ميشيل عفلق |
في سبيل البعث - الجزء الثاني |
البعث والكفاح المسلح
هل يريد أن يسد نقصا كان فيه؟ أو أن يجاري حركات ومنظمات أخرى؟ كيف قصر حزب الثورة العربية، الحزب الذي سبق في وعيه ونظرته الثورية وفي نضاله كل الحركات العربية واستوعب طبيعة المرحلة القومية؟ كيف قصر عن فهم هذه الناحية الخطيرة؟ الاستنتاج المنطقي هو أن الحزب إذن ليس فيه نقص من ناحية واحدة، من ناحية معينة هي ناحية الكفاح المسلح، وإنما الحزب مقصر منذ زمن في كل نواحيه، وهذا ما حجب عنه رؤية الحاجة الأساسية إلى الكفاح المسلح وأهمية معركة فلسطين في الثورة العربية، وأنشغل بأمور ثانوية بالنسبة إلى المعركة. فالحزب عندما يبادر إلى تشكيل الجبهة والعمل في ارض المعركة إنما يريد لا سد نقص معين فيه وإنما الشفاء من أمراضه كلها. يريد أن يتجدد كليا، يريد أن يولد ولادة جديدة سليمة، ولادة فكرية، ولادة عملية، ولادة نضالية. هذه نظرة يجب أن تكون واضحة لأن الجبهة بالنسبة إلى الحزب ليست جزءا من عمله، ليست الجزء العسكري، ولا الجزء القتالي، ولا الجزء الفلسطيني ونما هي الحزب بإرادته في الانبعاث من جديد، في إرادة التصحيح الشامل والعميق في أوضاعه، وترجعون أحيانا إلى تراث الحزب قبل 20 و25سنة، في ذلك الحين كان الحزب في أوضاع سليمة، ولذلك كان يرى بوضوح الطريق الصحيح ويلمس بعمق الحاجات الأساسية للأمة في مرحلة الثورة. هذا قبل 20 و25 سنة ولكن قبل 10 سنوات مثلا، من عشر سنوات إلى الآن بدلا من أن نرى تقدما وتعمقا في هذه النظرة الثورية والممارسة نجد ابتعادا عنها. أي نظرة شاحبة وكأنها ذكرى في أذهان بعض الحزبيين لم تعد حقيقة نابضة بالحياة يحياها الحزب. هذه سمات وأعراض المرض الذي أنتاب الحزب. المطلوب إذن هو التحرر من كل
العوائق المصطنعة التي دخلت على الحزب، كل التزييف، كل الجمود، من خلال عمل نضالي
ثوري إلى ابعد حدود الثورية فيه كل الحرارة القادرة على أن تذيب هذا الجمود المزمن.
ولكن لنكن صريحين وواضحي النظرة ونعرف بأن العملية هذه تتطلب وقتا، وتتطلب ممارسة
وتتطلب جهودا فكرية وتنظيمية وانغماسا في النضال حتى نصل إلى النفسية الجديدة،
الانتقال الشكلي من هنا إلى الجبهة هذا لا يغير النفوس ولا يغير العقول، ولا يحقق
المعجزات. يجب أن تتوفر شروط الولادة الجديدة شروط التبدل
العميق وإلا نكون كمن يخدع نفسه، كمن يحتال على نفسه وعلى الشعب. لقد أظهرت محنة 23 شباط أن في
الحزب بقايا ثمينة جدا من الصمود والروح النضالية والفكر الثوري كما أن صمود رفاق
في القطر العراقي دليل آخر على حيوية الحزب.
كما أن ظهور وتفجر قوى نضالية في أقطار ومناطق مختلفة بين الحين
والآخر في تونس مثلا، وغيرها أيضا أدلة على أصالة الحزب.
هذا لا يجوز أن نبالغ فيه أيضا. هذا فقط يسمح لنا بأن نحاول
المحاولة الحاسمة محاولة تجديد الحزب من خلال معركة فلسطين
والكفاح الشعبي المسلح. أي أن في الحزب عناصر نضالية
وللحزب فكره الثوري وفيه الاستمرار بين ماضيه السليم وبين المستقبل المرجو
له، استمرار يتجسد في قلة مناضليه وهؤلاء يعقد عليهم الأمل
بأن يكونوا الأساس لانبعاث الحزب من جديد. ما هو دليل حيوية حزب من الأحزاب الثورية؟ إقبال الشباب عليه أول دليل،
وإقبال الجماهير الشعبية الكادحة عليه هو الدليل الثاني: ماذا ينتج من هذا التصور للجبهة ولولادة الحزب من خلال الجبهة؟ ينتج بكل بساطة أن العناصر الطليعية التي أدركت قبل غيرها ما تعني الجهة بالنسبة لحياة الحزب وبالتالي بالنسبة لحياة الأمة وللمعركة المصيرية للأمة العربية هي المكلفة بأن تبني الحزب بناء جديدا بنفس الروح الثورية الأصيلة التي تُبنى فيها كل الثورات. أي بالانقطاع التام، بالإخلاص التام لهذه التجربة، بالتحرر من كل المفاهيم و العادات القديمة، من مفهوم البيروقراطية والروتين والعمل السياسي التقليدي الذي دخلت عدواه مع الأسف الشديد إلى الحزب. فالجبهة هي ككل ثورة، هي أولا بقيادتها، بنوعية القيادة، بقدرة هذه القيادة على أن تعيش التجربة الجديدة بكل انقطاع وتفرغ وبكل إقبال وحماس لأنها ستجد في هذه التجربة معنى حياتها والمعاني الأصيلة للحزب ولفكرة الحزب ولأهدافه. فالمنظمات الأخرى التي ليس لها أحزاب لا يطلب منها ما يطلب من جهة التحرير العربية. إن الجبهة بما أنها مولودة من فكرة نضال الحزب فهي تعتمد على قوة لا تتوافر للمنظمات الأخرى. والجماهير العربية تنتظر منها أكثر مما تنتظر من المنظمات الأخرى. يخرج من هذا التصور أيضا أن
الجبهة هي صيغة تجدد الحزب و انبعاثه يخرج منه أن الجبهة لا يمكن أن تعتمد على
السلطة، حتى ولو كانت هذه السلطة منتمية إلى الحزب وبينها وبين الحزب روابط عديدة. قيادة الجبهة هي قيادة الحزب، هي أعلى قيادة في الحزب، هي القياد القومية، ولكن كما قلت في بدء هذا الكلام يفترض فينا أن نكون عميقي النظرة صادقين وجادين في العمل الثوري لأن حياة الأمة رهن بصدق هذا العمل. هذه غاية يجب أن نبلغها أي أن تصبح قيادة الجبهة هي أعلى قيادة في الحزب أي بالجدارة والكفاءة والممارسة والتفاني في العمل تصبح قيادة الجبهة هي أعلى قيادة في الحزب ولكن ليس بالشكليات والانتقال الشكلي من مكان إلى مكان وبتغيير الاسم. وبين الواقع الراهن وبين ما نأمله ونرجوه مسافة ومراحل وشروط واقعية لا تحدد سلفا ولا تحدد على الورق بقدر ما تستكشف وتستجلى من التجربة نفسها. المطلوب أن نعاني التجربة بصدق. 16كانون الثاني 1970 (1) من حديث للأستاذ ميشيل عفلق ألقي 16كانون الثاني 1970.
|