ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


حول مقال نداء المسؤولية التاريخية

 


أيها الرفاق

لقد نبعت فكرة المقال من الفترة العصيبة التي تجتازها الأمة العربية، فترة ضياع وتشتت ويأس يزداد يوما بعد يوم وكأن هناك مخططا معاديا لكي يخدر الشعب العربي ويوقعه تحت شعور العجز التام واليأس من نفسه.  

في هذا الجو يستيقظ الحس التاريخي في الحزب، والدور الأصيل للحزب يعود ليفرض نفسه بإلحاح على ضمائر المناضلين وعقولهم: هل انتهى الحزب؟  

هل تسري عليه هو أيضا نفس قوانين اليأس والعجز والضياع ويكون من بين المستسلمين والمتفرجين على عجزهم وعلى ذلهم، أو أنه، لما له من نظرة قومية شاملة، بما له من ماض طويل، يشعر انه ما زال قادرا على أن يقول كلمته وان يلعب دوره متجها إلى المستقبل متحللا من شتى القيود الاصطلاحية والآفاق الضيقة ولو بشيء من القسوة على النفس وبتوجيه اللوم والتعنيف للنفس، والرجوع إلى الأفكار والمبادئ الأساسية للحزب، والرجوع إلى عفوية الشعب بالوقت ذاته أو كشيء واحد، أي أن الرجوع إلى المبادئ الأساسية هي مثل الرجوع إلى عفوية الشعب.    

هل نستسلم؟ أم نقاوم مؤمنين وواثقين بقدرات امتنا اللامحدودة على المقاومة والصمود؟  

وهذا يجب ان يبقى أيضا ضمن صيغ واقعية وان لا يتميع في أحلام واسعة وسائبة.  

فمن أرض المعركة، من موطن الخطر، يجب أن نستخرج الصيغة الواقعية العملية لتكون بداية الانطلاق البداية الناجحة المشجعة حتى تتحرك القوى العربية في الأقطار العربية البعيدة وترفد هذه البداية وتكملها.  


كيف نستطيع إذن أن نجند نواة قوة جدية للمواجهة، لمواجهة إسرائيل؟ هناك إذن الأقطار الأساسية واضحة: مصر والعراق وسوريا.  

فلماذا إذن هذا الشيء البديهي في ضمير الشعب وتفكيره، لماذا هذا الشيء كاد يصبح ابعد شيء عن التصديق، أي أن تجتمع هذه الأقطار الثلاثة؟  

لان هناك مؤامرة كبيرة وقديمة، وحزبنا يعيشها من الداخل واقدر من أي فئة في الوطن العربي على كشفها وفضحها وبالتالي تحطيم هذه العقبات التي كانت توضع دائما لمنع وحدة الأقطار الثلاثة.  

فكان لا بد إذن من التفاتة إلى الماضي، التفاتة إلى الوراء، إلى ماضي أكثر من عشر سنوات أو 12 سنة، إلى تاريخ قيام أول تجربة وحدوية الذي هو في الوقت ذاته تاريخ إحكام اكبر مؤامرة استعمارية صهيونية، لم تكن المؤامرة الأولى ولكنها حلقة جديدة وضخمة تتناسب مع القفزة التي حققتها الأمة العربية في ذلك التاريخ من بعد جملة انتصارات تتالت في أعوام قليلة وتوجت بقيام الوحدة بين سوريا ومصر.  

ضخامة هذه المؤامرة وخبثها يتمثل في أنها لغم للثورة العربية من داخلها، بزرع بذور الانقسام والتناحر فيما بين قواها الرئيسية.   

ولان الاستعمار والصهيونية تقديرا لخطر نجاح الثورة العربية ولخطر تحقق الوحدة العربية على وجودهم، وضعا كل إمكانياتهم ودهائهم وأحدث أساليب التخريب في تلك المؤامرة، ولكن الثورة العربية من جهة أخرى غضة العود فيها ثغرات، وفيها سطحية، وفيها عاطفية أكثر مما فيها من الوعي العميق والتنظيم المتين، وفيها جملة تناقضات، كل هذا سهل أن تنـزلق بعض القوى الثورية العربية في مخططات الانقسام دون تقدير لكون هذا ما يرمي إليه الاستعمار والصهيونية، أي انزلاق دون وعي تام واضح لمرامي هذا المخطط.  

إذن الدعوة إلى توحيد هذه القوى الأساسية كبداية للمواجهة، لمواجهة العدو ولمعركة التحرير من دون هذا النقد الذاتي، وهذا الرجوع إلى الماضي لتحليله وتوضيح تناقضاته وأسباب نكساته، وكل ما دخله من الإرادة الأجنبية والتخطيط الأجنبي، الدعوة هذه تبقى دعوة شكلية وفوقية وسطحية وعقيمة، أما أن تبقى بدون تنفيذ وان تصبح كمثل هذه الدعوات والمشروعات التي تقوم من اتحادات لا تبنى على أساس جدي عميق ومتين من الوحدة الحقيقية بين الجماهير، وحدة تقوم على أنقاض الرواسب والحواجز المصطنعة والأحقاد والخلافات التي افتعلها الأعداء.  

إذن الدعوة منطلقة أساسا من جواب على سؤال مصيري:  

هل نستسلم أم نقاوم؟ هل نيأس أم نؤمن بإمكانية النصر؟  

وبعد هذا الجواب من الطبيعي أن نعتبر أن حزبنا هو القوة الثورية المؤهلة أن تقود وان تتبنى هذه الدعوة، وان تتوجه بثقة بالنفس وثقة بالأمة، تتوجه إلى القوى الأخرى التي لا بد من إشراكها إذا كنا مصممين على خوض المعركة.  

ولا يمكن أن نجد سبيلا إلى عقول جماهير هذه القوى وقلوبها إذا لم ننطلق من التجرد الكامل والنزاهة التامة والإرادة المؤمنة فلا نميز أنفسنا عنها ولا نتجاهل قسطنا من الخطأ بل نتكلم بلغة الجماهير العفوية وبنظرتها التي لا تقر الخلافات مهما كانت وجاهتها أمام خطر الغزو الاستعماري الصهيوني المدمر لوجود الأمة.  

هذه اللغة التي هي لغة الشعب، لغة الجماهير، لا بد أن تصدم العادات المألوفة والتفكير العادي والعقليات والمصالح، ولكن ليس غير هذه اللغة قادرا أن يعبر عن الحاجات العميقة بهذا الظرف وان ينقل القوى الثورية إلى المناخ الثوري الحقيقي.  

هذه الدعوة إذن، لئن تضمنت قسوة على أنفسنا كحزب فهذا هو الثمن والشرط الضروري لكي يبقى للحزب دور تاريخي، ولكي يبقى له حق القيادة وحق التوجيه إلى القوى الأخرى وتحريكها وتوحيدها.  

والمفروض انه إذا أدرك الحزب مرامي هذه الدعوة، وارتفع إلى مستواها، المفروض فيه أن يرى فيها مصلحته العميقة وسبيل استمراره كقوة من قوى المستقبل، ما دامت القوى الأخرى لم تبرهن على نفس الدرجة من التجرد والوعي والثقة بالنفس حتى تبادر إلى مثل هذا الموقف أو مثل هذه الدعوة.  
طبيعي أن المقصود بالدعوة هي الجماهير وليست الأنظمة والمقصود بصورة خاصة من الحركة الناصرية هي الجماهير العربية في مصر لان حزبنا يتميز بأنه يدرك أهمية مصر ولا يتصرف بردود الأفعال.    

فمصر فيها مفارقات، فيها أعلى مستوى علمي وحضاري وصناعي بالنسبة إلى الأقطار العربية الكبرى، وفيها اكبر كتلة بشرية من جهة وهي حديثة العهد بالوعي العربي ومتخلفة بأمور أخرى، إذا قيست بلبنان والعراق وسوريا تظهر متخلفة في بعض الأشياء الأساسية التي تدخل في صميم العمل الثوري العربي.    

فلا بد أن تدخلها حركتنا ولا بد أن تتفاعل معها، وإذا عرفنا كيف هي العقلية في مصر، عقلية الطبقة المثقفة التي تعد بالألوف، هذه الطبقة القابضة على زمام التوجيه، وهي عقلية الاعتداد وعقلية الاستعلاء والاكتفاء بالذات وعدم التصور بان شيئا يمكن أن يأتي من خارج مصر. لا بد إذن أن نجد الأسلوب المناسب، أن نزيل هذه الحواجز النفسية ولو اقتضى الأمر حدا كبيرا من المرونة حتى يتحقق هذا الانفتاح.  

لا يمكن أن ننتظر حتى يأتي الآخرون إلينا، لا يمكن أن ننتظر الآخرين حتى يدخلوا المعركة، نحن يجب أن نبدأ، وان ندرك مسؤولياتنا، يجب أن نبادر.  
نحن نتوجه إلى الجماهير والى الفئات الواعية والبعيدة عن الانتهازية وعن المصلحية، القريبة من مصلحة الطبقة الشعبية، هذه تدرك بان مواجهة المعركة المصيرية لا تكون إلا بالوحدة، وبالوحدة الجماهيرية الواسعة. وبالتالي الإلحاح على أسباب الفرقة والاختلاف في هذا الظرف ليس إلا حجة من اجل التهرب من المعركة. افتعال المحاور والخلافات بين الأقطار والحكومات ومع حزب البعث بصورة خاصة. تذكرون كيف في وقت الموافقة على مشروع روجرز افتعلت حملة على الحزب ربما كان القصد منها أن يعودوا إلى المهاترات التي عرفناها في عامي 1963، 1964.    

هذا مفهوم، إنها ذرائع لتحجب عن الجماهير الطريق السوي الطبيعي لمقاومة العدو.  
الطريق الطبيعي هو في الوحدة العربية، وحدة للتحرير، وحدة لدخول المعركة، وحدة الجماهير المسلحة المقاتلة، فالأنظمة التي تخاف من الجماهير والتي لا تسلح الجماهير، لا تستطيع أن تدخل في معركة مع العدو، وبالتالي تحتاج إلى أن تتستر وان تلقي التبعة على غيرها.  
إذن فان حزبنا لا يستطيع أن يتخلف وان يستعمل نفس الأسلوب بان يلقي التبعة على غيره، وإلا سقط في عداد الحركات نصف الثورية وهبط إلى مستوى الأنظمة القطرية العادية.  

فإذا كانت هناك مسؤولية تاريخية كيف يجوز للحزب أن يدير ظهره لها؟ أن يتجاهلها؟ فإذا تجاهلها، فان التاريخ يتجاهله، ولا أقول بان مجرد الدعوة للوحدة العربية ولدخول المعركة سيحقق هذه الغاية وان الوحدة ستتحقق وسندخل معركة التحرير.    

كلا.. ولكن يجب أن نبدأ، أن نحرك الجو.. هنا دعوة إلى شعب مهدد بوجوده أن ينتبه، دعوة إلى الضمير والعقل، أن يصحو في ساعات الخطر ودعوة من حزب يقول عن نفسه انه حزب الوحدة العربية، حتى عندما يحمّل الحزب نفسه جزءا من الأخطاء والنقد الذاتي فان هذا يجعل كلامه مسموعا لدى الآخرين، فينظر إليه بأنه موضوعي متجرد علمي صادق وانه لا ينشد المزايدة أو الاستغلال أو تسجيل التقصير على الآخرين أو أي شيء من هذا النوع. هذه دعوة إلى الشعب، إلى الجماهير، إلى الأفراد الواعين، المتجردين، المتحسسين بالمسؤولية التاريخية وهم موجودون في امتنا وفي كل قطر.  

أيها الرفاق:  

إن هذا المقال هو حلقة في سلسلة طويلة وكم كنت أتمنى لو كانت أطول بكثير مما هي، أي أن أتمكن أنا وكثيرون غيري من الرفاق أن يكتبوا في هذا المجال منذ سنين، أي أن يوضحوا ويفضحوا أبعاد مؤامرة كبرى على حزب البعث، وهي مؤامرة على الثورة العربية ولا تقتصر على الحزب. مؤامرة بدأت بالكشف عنها للرأي العام الحزبي والشعبي من قبل 23شباط، منذ عام 64 حتى الآن في كتابات وأحاديث في مؤتمرات الحزب وفي بعض مناسبات عامة في سوريا وفي ندوات مع القواعد قليلة، لأنه لم يكن ذلك ميسورا دوما. كانت تقوم صعوبات جمة في وجه لقائي مع القواعد ولو راجعتم هذه المقالات والأحاديث التي جمعت في كتاب "نقطة البداية" وهي ليست كل شيء، لان أكثر الأحاديث والكلمات التي ألقيت في سوريا بين عامي 64 و66 غير متوافرة وليست في متناول اليد، لوجدتم أنها كلها تدور حول هذه الأشياء، أي أن هناك مؤامرة يجب فضحها ويجب أن يلجأ الحزب إلى الجماهير يصارحها ويشركها في قضيته وفي المحنة التي يتعرض لها باستمرار. عندئذ سيجد العون الكبير من الجماهير.    

كانت تطغى عوامل عدة ومنها هذا الاعتبار، إن ما يجري في الحزب يجب أن يبقى ضمن جدران الحزب لان ذلك غير مألوف، ولان ذلك يضعف الحزب عندما يكشف الخلافات والأشياء الداخلية لان أعداء الحزب يستغلون ذلك.  

لكن قناعتي كانت دوما أن الفوائد من هذه المصارحة وهذا الكشف هي أضعاف الخسائر والأضرار وهذه بالأصل النظرة الثورية التي ولد منها الحزب.    

وأظن أن كل حزب ثوري يولد هكذا لأنه عندما نعلن للشعب هذه الأخطاء سيسمعها الاستعمار والصهيونية، ولكن عندما نقرر أن نعلن أفكارنا للشعب فإننا ننطلق من الإيمان بان الشعب بتفاعله مع هذا الفكر يتمكن من ضرب الأعداء ويفوّت عليهم استغلالهم ومؤامراتهم.    

فالأعداء سيعملون كل ما في وسعهم لإحباط هذه الحركة والتآمر عليها، ولكن عندما نمضي في طريق إعلان أفكارنا للشعب نكون قد آمنا بان اعتناق الشعب لها اقوي من تخريب الاستعمار والرجعية والأعداء، وإلا لكان أسلوب الجمعيات الباطنية والسرية هو الأسلوب الصحيح.  

المؤامرة أيها الرفاق هي تشويه هذا الحزب تشويها كاملا إلى حد إيصاله إلى نقيضه.  

المؤامرة أرادت تحويل الحزب من حزب الجماهير الواسعة إلى حزب القلة القليلة الضيقة الحاقدة المتشنجة.  

من حزب التراث العربي إلى حزب الطوائف والأقليات، من حزب القيم الإنسانية إلى حزب القمع، من حزب الوحدة والوحدويين إلى حزب الانفصاليين والإقليميين.. لقد بدأت هذه الصورة تعطى عن الحزب بعد عام 63 حين صوروه في الأجهزة الإعلامية بأنه حزب فاشي، حزب القمع والإجرام.  

إن هذه المؤامرة إذا لم نكشفها لقواعد الحزب وللشعب ستبقى مسيطرة على أذهان الجماهير وأذهان القواعد، وحين تكوّن الجماهير فكرة معينة عن حزب البعث يستحيل أن تسير قواعد الحزب في صورة مختلفة. الجماهير هي المناخ الطبيعي والمجال الحيوي لعمل قواعد الحزب.  
فإذا كان عند الجماهير صورة مشوهة عن الحزب فعمل الحزب بينها يصبح عبثا.  
يجب أن يكشف الحزب هذا التشويه التاريخي بعملية مصارحة موضوعية ونزيهة، بهذا يكون قد فتح لنفسه طريقا جديدا بعدما كادت السبل تسد في وجه رسالته.  

يجب أن نعيد الصورة الأصلية للحزب، هذا حزب الوحدة حزب التراث العربي، هذا حزب العروبة الإنسانية، لا نتساهل في هذه الصفات بأي شكل من الأشكال، لا نقبل أن يتقوقع حزبنا فيأخذ شكلا منفرا وحاقدا ومبغوضا من الجماهير الواسعة..  

فالحزب وجد للشعب وليس العكس..  

والثورة وجدت للشعب وليس العكس..  

فالمسالة إذن ليست جديدة، وإنما هي محاولة قديمة ومستمرة، وكل أملي أن يتبناها الحزب ويساهم فيها ولا تبقى على جهد فرد واحد.

 

عام 1970

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني