لان نكون جيل البعث، جيل المناضلين الذين يغيرون مجرى التاريخ.

أيها الرفاق

أريد أن تجمعوا إلى جانب يقظتكم الثورية وشعوركم بالمسؤولية وأدائكم للواجبات النضالية على أكمل وجه، أن تجمعوا إلى ذلك هذا الشعور، هذا الإيمان بالنصر الأكيد لنضالنا، بالنصر الأكيد لامتنا، بأنها هي الأصل وما يعترضها من عقبات ليس إلا أشياء عارضة مهما تكن مؤذية، وان هذه العقبات مهما تكاثرت فسوف تزول لأنها بفعل أصالة الأمة واستعدادها للانبعاث تعطي عكس المفعول الذي يريده الأعداء عندما يضعونها في طريقنا، لان كل عقبة توضع إنما تربي فينا فضيلة جديدة، إنما تستخرج من شعبنا ومن مناضلينا قوة كامنة جديدة، إنما تصقل وتهذب موهبة وملكة وقدرة نضالية مبدعة، وعند ذلك تكون النتيجة الاندحار والفشل لمؤامرات الأعداء، ولكل ما زوروه وزيفوه على الحقيقة لكي يظهر وجه الأمة الناصع وتظهر حقيقتها التاريخية الخلاقة، فكم رأينا أيها الرفاق من تجن وافتراء ومغالطة من قبل الغرب المستعمر، ومن قبل الصهيونية التي هي ليست إلا نتاج هذا الغرب وحضارته المريضة، كم رأينا من تضليل وتزوير بحق الأمة العربية، وبحق التاريخ العربي، والتراث العربي، وحقوق الشعب العربي في هذا العصر، وكم رأينا أيضا كيف تنفضح هذه الأباطيل وكيف تتهاوى وتتمزق أمام نور النضال العربي، وكيف أن الغرب الاستعماري اضطر، رغم كل شيء، أن يتراجع عن ادعاءاته دون أن يتراجع عن مقاصده وأطماعه الجشعة في استغلال ثرواتنا، وفي تعطيل نهضتنا ولكنه اضطر مرغما أن يتراجع عن الكثير مما كان يدعيه ومما كان يقدمه كمسلمات حضارية، قبل سنوات معدودة. كيف صار الغرب ومفكروه وقادته ينظرون إلى الأمة العربية، ليس في حاضرها فحسب، وإنما في ماضيها كذلك، فقد حصلت تبدلات أساسية في أذهان الذين كانوا يتجنون علينا. لم يحصل هذا مجانا ولا كرما منهم وإنما اضطرارا وعلى كره منهم، عندما برهنت الأمة العربية على صمودها وعلى تمسكها بحقوقها وعلى رفضها لليأس وللهزيمة.

أيها الرفاق

قلت: الحاضر لا ينفصل عن الماضي، في هذا الحاضر الذي تظهر فيه مظاهر كثيرة مؤسفة وموجعة للتردي والانقسام والتخاذل في بعض الطبقات الحاكمة، وبعض الأنظمة، وبعض الأقطار، لابد أن نستلهم الماضي لكي نتزود بالإيمان الكافي من اجل أن نقتحم هذه المظاهر دون يأس ودون فزع، ولكي ندرك بأنها تعطي دليلا جديدا على قوة امتنا، على القوة التي ظهرت وأخافت القوى الاستعمارية والصهيونية، التي كانت تؤمل بان يدوم استغلالها لبلادنا زمنا طويلا، عندما شاهدت نمو هذه القوة العربية عمدت إلى مزيد من الدهاء ومزيد من المؤامرات. ولا نقول بان هذا لا يستوجب منا اليقظة، ولا يستوجب منا الإعداد، والمقاومة، ولكن الذي نقوله بأنه يجب أن لا يفزعنا لأنه مصطنع ومدبر ودليل جديد على الفزع الذي دب في صفوف الأعداء والغاصبين والمستعمرين.

نظرة واحدة على ما يجري في قطرنا العربي، لبنان، تكفي للدلالة على هذه الظاهرة وهي أن هذا التشويش الذي يحدث في وطننا العربي مصطنع من أساسه، مدبر من الخارج، مفتعل ولا يعبر عن حقيقة شعبنا وامتنا، وان كان يشير في بعض الحالات إلى نواقص وثغرات لم نكن نجهلها في مجتمعنا وبنائنا القومي، لكنها نواقص وثغرات ليست بالخطيرة، وهي قابلة للعلاج وكانت الثورة العربية ماضية في سبيل معالجتها. ولكن الأعداء ركزوا على هذه الثغرات بقوة غير عادية لكي يؤخروا النهضة العربية لكي يؤخروا معركة الوحدة والتحرير لكي ينالوا من ثقتنا بأنفسنا، هذه الثقة الني وصلت إليها امتنا بجهدها ونضالها وتضحياتها، هذه الثقة بالنفس، يريدون الآن أن يزعزعوها. ولكن متى انتبهنا إلى اصطناع هذه الأعمال والى افتعالها أدركنا أنها عاجزة عن أن تنال من قناعات الشعب العربي، ومن قناعات المناضلين، لأنها عبارة عن تركيز مضخم على قطر صغير له تركيبه الحساس، فتآلبت عليه قوى الاستعمار والصهيونية، وبمؤازرة وتشجيع من الرجعية العربية لكي تجعل من حوادث لبنان عامل يأس و قنوط للعرب وللمناضلين ولكن هذا لن يحدث.

أيها الرفاق

إن ما طرأ على مصر في السنتين الأخيرتين من تراجع عن الخط الثوري، والخط الوحدوي، وعن الخط التحريري، وما أظهره النظام الحاكم من نزوع إلى التفاوض والقبول بالأمر الواقع وبالتسويات المهينة. هذا تعرفونه كلكم، وتشعرون بأنه لا يمكن أن يعبر عن حقيقة مصر العربية، هذا القطر الذي قدم أكثر من أي قطر عربي في سبيل فلسطين وفي سبيل الوحدة العربية، فلا يعقل أن تكون هذه السياسة الجديدة هي المعبر الصادق عن حقيقته، وإنما هي، أيضا، اصطناع وتوسل بنقاط ضعف موجودة في تركيب الطبقة الحاكمة في مصر، ونقاط ضعف اقتصادية أدت إلى أن تنجح المؤامرات الخارجية في تشجيع فئات مستغلة، وعازفة عن النضال، غير متجاوبة مع أهداف الثورة العربية ومع مشاعر الجماهير العربية في مصر نفسها على التراجع ولكن لابد من أن يزول الزيف، ولن يطول ذلك كثيرا إذا كنا مؤمنين بأصالة شعبنا، وإذا كنا مؤمنين بالعقل والمنطق، لان الشعب الذي قدم تلك التضحيات قبل سنوات معدودة، والذي امتزجت دماؤه بمبادئ الثورة ومبادئ الفكرة العربية وأهدافها المقدسة، لا يمكن أن يتحول بين يوم وآخر إلى شعب مستسلم، وإنما هي حالات طارئة وعارضة.

أيها الرفاق

لابد ان اذكر، أيضا، قطرا عربيا مهما هو سورية، سورية العربية التي كانت منذ بداية هذا القرن منارا للفكرة القومية والتي نشأ فيها البعث وملأ جوها بنضاله وأفكاره، سورية تآلبت عليها القوى الاستعمارية والصهيونية، وركزت عليها بشكل خاص لأهميتها الخاصة والاستثنائية، لأنها إذا عزفت عن النضال وعن معركة التحرير فإنها تعرقل المسيرة العربية كلها نظرا لموقعها الجغرافي من جهة، واهم من ذلك، نظرا لمكانتها القومية، وهذا ما يفسر، أيها الرفاق، نكسة الحزب في سورية قبل عشر سنوات. إن القوى التي تآلبت على الحزب في سورية قبل عشر سنوات كانت تستهدف الحزب وتستهدف سورية معا، كانت تستهدف حزب الوحدة، وكانت تريد تعطيل دور سورية، لان سورية كانت دوما، القطر الداعي إلى الوحدة، المتقدم في مجال الدعوة الوحدوية. ولا تطلب الصهيونية ولا يطلب الاستعمار من النظام السوري أن يرفع منذ الآن علم الاستسلام وان يطالب بالتسوية وبالصلح مع العدو، يكفيهم أن تنكفئ سورية عن أداء دورها الطبيعي. يكفيهم أن تمتنع سورية عن الوحدة، والوحدة هي الطريق الوحيد، وفي هذه الظروف بصورة خاصة، للتحرير، وللصمود.

ويستطيع هذا النظام، حسب مخطط الاستعمار والصهيونية، أن يتبجح ويرفع صوته بالادعاءات، وان يهاجم غيره باسم المبادئ، وغير ذلك، ما دام يقف موقفا سلبيا من الوحدة، ومن الوحدة الممكنة، الوحدة الطبيعية والوحدة الميسرة المهيأة التي هي وحدة سورية والعراق، يكفي أن يتعهد النظام الحاكم في سورية للأعداء بأنه لن يدخل الوحدة ولن يستجيب لدعوتها حتى يضمنوا له استمراره ويقبل منه حتى الشتائم وحتى الحرب الكلامية وحتى عند الاقتضاء الحرب الفعلية أو بعض مظاهر الحرب المسلحة. ولكن يكون هذا النظام في مأمن من المؤامرات الاستعمارية لان القوى المعادية ضمنت شيئا أساسيا هو عدم اتخاذه الخطوة الحاسمة المؤثرة على هذا الظرف، المؤثرة على المصير العربي كله وهي تحقيق الوحدة بين هذين القطرين، الوحدة التي تغير موازين القوى كلها، الوحدة التي إن تحققت فإنها ستوحد العرب كلهم عندما تعطيهم البداية الصحيحة المشجعة، عندما تضع عشرين مليونا من العرب في ارض من أحسن الأراضي إمكانيات وثروات ومواقع وعليها شعب مؤهل ومشبع بالفكرة القومية ومتحفز للتحرير ومتحفز للعمل التاريخي وعندها لن تقف مصر مكتوفة اليدين ولن يقف المغرب العربي بعيدا ولن يبقى نظام رجعي أمام التفجير الشعبي الجماهيري الذي يمكن أن يحدث.

أيها الرفاق

لنعد في لمحة إلى الماضي، ماضي حركتنا، لنرى إذا كان هذا الماضي يستطيع أن ينفعنا في ظروفنا الحاضرة القاسية، أن يمدنا بالروح والإيمان والقوة والثبات لا بل بالرؤية العلمية الواضحة. حركتنا أيها الرفاق تميزت بجملة مميزات ولا بد أن نعود بين الحين والآخر لنذكر ونتذكر هذه المميزات لكي نحافظ على أصالة الحركة لا بل لكي تأخذ حركتنا مداها في التحقيق لان الروح الأولى التي انبعثت منها حركة البعث هي التي يجب أن تبقى دوما سائدة، لأنها هي التي ضمنت لهذا الحزب أن يحقق انتصاراته وان ينهض من كبواته وان يستأنف نضاله كل مرة بعزيمة اشد من السابق.

أيها الرفاق

لا أقول شيئا جديدا عندما أذكركم بان حزبنا منذ بدايته ومنذ التصور الأول استلهم تراثنا العربي، تراثنا الروحي، وهذا متجل في جملة كتابات ونشرات في بداية الحزب. متجل بصورة خاصة في شعار الحزب الذي يقول أن امتنا أمة واحدة وبأن لها رسالة خالدة. ماذا يعني هذا التصور؟ انه تعبير عن فهم واضح وشامل لكل الصعوبات التي تعترض سبيل نهضة امتنا. عندما نشأ الحزب، أيها الرفاق، كانت أكثر أقطار وطننا محتلة، مستعمرة وكانت أوضاع شعبنا متخلفة، فكيف يمكن أن نعلن في ذلك الوقت أننا امة واحدة وان لنا رسالة إنسانية إلى العالم، هذا يعني انه بدون هذا الأفق بدون أن نضع لنضالنا ولثورتنا هذا الأفق الروحي والأخلاقي فإننا لن نتكافأ مع الصعوبات والظروف القاسية والأعداء الأقوياء الذين يحاربوننا ويحاربون وحدتنا ويحاربون نهضتنا فلن تكون الثورة العربية إذن ثورة كباقي الثورات في هذا العصر، لابد أن تكون ثورة مميزة حتى تنجح، لأنه ليس في هذا العصر أمة وضع في طريقها مثلما وضع في طريق الأمة العربية من عراقيل، ليس هناك بلد تكالبت عليه القوى الاستعمارية لتمعن في تجزئته ولتمعن في تفتيته وتشويهه ولتفرض عليه ما هو ضد طبيعته ولتفقره وتشله مثلما وضع على كاهل الأمة العربية، هذا الدليل الكبير الذي لا يحتاج إلى مزيد من البراهين، إنه اغتصاب فلسطين، وهو الدليل الواضح الساطع على أن ما دبر لقتل الأمة العربية، لإفنائها ولتمزيقها لم يدبر لأية أمة أو لأي شعب آخر، وقد أقول في كل العصور وليس في عصرنا هذا فحسب. فكيف يمكن لامتنا و لجماهير شعبنا، لأجيالنا الصاعدة أن تدفع هذه الإخطار، أن تتكافأ معها إذا لم تؤمن بالمستوى الروحي العالي، إذا لم تؤمن بأصالة أمتها وبرسالتها الخالدة، إذا لم تضع ثورتها في هذا الجو، في هذا الإطار، إطار الثورات التاريخية الكبرى التي لا تعمل فقط من اجل إنقاذ شعب ولكن تعمل من اجل إنقاذ البشرية، تعمل بدافع إنساني عميق ومتجرد، هذا هو التصور الأول الذي كان وراء ظهور حزب البعث، تصور خلاصته أن هذه الأمة لا يمكن أن تنهض وتتغلب على كبوتها وتتكافأ مع قوى الأعداء الكثر الأشداء، المسلحين بالعلم والدهاء، لا يمكن أن تتكافأ مع وسائلهم الخبيثة الرهيبة إلا إذا استمدت من نبعها الأول، من تراثها، من معنى وجودها على هذه الأرض ومعنى حياتها، الدافع والملهم والموجه.

لذلك كان الأفق الذي وضع لحزبنا منذ البداية هو الأفق الروحي الأخلاقي الذي يمد المناضلين، مهما تكن الطريق شاقة، بالإيمان المتجدد ويمدهم بالنظرة العلمية الموضوعية لان الإيمان لا يتناقض مع هذه النظرة وإنما على العكس، هو الذي يضيء العقل ويكشف عن مواهبه أمام عظم المهمة وعظم الرسالة. ولكن لابد أن اذكر أيها الرفاق بأننا لم نلجأ إلى التراث كما كان يفعل التقليديون من اجل التكرار والتقليد، تكرار القول والتقليد غير المثمر وغير المنتج. نظرنا إلى التراث عبر نظرتنا إلى العصر وحضارته، إلى العصر ومشاكله، إلى العصر ومقومات قوته، وعبر نظرتنا إلى واقعنا المتخلف فكانت نظرة جديدة. أي إننا لم نطلب من التراث أن يكون بديلا عن الجهد الذي يطلب منا أن نقدمه، وإنما نحن عشنا الثورة المعاصرة بكل متطلباتها ومن خلالها وجدنا أن تراثنا يعطينا أصالة لا يمكن لأي ثورة وأية نظرية فلسفية معاصرة أن تهبنا إياها، هذا الفهم للتراث هو الذي جعل الحزب يستمد منه قوة روحية وأخلاقية لا تستند إليها بقية الحركات، هذه الميزة لحزبنا نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الحاضر الذي نعيشه، في تطلعنا إلى المستقبل لأننا في الواقع نحن وامتنا مطالبون بان نقدم إلى الإنسانية رسالة في تجديد القيم، في تجديد الأخلاق، طالما إن قوى البغي قد فرضت علينا اغتصابا لم يعرف مثيل له في التاريخ، فرضت تزويرا للحقوق، تزويرا للتاريخ، تزويرا للواقع، فلابد أن نضع نصب أعيننا أن نحارب الباطل والبغي والتزوير والاغتصاب في العالم كله. عندما نتجند للمعركة المصيرية، عندما نتأهب لها بجد وإخلاص، عندما نوفيها كل حقها لا نكون عاملين من اجل أنفسنا فحسب، لا نكون محررين لوطننا فحسب، لا نكون مستردين لحقوقنا فحسب، وإنما هذه المعركة بسبب ضخامتها، بسبب صعوباتها الفائقة، ولكونها فريدة بين أحداث التاريخ وأمثلته، تتطلب منا جهدا، إن نحن قدمناه، ونستطيع أن نقدمه، لأننا قطعنا حتى الآن أشواطا على الطريق، إن نحن قدمنا هذا الجهد إلى نهايته فان عصرا جديدا سيبدأ في العالم، فان قيما جديدة ستقوم وتسود يصحح فيها الزيف الاستعماري، تصحح فيها الافتراءات والمغالطات والاستغلال البشع. حضارة جديدة لنا وللإنسانية ستنشأ عندما نحشد كل القوى العربية المادية والحضارية من اجل معركة المصير.

هذا الجو الذي استلهمناه منذ بداية حزبنا، من تراثنا العربي الروحي، التراث الخالد المبدع باستمرار، المتجدد في كل عصر، الملهم، هذا الجو يجب أن نعيده. انه دوما موجود، وكما قلت، هو وراء صمود هذا الحزب، ولكن لنجعل وجوده واضحا وبارزا وملموسا ولنجعله هو الملهم والمقيم لأعمالنا ولنضالنا، إذا كنا واقعيين فلا بد أن نستنتج انه لا مهرب من المعركة وإنها معركة في منتهى القسوة والضراوة، معركة مع قوى البغي والاغتصاب والتخلف والاستغلال والرجعية، لا يمكن أن نصل إلى حقوقنا دون خوض هذه المعركة وبالتالي فيجب أن نكون صريحين ومنطقيين مع أنفسنا وإذ نهيئ الجو لدخول هذه المعركة وقد تأتي غدا وقد تأتي بعد سنة أو أكثر لا نستطيع أن نوفيها حقها إذا لم نعش مقدما جو المعركة، معركة الوحدة العربية، معركة تحرير فلسطين، معركة الوحدة من خلال التحرير، معركة تحرير الإنسانية من خلال تحرير فلسطين. هذه هي الواجبات والمهام الجديرة بجيل البعث وخاصة في هذا القطر الذي برهن فيه حزبنا على انه مؤهل منذ بدايته، مستجمع للشروط الأساسية التي تجعل منه صانعا للأعمال التاريخية، هذا الحزب الذي تميز دوما بالإيمان، تميز دوما بروح النضال، تميز بالجدية. تميز بالرجولة والبطولة، حزبنا في العراق هو الذي أوكلت إليه الأمانة التاريخية، هو الوريث الحقيقي للبداية الأصيلة الصادقة لهذا الحزب التي تميزت بالأخلاقية وتميزت النظر التاريخي، حزبنا في العراق هو المكمل لتجربة الحزب السابقة، لتجاربه العديدة الغنية بايجابياتها، وهو المستوعب والمتعظ بسلبياتها، وصل إلى الحد الذي يستطيع فيه أن يلبي نداء الأمة، نداء العروبة في ظرف من أحرج الظروف، واني لمؤمن بأنه سيكون عند ثقة الأمة به.

 

******

الأسئلة والأجوبة

 

  • وردت في هذا الحديث "لفظة الروح" وتتكرر عدة مرات ماذا تعني كلمة الروح هل هي الروحانية أو الإرادة أو غيرها؟

ليس لهذه الكلمة في استعمالنا وفي قصدنا أي معنى غيبي أو ما ورائي. هي تعبير عن نزوع الإنسان ونزوع الجماعة سواء أكانت حركة نضالية أم أمة بكاملها إلى تحقيق المثل والى الانسجام في الحياة مع المثل الأخلاقية الرفيعة. هذا هو المقصود.

     

  • هناك أيديولوجيات دينية وأممية ترافق النهضة العربية فما هو تصوركم لمستقبل هذه الأيديولوجيات ومكانتها من المجتمع العربي؟
أيها الرفاق

حركتنا تعتز في جملة ما تعتز به من مميزات تجلت فينا خصوصية الثورة العربية بل خصوصية الأمة العربية، تعتز حركتنا بموقفها الايجابي من الدين وقد أعلنت ذلك بكل ثقة وقناعة يوم كانت الحركة الشيوعية والنظرية الماركسية قبل ثلاثين عاما أو أكثر عند بداية الحزب تخلق نوعا من الإرهاب الفكري على الأجيال العربية، وكلكم تعرفون بان الشيوعية والماركسية أخذت تتراجع عن شعاراتها وادعاءاتها فيما يخص الأديان وأهمية الدين ودوره في المجتمع، ولعلكم تعرفون ما تم في هذا المجال في أوربا وموقف الأحزاب الشيوعية في بلدان أوربا الغربية المعروفة بأنها هي القسم الراقي من العالم، هذا من ناحية، وبأن نظرتنا كانت نظرة عميقة إلى النفس الإنسانية، إلى التاريخ البشري ونظرة أصيلة إلى تاريخنا نحن والى تكوين امتنا فحركتنا قامت بشيئين، في هذا المجال، أعطت الدين بصورة عامة كدين دوره المشروع في حياة البشر وتاريخهم وتطورهم. وأعطت الإسلام، الدين العربي، الدين الإنساني، أعطته المكانة الأساسية في تكوين قوميتنا ليس فقط بالنسبة إلى الماضي، وإنما بالنسبة إلى كل وقت. فما دامت الأمة العربية على هذه البسيطة فالإسلام هو التراث الروحي وهو المحرك لها، هو ملهمها، هو مرجعها الروحي، وهو الحركة الثورية المثلى في نظر البعث. أما النظريات أو الأيديولوجيات الدينية فرأينا أو رأي الحزب فيها بأنها لا تؤدي الغرض القومي ولا توصل إلى نتيجة ايجابية.
تصورنا أيها الرفاق تصور كلي للحياة القومية، الحياة القومية في نظرنا تشمل كل شي، والعقيدة الدينية داخلة في تكوينها دخولا عضويا فنحن كما بينت أو لمحت في هذا الحديث فهمنا التراث كحركة ثورية وأعلى حركة ثورية يمكن أن توجد، وهذا يعزز ثقتنا بأمتنا إذ منها ظهرت هذه الحركة وعلى أرضها نشأت ومن عبقريتها وعبقرية أبطالها وأخلاقهم تكونت، فهذا إذن داخل في تصورنا الثوري الأساسي. وقلت بأننا خالفنا الذين يكتفون بان يرددوا ما قاله التراث دون أن يصلوا إلى التراث عبر الثورة والنضال، فالتراث الروحي المميز لامتنا لا نفهمه إلا كثوريين مناضلين نصل إليه بعد أن نقطع أشواطا في مسيرتنا النضالية، وهذا في رأينا هو التصور السليم.

الأيديولوجيات التي تفصل العقيدة الدينية عن العقيدة القومية والثورة القومية بكل متطلباتها، هذا شيء مجزأ سطحي ولن يحرك كل القوى المبدعة في امتنا وسرعان ما يتحول إلى تقليد وانتفاع، إلى غوغائية ونفعية في حين أن التصور البعثي هو الذي يضع الموازنة والمعادلة الصحيحة، هذا بخصوص الأيديولوجيات الدينية. أما الأممية فأقول أيضا بأننا عبرنا عن ناحية من خصوصية الثورة العربية عندما أكدنا حقيقة القومية التي كانت الماركسية والشيوعية تنكرها أكدناها، لم ننف الأممية بل أكدنا القومية وفهمنا القومية على ضوء تراثنا الإنساني ومن خلال تجربتنا النضالية الراهنة، قوميتنا هي أيضا أممية، هي إنسانية، ولا يمكن إلا أن تكون أممية، بالمعنى الطبيعي غير المصطنع، لا الأممية التي لها مؤسسة وتنظيم وفروع وتابع ومتبوع، وإنما الأممية بمعنى الانفتاح والمشاركة في المثل وفي المصالح وفي طريق الحرية والاشتراكية لذلك نعتبر بان الأيديولوجيات الأممية لا يمكن أن تبلغ هذا الحد من النظرة السليمة والحية التي بلغتها نظرة حركتنا وثورتنا. والدليل على ضعف وفشل النظريات الأممية الأخرى هو ما نراه أيضا من تراجعات واضحة ومعروفة منذ سنين عديدة. والتصور الأممي الماركسي في تراجع وفي تجزؤ وانقسام وفي بعض الأحيان تناحر وتناقض. لذلك في هذه الناحية أيضا نحن على ارض صلبة في قناعتنا الفكرية.

     

  • تطرح الرجعية العربية الآن شعارات لم تجرؤ على طرحها في مرحلة الخمسينات مثلا كشعار تقسيم لبنان فكيف تفسرون ذلك؟

قلت في حديثي أيها الرفاق بان ما دبر للبنان هو في الواقع مدبر لتيئيس الثورة العربية كلها من خلال المشاهد والمآسي التي تمثل على ارض لبنان. فليس لبنان هو المقصود بقدر ما هي البلاد العربية كلها والحركات العربية الثورية والنضالية.. شيء مدبر تعده الدوائر الاستعمارية والصهيونية ليوم تفل فيه أسلحتها الباقية أعدت هذا السلاح المخرب من داخل بنياننا القومي في نقطة ضعيفة فيه هي لبنان بأوضاع غير طبيعية هناك المقاومة الفلسطينية جاءت إلى لبنان بعد أن ذبحت في الأردن وبعد أن سدت في وجهها الأبواب، لم تجد غير لبنان لتواجه انطلاقا منه العدو الصهيوني رغم انه اقل الأقطار استعدادا بحكم تركيبه الخاص لان يستقبل المقاومة على أرضه. وكان الكيان الصهيوني باعتداءاته المتكررة على جنوب لبنان وأحيانا على كل لبنان يحرض الفئات الانعزالية لكي تتخذ من ذلك حجة ضد تواجد المقاومة.

ثم أن الوضع الاجتماعي والسياسي والوطني في لبنان بلغت تناقضاته حدا لا يحتمل، فالاعتداءات الإسرائيلية تتوالى والجيش يتجاهلها بينما يقوم هذا الجيش أحيانا بقمع الحركات الشعبية، ثم النظام الليبرالي الرأسمالي المشبوه بعلاقاته وارتباطاته الاقتصادية والسياسية مع الغرب الاستعماري أدى إلى تفاوت شديد في الطبقات والى تزايد وطأة الاستغلال الطبقي للجماهير الشعبية في لبنان إلى حد أيضا كان مهيئا وممهدا للانفجار. فالفئات الانعزالية كانت ترى تقدم الحركة الشعبية في لبنان، واتساعها وتزايدها في العدد والقوة مدعومة بالمقاومة الفلسطينية التي كانت تعرف أن مصيرها في لبنان مرتبط بمصير الحركة الشعبية فكانت الفئات الانعزالية الخائفة على مصيرها وعلى امتيازاتها وعلى تسلطها لأنها كانت متسلطة على الدولة والاقتصاد وعلى الجيش، هي البادئة بالعدوان وافتعلت المعركة مستفيدة من الجو الدولي، جو تدبير الحل الاستسلامي المعروف وجو انتعاش الرجعية في البلاد العربية، لكي تحسم هذه الفئات المعركة لصالحها قبل أن يفوت الأوان، فإذن أكثر العوامل هي عوامل مصطنعة وخارجية لا تعبر عن حقيقة الأوضاع ولكن فيها دروسا جديرة بأن تفهم وتقدر عبرتها، هي: إن تأخرنا كثورة عربية بكل فصائلها، في السير في طريق الوحدة وفي تطبيق فكرتنا الثورية عن الوحدة، لأننا في حزب البعث لا نؤمن بالوحدة التي تأتي من نفسها، الوحدة الساكنة الجامدة، وإنما نؤمن بالوحدة الديناميكية المقتحمة الهجومية التي تعرف بان الزمن قد يكون معاكسا لها وإنها يجب أن تفرض نفسها على الزمن وإنها مفجرة للقوى، هذه الوحدة هي في أساس تفكيرنا البعثي، عندما لا تمشي الثورة العربية في طريق الوحدة، فالأعداء الاستعماريون والصهيونيون يهددون القطر الواحد بان يجزؤوه إلى أقطار، واذكر أننا في عام 1956 إبان أزمة القناة والعدوان الثلاثي على مصر، كانت الرؤية الثورية واضحة عندما قلنا بان "النضال العربي غدا ذا منطق قاهر، وعليه أن يتقدم دوما لئلا يضطر إلى التراجع"، لم يعد الجمود والمراوحة في نفس المكان ممكنا في الظروف القومية والدولية التي نعيش ضمنها، لان الأعداء الاستعماريين والصهيونيين عندما يحاربوننا يضعون لمحاربتنا أسلحة ومؤامرات بوزن الوحدة العربية التي لم تتحقق بعد، هم يعرفون خطر الوحدة عليهم فيحاربونها قبل أن تتحقق وقبل أن نمشي إليها فإذن نحن في كل الأحوال سواء أقدمنا في طريق الوحدة أم انكفأنا فنحن نتحمل عبء الوحدة، أي نتحمل عداء مساويا لخطر الوحدة على أعدائنا فالمنطق يقول بأنه مادمنا نتحمل هذا العبء فيجب أن يكون ثمنه الإقدام على الوحدة وتحقيقها.

     

  • كيف نوفق بين الموقف الايجابي من الدين وعلمانية البعث؟

كلمة صغيرة عن العلمانية وكيف واجهها البعث. في تراث الحزب إشارة إلى ذلك قد لا تكون وافية ولكنها أكيدة ولا تحتاج إلا إلى توسيع وتفصيل. عند ظهور لحزب أيها الرفاق كانت هناك دعوات واتجاهات قومية تقول بالعلمانية وتعتبر بان القومي العربي هو الذي يتجرد من معتقداته الدينية ويلتقي مع أخيه العربي على صعيد القومية العربية الحقوقية والرابطة الوطنية وكان لهذا المذهب رواج كبير بين الشبيبة المثقفة، ولكننا لم نستسغه ولم ننخدع به واعتبرناه في أحسن الحالات والتفسيرات سطحيا وجامدا غير معبر عن الروابط العميقة التي تربط العربي بقوميته، وكان من الجائز الاشتباه بهذه الدعوة لان المستعمر الأجنبي الغربي الذي كان يحتل أقطارنا، لم يكن يخفي ارتياحه لهذه العلمانية بل كان يشجعها، لان ذلك كان يؤدي إلى إفقار قوميتنا من دمها ومن نسغ الحياة فيها، من أصالتها، من روحها، لذلك كان من أول ما تصدى له حزبنا في بدايته هو هذه القومية المجردة، أذكركم ببعض الكلمات التي كانت تشير إلى ذلك.

فهناك إشارة في كراس "ذكرى الرسول" إلى القومية التي تأتينا من الغرب على النمط الأوربي ونشير إلى الفارق بين قوميتنا وبين القوميات الغربية والى أن الإسلام هو تاريخنا وهو بطولاتنا وهو لغتنا وفلسفتنا ونظرتنا إلى الكون واشياء كثيرة يصعب حصرها وتعدادها. فما الذي يضطرنا، لكي نكون قوميين سليمي الانتماء، أن نطرح كل هذا من حياتنا ونضعه على الهامش فإذن نحن ذهبنا بكل بساطة وصراحة إلى واقعنا الحي، ما هو واقعنا؟ هو العلاقة العضوية بين العروبة والإسلام، أما العلمانية بمعنى أن الدستور والقوانين لا تميز مذهبا على آخر في القبول للوظائف أو في كذا
وكذا هذه أمور بسيطة ونسلم بها ونحن نمشي مع هذا العصر ولا نجادل في ذلك إذا كانت المسألة مسألة نصوص دستورية وقانونية ولكن البعث وضع الأمور في نصابها عندما وضع الإسلام كثورة أخلاقية وفكرية واجتماعية حاسمة في تاريخ البشر، وضعها في صلب القومية العربية. بهذا المعنى لا يوجد عربي غير مسلم، هذا إذا كان العربي صادق العروبة وإذا كان متجردا من الأهواء ومتجردا من المصالح الذاتية. العروبة تعني الإسلام بهذا المعنى الرفيع الذي لا تعصب فيه ولا تمييز ولا أي شيء سلبي.

أيها الرفاق

لا بأس أن أتوسع قليلا واخذ من حوادث لبنان أمثلة حية، أمثلة في غاية الأهمية. إني أسفت دوما وتألمت دوما طوال سيرة الحزب التي مضى عليها خمسة وثلاثون عاما حتى الآن لأن أفكار البعث لم توضح كما يجب ولم تعط من الاهتمام ما تستحق من اجل التوضيح والتوسيع والتطبيق على الواقع العربي بكل ظروفه وإشكالاته وتعقيداته، ولكن ماذا نرى الآن؟ نرى في لبنان اتجاها سبق الحوادث الأخيرة وهذا دليل ايجابي ودليل على صدق وعمق هذا التطور الفكري في المجتمع العربي، قبل سنتين على الأقل أخذت تظهر أفكار في لبنان من الطوائف المسيحية، من أفراد ومجموعات صغيرة تتمرد على المفهوم الطائفي الرائج وعلى النظرة الضيقة وعلى التعصب وأيضا على أشياء كثيرة في المجتمع اللبناني الذي هو جزء من المجتمع العربي، تتمرد على الاستغلال الطبقي وعلى الفقر والبؤس في الأوساط الشعبية الكادحة وعلى التركيب السياسي القائم على التزييف والزعامات التقليدية المستغلة والمعرقلة لكل تقدم وعلى الدعوة الانعزالية التي تنكر على لبنان عروبته وتريد عزله عن الجسم العربي، ظهرت مثل هذه الأفكار وحتى من قبل رجال دين وكانت لهم مجلات تنطق باسمهم وفيها معالجات جريئة خلقت إشكالا ضمن طوائفهم وبين أقرانهم ورؤسائهم من طبقة رجال الدين ووصلت إلى الصحف نزاعات وخصومات ولعل بعضكم اطلع على شيء من هذا في صحف لبنان منذ سنتين وأكثر.

الشيء الجديد هو أن بعض هذه الأفكار كان يقول ويصرح بجرأة بان الموقف المسيحي من الإسلام كان خاطئا من أساسه وانه متأثر بالتبعية للغرب ومتأثر بالتربية الاستعمارية في المدارس الأجنبية وان النظرة الجديدة إلى الإسلام يجب أن تكون انه هو الدين الثوري الإنساني وان العروبة والإسلام متلازمان ولا ضير في ذلك، لا بل بعضهم خطا خطوة أكثر جرأة وكتب، وهو رجل دين ماروني مقالا طويلا وعلميا ومدعوما بالشواهد التاريخية يقول بان نشأة المارونية لم تكن ضد الإسلام، بل أن الموارنة هربوا إلى لبنان من اضطهاد الفرق المسيحية الأخرى لهم التي كانت تستعين بالدولة البيزنطية ولم يدخلوا في صدام أو خلاف مع العرب المسلمين. ثم يستعرض حقبا من التاريخ وينتهي إلى القول والى مصارحتهم بأنهم وجميع المسيحيين في هذا الشرق العربي إذا لم يقبلوا عن طوع وإرادة واقتناع ومحبة بان يكونوا بمعنى من المعاني مسلمين فأنهم لا يكونون أمناء لفكرهم ووطنهم وعروبتهم. هذا ما قلناه قبل ثلاثة وثلاثين عاما في عام 1943 بان المسيحيين العرب عندما تستيقظ فيهم قوميتهم سوف يعرفون بان الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها ويحبوها ويحرصوا عليها حرصهم على اثمن شيء في عروبتهم. لم يفعل الحزب شيئا كثيرا لنشر هذه الأفكار وللدعاية لها ولتوضيحها ولتوسيعها ولكن تطور الأحداث خلال ثلاثين عاما أوصل إلى هذه النتائج عند البعض وهي بدايات لا شك أنها ستكون لها تتمة. فإذن لم يكن ممكنا لنظرة كنظرة البعث أن تؤخذ بخرافة العلمانية وسطحيتها، وان كنا لا نجادل في الحدود والتطبيقات القانونية والدستورية لما يفهم من العلمانية، ولكن العلمانية كإهمال وبتر لأهم شيء في قوميتنا وفي تاريخنا وفي تكويننا النفسي والعقلي، هذا شيء غير مقبول وغير واقعي وقد سقط منذ ان ظهر حزب البعث ولم يعد لتلك النظرة قيمة كبيرة.

19 كانون الثاني 1976


 (1) محاضرة في مدرسة الإعداد الحزبي، بتاريخ 19/1/1976

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثالث