ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


المؤامرة الكبرى


في الخامس من حزيران (1)، منيت الأنظمة العربية التقدمية بهزيمة تاريخية. ولقد كان من الطبيعي أن يسقط عار الهزيمة، الأقنعة التي كانت تحجب الأنظار عن رؤية حقيقة تلك الأنظمة واكتشاف الخلل الكامن فيها وفي أنماط العقليات والأساليب التي سادت المرحلة التي سبقت تلك الهزيمة..

وبعد أن استردت الأمة العربية وعيها من بعد ذهول الصدمة، اعتقدت أن بإمكانها تجاوز الهزيمة عن طريق تفهم أسبابها العميقة ومعالجة تلك الأسباب ولو اقتضى ذلك أن تعيد بناء ثورتها من الصفر. بيد أن الاستعمار والصهيونية وأعداء الثورة العربية، كانوا بالمرصاد لهذه اليقظة الجديدة. فقد جندوا قواهم لتعطيلها وإجهاضها والتآمر عليها والحيلولة دون الثورة العربية ودخول المرحلة الجديدة، مرحلة تحويل الهزيمة إلى منطلق للنصر، وقد وجد التحالف الاستعماري الصهيوني الرجعي في أنظمة الهزيمة خير عون له على تحقيق مخططه الإجرامي، ذلك أن ابتعاد الأنظمة العربية التقدمية عن الشرطين الأساسيين اللذين بدونهما لا تكون الثورة العربية ثورة بالمعنى الصحيح:

أ- مشاركة الجماهير الشعبية الواسعة.

ب- السير في طريق الوحدة العربية.

قد افقد تلك الأنظمة كل طابع ثوري جدي، وجعلها تقوم في الأساس على التسويات الطبقية والإقليمية والتسوية الضمنية مع الاستعمار والصهيونية وأعداء الثورة العربية. وكان محتوما أن يدخل الاستعمار بشكل أو آخر في بنيان تلك الأنظمة وان ينفذ إلى قياداتها وان يخط لتلك الأنظمة مجرى سيرها والحدود التي ينبغي أن تتوقف عندها.

وقد اتضح بعد فترة قصيرة من هزيمة حزيران المخطط الجديد المشترك الذي تعاونت على تنفيذه جميع القوى المضادة والمعيقة والمعادية للثورة العربية. فقد وجدت الأمة العربية نفسها بعد أيام وأسابيع من النكسة التاريخية معرضة لأدهى أنواع الدعايات والمؤثرات الهادفة إلى تخدير حسها بالهزيمة حتى تبتعد عنها صورتها يوما بعد يوم، وتنسى الذين تسببوا فيها، وتتم هكذا ببطء عملية ترويض نفسية فريدة من نوعها، لتوجيه الأنظار نحو مسببي الهزيمة كما لو أنهم منقذون، وتحويل صورة الهزيمة إلى ما يشبه النصر، وتصوير استمرار الأنظمة التي صنعت الهزيمة بأنه نصر يفوق نصر الأعداء. وبتعبير أوضح: حماية الأمراض والآفات التي أوصلت إلى ه حزيران وتمكينها من متابعة فتكها في جسم المجتمع العربي لكي تتجدد الهزيمة بين حين وآخر وتتوالد وتشيع اليأس وتقضي على كل أمل في الخروج من المحنة.

وهكذا سُلطت على الجماهير العربية الجريحة المنكوبة الأساليب الاستعمارية الجديدة لزرع اليأس في طريقها عن طريق دعم الصيغ القديمة التي جاءت بالهزيمة، وخلق الشعور لدى هذه الجماهير بأنها لم تخسر الحرب فقط، بل خسرت أيضا الدروس والعبر التي قدمتها النكبة.

وقد رافق عملية رد الاعتبار للأنظمة التقدمية المهزومة بطبيعة الحال، تشجيع للأساليب الفوقية البيروقراطية التقليدية المعادية لانطلاقة الجماهير، غير المؤمنة بدورها، المتسلطة على مقدراتها، المعيقة لتطور ثورتها، المزيفة لنضالها. وتشجيع مقابل أيضا للنزعات القطرية والانكماش الإقليمي والعشائري ولأساليب الغدر اللاأخلاقية. ومن خلال هذه الثغرات كانت الامبريالية والصهيونية والرجعية تجد منافذ لها للتآمر على اليقظة الجديدة للجماهير العربية الثورية الكادحة بعد الهزيمة. وقد أدى انكشاف التخلف والتردي والتسلط والتواطؤ لدى الأنظمة المهزومة المسماة بالتقدمية إلى تثبيت مواقع الأنظمة الرجعية واكتسابها قوة جديدة وعمرا جديدا بمجرد المقارنة مع تلك.

وأصبح من الجلي الواضح أن كل محاولة لبناء نظام تقدمي جديد بعد الخامس من حزيران، تحتاج إلى ارتفاع إلى مستوى جديد من التقدمية يكون نقيضا حقيقيا للنظم التقدمية الزائفة التي عرفتها مرحلة ما قبل النكسة. وان الفشل سيكون حليف الأنظمة الجديدة التي تطمح إلى تحطيم طوق التخلف والتجزئة والوقوع في أسر الاستعمار والصهيونية وأعداء الثورة العربية، إذا لم تنطلق من المبادئ والشروط التي تتطلبها المرحلة الجديدة، ومن الدرس الأول لهزيمة حزيران المتمثل بضرورة تخطي الأساليب القديمة التي ثبت فشلها وعجزها وتآمرها، أساليب العمل المغلق الفوقي والأساليب غير المؤمنة بالجماهير وبالوحدة وبأسلوب الكفاح الشعبي المسلح وبالعمل الجبهوي التقدمي.

وقد كان من البديهي أن تندفع الأنظمة الجديدة التي لم تتعظ بعبر النكسة إلى نفس المواقف التي وقفتها الأنظمة التي صنعت الهزيمة وان يكون موقفها من الكفاح المسلح ومن العمل الجبهوي ومن الوحدة العربية ومن الجماهير، على قدم المساواة مع الأنظمة التقليدية التقدمية والرجعية التي سبقت النكسة وكانت عاملا من عواملها.

وقد كشفت المحنة الجديدة الرهيبة التي أُدخلت فيها القضية العربية من جراء المشروع الأميركي التصفوي، هذه الحقائق بوضوح.

فقد تركزت جهود الأطراف المتآمرة جميعها على تعميم مشاعر اليأس المطبق على الجماهير العربية وقتل روح الصمود والثورة. وعندما برزت روح الصمود متجلية في الكفاح الشعبي المسلح، تكالبت على تحطيمها وإفنائها كل تلك الأشكال والنماذج من الأنظمة المتواطئة مع الاستعمار المعادية للجماهير المنكمشة على حدود مصالح التجزئة.

ومن هنا كان تاريخ السابع عشر من أيلول يحمل معه من المعاني والمخاطر ما يتجاوز في شروره الخامس من حزيران. انه مؤامرة كبرى تشترك فيها جميع الأطراف التي تتعارض مصالحها مع أي وجود ثوري وقومي سليم وصحيح في الوطن العربي. إنها مؤامرة لتصفية الثورة العربية وسحق كل روح ثورية عربية وكل قواعد ثورية أينما تكون. وليس ما نشاهده على ارض الأردن اليوم من حجوم مذهلة ومريعة للمحنة الجديدة، ومن انتظام وائتلاف الأطراف العاملة والممهدة والمسهّلة لتنفيذ المخطط الأميركي الإجرامي، ومن اعتماد على القوى الخارجية لسحق الجماهير المناضلة على ارض المعركة، ومن وضع للمقاومة المسلحة التي تمثل ضمير الأمة على قدم المساواة مع الرجعية العميلة ومن خنق للمبادرات الهادفة إلى إذكاء مشعل الثورة التي أطلقها العمل الفدائي الذي اكتسب من جديد شرف تجسيد إرادة الأمة بمجموعها. ليس ذلك كله إلا محاولة لتنفيذ اكبر جريمة في التاريخ الإنساني المعاصر، ولكن القوى المعادية للتاريخ وللشعوب التي فشلت في إيقاف تقدم البشرية المتحررة في فيتنام وأميركا اللاتينية والجزائر سوف تلقى نفس المصير من الجماهير العربية الزاحفة لنصرة العمل الفدائي وإنقاذ الثورة العربية وإسقاط المخططات الامبريالية الصهيونية الرجعية على ارض فلسطين العربية.

23 أيلول 1970

(1) مقالة نشرت في "الأحرار" البيروتية بتاريخ 25 أيلول 1970.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني