ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


نداء إلى المناضلين العرب

ضرب الثورة الفلسطينية ضرب للقضية الموحدة للأمة

 


إن الأحداث الراهنة
(1) التي يشهدها لبنان، هذه الأيام، تمثل مرحلة من فترة التراجع والتردي التي بدأت بشكل واضح وصريح مع هزيمة عام 1967، ومع نكسة الانفصال عام 1961 في حقيقة الأمر. بعد أن كانت فترة الخمسينات، فترة المد القومي، هي المعبر الصادق عن حصيلة النضال الفكري والسياسي والثوري منذ بداية ظهور النهضة قبل قرن ونصف.

إذن، فترة الخمسينات لم تكن فورة آنية منقطعة الصلة بما قبلها، وإنما هي الوريث والمكمل الذي انضج الجهود المتتابعة والمتفاعلة مع معاناة الشعب وتراثه وقيمه الأخلاقية والإنسانية، ومع ما يجري في العالم من تطور.

لذلك، لا يجوز أن نعطي لفترة التراجع والتردي، التي نشهدها، وما أفرزته من انحرافات، أية قيمة ايجابية. لأن هذه الفترة هي المظهر السلبي للتراجع المؤقت للمبادئ القومية الحائزة على إجماع الشعب العربي، أمام هجمة شرسة لأعداء الأمة استغلت بعض نواحي الضعف في المجتمع، وأخطاء القيادات في تطبيق المبادئ. وهذا لا يمنع أن نرى في مظاهر الانحراف والتردي مجالا خصبا للتحليل والتعمق في معرفة أسباب الأمراض، وأساليب الأعداء في تآمرهم على نهضة الأمة، على السواء. ولكن الأهم هو ان يترسخ يقيننا بصحة المبادئ والمنطلقات التي وجهت مسيرة النهضة، لأنها من صنع الأمة وهي في أحسن حالات اليقظة واسترجاع الشعور بدورها الحضاري والإنساني، ومن صنع مفكريها ومناضليها في أجواء صحية مُبرأَة من التعصب و الهيجان، ومن الأطماع والجشع إلى السلطة ولعب الأدوار، كما هي الحال اليوم، وفي أجواء الجهاد ضد المستعمرين، والدفاع عن السيادة والاستقلال، والتعلق بالحرية، والتطلع إلى الرقي.

هذه المبادئ والمنطلقات القومية ستبقى أقوى وأمضى سلاح في يدنا في مواجهة مؤامرة التشكيك والتيئيس، شريطة أن نعزز مصداقيتها بالاستبسال والتضحية في سبيلها، لكي يتجدد فعلها في نفوس الشعب ويتعمق أثرها ويتسع ليشمل كل الفئات والأوساط، فيمحو الترسبات الطائفية والإقليمية التي برزت في الآونة الأخيرة لدى البعض.

مؤامرة واحدة تحدث آثار مختلفة ومتناقضة حسب الوسط الذي استهدفته هذه المؤامرة، وحسب درجة تمثله وهضمه لمبادئ النهضة وممارستها الحية في النضال. فمؤامرة الصهيونية لتفتيت كيان لبنان والرجوع به عشرات السنين إلى الوراء وإغراقه في دمار الحرب الطائفية وويلاتها، لا تختلف عن المخططات التي أوحتها أطماع الخميني في السيطرة على العراق والوطن العربي، متوهما أن بإمكانه استغلال الفروق الطائفية، فكيف كان جواب الجماهير الشعبية في العراق، صاحبة الماضي العريق في النضال الوطني والقومي، والتي وجدت في هذا التحدي الجديد لوطنيتها وعروبتها، مناسبة لكي تسجل مستوى نادرا في الوعي والبطولة والتضحية؟

ذلك أن العراق بكامل شعبه ومختلف فئاته يعيش حالة نهوض مشرقة تستلهم المبادئ القومية الاشتراكية، كما عبر عنها المد الشعبي القومي في فترة الخمسينات.

بينما لبنان، بسبب هشاشة تركيبه، الذي بني على الأسس الطائفية منذ تكوينه الحديث، فجاء تركيبا مضعضعا غير مستقر على أسس عادلة متطلعة إلى التقدم.. بل كانت منشدة إلى الترسبات الموروثة من عصور التخلف والانحطاط. وكان أبناء الطائفة الشيعية في هذا التركيب اقل الفئات حظا في خيرات الوطن وأكثرها حرمانا وتعرضا للاضطهاد. لذلك كان صمودها ضعيفا أمام إغراءات السقوط في لعبة الصراع الطائفي ليس تعبيرا عن حقيقتها العميقة بقدر ما كان ذلك توسلا لرفع الظلم واسترداد الحقوق، ولو على حساب المبادئ وشرف الانتساب إلى الأمة والمساهمة في صنع مستقبلها.
لقد استغل أعداء الأمة ظروف التراجع والتردي، وما أفرزته من انحرافات، وكذلك ظروف لبنان بتكوينه الهش المصطنع، لتحميل الفئات المكونة للمجتمع اللبناني أكثر من طاقتها على الصمود والاحتفاظ بالوعي والنظرة المستقبلية، من خلال إغراقها بالأخطار والمآسي، ومن خلال الامتدادات الإقليمية والدولية التي وجدت في هذا التكوين تربة خصبة للتدخل من وراء الواجهات الطائفية، في وقت كانت فيه القوى الحية الممثلة لفكر النهضة وروحها منشغلة بمواجهة قوى الردة، التي تنتعش مع كل نكسة قومية.

وإذا كان الكيان الصهيوني بمساعدة وتأييد الامبريالية هو المدبر والمحرك لخيوط المؤامرة على لبنان، فان النظام السوري كان المنفذ الأساسي لهذه المؤامرة، وبخاصة انه قد حمل منذ تسلطه على سورية هذه الشبهة الطائفية التي حتمت عليه أن يكون معزولا عن الشعب، ومضطرا دوما -لإدامة بقائه- إلى لعب الأدوار الخارجية الملتقية مع مخططات الأعداء، لصرف الأنظار عن عزلته الداخلية.

فلولا النظام السوري، لما تجرأت "أمل" على ضرب المخيمات. لقد وفر لها السلاح وحاول أن يوفر لها الغطاء كما وفر من قبل غطاء للفئات المنشقة عندما ضربت مخيمات طرابلس. وإذا كان المغامرون والانتهازيون الوصوليون قد ارتضوا أن يقوموا بهذا الدور، فكيف ترتضيه جماهير الشيعة الكادحة التي تمد "أمل" بالمقاتلين، وهي التي تلاحمت مع الثورة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني؟
إن هذا الموقف المنحرف لمنظمة "أمل" يعكس حالة الشذوذ التي تطبع الفترة الراهنة، والتي لم تكن تخطر في البال من قبل... أبناء القضية الواحدة والمصلحة الواحدة، ورفاق النضال يقتل بعضهم بعضا!
هذا الموقف المنحرف الذي يقيس مدى التردي والشذوذ اللذين أصابا العمل الوطني عندما تخلت القيادات عن المبادئ القومية ورضيت بالانحدار إلى مستوى التشرذم الطائفي المذهبي، دليل جديد على أن الارتداد عن المبادئ القومية إلى العصبيات والمصالح الفئوية هو انحدار لا يقف عند حد، ولا يتورع عن ارتكاب اخطر الانحرافات.

إن النظام السوري يتحمل القسط الأوفر في بروز حالة الشذوذ واستشرائها، بسب امتهانه قدسية القيم القومية، وتحريضه بعض الفئات على امتهانها، وتعويد الناس على ذلك بهدف تيئيسهم، سواء باعتداءاته المتكررة على الثورة الفلسطينية لكي يستحوذ على القضية الفلسطينية ويستخدمها ورقة من أوراقه السياسية الخارجية، أو بوقوفه إلى جانب إيران ضد العراق، وهذا يتطلب موقفا حازما منه. فإذا عجز الحكام أو جبنت بعض الأنظمة عن اتخاذ هذا الموقف، فهناك الأحزاب والهيئات والفئات العربية المناضلة والمثقفة. وهذا امتحان لجدارتها بتولي القيادة النضالية في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة. لان موقفا مبدئيا جريئا كهذا، لابد أن ينعكس على الشعب داخل سورية فيمده بالقوة الإضافية التي يفتقر إليها حتى يتكافأ مع وسائل الإرهاب التي في حوزة النظام الديكتاتوري.

إن القضية القومية في الظروف الراهنة تشترط تضامن جميع الفئات القومية على اختلاف أقطارها مع النضال الشعبي لكل قطر لتضاف قوتها إلى قوة النضال المحلي الذي يواجه وسائل الأنظمة القمعية في صراع غير متكافئ. والظروف الراهنة تقدم الفرصة المواتية لممارسة وحدة النضال العربي كحقيقة ثابتة متجددة تستوجبها الضرورة القومية المصيرية، بعد أن تأكد بالواقع اليومي خلال سنين طويلة أن نفكك وحدة النضال وانكفاء كل قطر داخل حدوده، هو العامل الرئيسي في تعطيل قوة الجماهير العربية وإبعادها عن قضيتها وعن صنع مستقبلها.

ومع إيماننا بان القضية الفلسطينية اكبر من أن يستطيع أي حاكم أو نظام أن يستحوذ عليها أو أن يزيفها، فإننا لا نستخف بالمؤامرة وبالطور الخطير الذي بلغته، والذي لا يجوز معه الصمت والتجاهل من قبل الأنظمة العربية، ومن باب أولى من قبل الأحزاب والهيئات القومية المناضلة. والجواب المطلوب يجب أن يكون في مستوى المؤامرة الخطيرة التي مازالت فصولها تمثل، والتي تجاوز فيها العدوان على الشعب الفلسطيني كل الحدود الهمجية... أي أن يكون الجواب فيه من الجرأة في الانتصار لقضية العرب الكبرى المتمثلة الآن في هذا الصمود البطولي للمقاتلين الفلسطينيين ولسكان المخيمات، ما يعادل، على الأقل، جرأة المنحرفين في اعتدائهم على كل القيم التي يقدسها شعبنا العربي.

لقد ضاع وقت طويل في التردد واللامبالاة ولكن الوقت لم يفت بعد أمام المقدرين لمسؤوليتهم التاريخية من المناضلين والمفكرين العرب لكي يتنادوا إلى لقاء عاجل ليس من المستبعد أن يسجل بداية لتحول حاسم في حياة الأمة.

ولكي تأخذ هذه الدعوة بعدها العملي، فأنني باسم حزب البعث العربي الاشتراكي، أدعو قادة الأحزاب والهيئات الشعبية والمفكرين العرب وقادة منظمة التحرير الفلسطينية للتداول حول عقد هذا اللقاء، في أسرع وقت ممكن.


10حزيران 1985

(1) نداء وجهه الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي الأستاذ ميشيل عفلق بتاريخ 10 حزيران 1985.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني