ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


الآفاق البعيدة للعمل الثوري

 

اعذروني إذا لم اقدر أن أجيب على كل الأسئلة عدا عن ضيق الوقت عندي عوامل أخرى هي البعد الاضطراري عن ساحة العمل وعن المشاركة مع الرفاق الحزبيين وقت حدوث النكسة في حياة العرب، ذلك الحادث الخطير.

هذه العوامل تفرض علي التروي وعدم تكوين أحكام قبل أن استعيد الصلة الحية بالواقع العربي وبواقع الحزب ولا بد من فترة تمضي للإطلاع واستعادة الصلة، وأيضا لإعادة النظر في كثير من الأفكار التي اعتمدناها في الماضي ويصح أن ننظر إلى الأمور نظرة جديدة. فانا راجع بهذا التصميم بان أضع كثيرا من الأفكار تحت المراجعة والنقد، ولكن بالتعاون مع الحزب والمنظمات والرفاق المؤهلين للتفكير والعمل القيادي لان النكسة تفرض هذه المراجعة وإعادة النظر. وكنت اطلع على شيء مما كتب وأنا بعيد، كانت تصلني بعض الصحف والمجلات وقد حصلت مراجعة فيها أشياء ثمينة ولكن اعتقد أنها غير كافية. هذا ما يفسر شعوري بأني مطالب أنا وغيري بان نتثبت من جديد من متانة الأسس الفكرية التي وضعت للثورة العربية واني أتصور مهمة القياديين الأساسيين في الحزب مهمة فكرية بالدرجة الأولى ومهمة الانكباب على الدرس وعلى الواقع أيضا لوصف نواقص وأمراض هذا الواقع ولنقد الأسس الفكرية الراهنة ليس فقط بالانحصار في الواقع العربي ولكن بالمقارنة مع ما يجري في العالم ووضع الصورة الحقيقية للعمل الثوري.

جئت بهذه النفسية ولعل السن التي بلغتها يكون لها دخل في هذه النفسية، لكن على أي حال من واجبي أن أعلن هذه القناعة التي تكونت عندي ولا أقول بأنها ولدت بعد النكسة فقط ولكن النكسة القومية قوتها ورسختها، وهي كما ذكرت لبعض رفاقنا مقاومة رغبة الانسياق مع الاستعجال والنظرة إلى الزمن نظرة عميقة كالتي بدأت عند تأسيس هذا الحزب. فقبل ربع قرن أو أكثر كنا أيضا في ظروف قومية صعبة تشبه النكسة وكان التفكير الرائج يغري بالسباق والتنافس بين الأحزاب السياسية، وكان لابد من ثقة بالفكرة وبالمبادئ وبالنفس ثقة قوية حتى يقاوم ذلك الإغراء وحتى ينكب بعض الأفراد في البدء على بناء طويل الأمد لا تظهر فوائده وثماره قبل مضي زمن غير قصير فكان في هذا وسيلة لاجتذاب واختيار العناصر الثورية غير العجولة وغير المهتمة بالنجاح السياسي.

موضوع النكسة القومية يطرح مسائل فكرية كيف تستطيع الأحزاب والحركات و الأفراد الذين ساهموا بقليل أو كثير في الإيصال إلى هذه النكسة طوال سنين أو ربما اقتصرت مساهمة بعضهم على أنهم لم يستطيعوا منعها. إنهم قصروا عن المستوى الثوري المطلوب لتفادي مثل هذه النكسة؟ كيف تستطيع هذه الحركات وهؤلاء الأفراد أن يضعوا الحلول والعلاج للنكسة، كيف يستطيعون أن ينتقدوا أنفسهم بتجرد ليس فقط النقد العلني وإنما النقد الداخلي الحقيقي، وكيف يستطيعون أن يصححوا ويهتدوا إلى أسس اسلم في التفكير والعمل؟ من هذه الزاوية يظهر العمل بأنه يتطلب وقتا طويلا وجهدا وصبرا، وأعلى الصفات الثورية من حيث التجرد والإيمان والصبر والكفاءة ولكن طبعا هذه الخواطر وهذه النظرة لا يستنتج منها بالضرورة أن كل شيء في الماضي متهم بالخطأ أو بالتقصير، وكل الأفكار يجب أن يعاد فيها النظر. وقد سمعت من الرفاق الآن جملة ملاحظات واقتراحات فأستطيع أن أوافق عليها وأتبناها، فالمرحلة الماضية برهنت على تهيؤ الأمة العربية للثورة هذا صحيح هناك انجازات، هناك مواقف كان لها دورها في التقدم الذي سجلته الثورة العربية خلال عشرين سنة، كيف؟ لماذا لم تكن هذه الانجازات والمواقف كافية لضمان نجاح الثورة لضمان اضطراد النجاح لمنع التراجع والنكسة؟ ما هي النواقص التي سببت انحراف الثورة العربية؟ لماذا لم تستطع هذه الثورة أن تستغل جميع الطاقات العربية المتوفرة لدى الجماهير؟ لماذا منعت الجماهير وحبست بدل أن تنطلق وتعطي أقصى مداها؟ لماذا زيفت الأهداف وزيفت الحركة أحيانا وكان معظمنا يشعر ويدرك بان حركتنا سجينة وان الأعداء يضعون على لسانها ما ليس في حقيقتها وفي ضميرها، تقوم بأعمال هي نقيض ما كان يفترض أن تقوم به؟ لا أظن إني سأقول لكم أشياء لم تفكروا فيها فهذه التجربة عشتموها كما عشناها. أظن أننا متفقون على أن الثورة العربية وحركتنا التي هي جزء أساسي فيها لم نجسد الصيغة العملية التي تفرض وتتيح لأكبر عدد ممكن من الأفراد أن يعاونوا وان يساهموا في النضال، فكانت الثورة عامة وحركتنا بصورة خاصة تصل إلى تحمل مسؤوليات قبل أن تكون التجربة النضالية قد صهرت جميع أفرادها، او العدد الأكبر من أفرادها، وبالتالي سلحتهم بالوعي وبالأخلاق الثورية لكي يصمدوا أمام المسؤوليات الجديدة، فكانت هذه القفزات مناسبة لظهور النقص والزيف أي ظهور الكثيرين من الذين لم يجربوا التجريب الصحيح لم يتشربوا لم يمارسوا النضال بكل مراحله. القفزات والتساهل في جمع الأفراد والتساهل في تجنب بعض المعارك كل هذا كنا ندفع ثمنه. بعد نكسة 23 شباط شعرنا بان ما خسرناه لم يكن شيئا ثمينا إذا عرفنا كيف نستفيد من ذلك الدرس وان الذي يمكن كسبه من خسارة الحكم قد يكون بداية لتصحيح الانحرافات السابقة وللتعويض عن النواقص السابقة.

وأقول ومعي الكثيرون من الإخوان الذين مروا بتجربة الحكم بان تحمل مسؤولية الحكم قبل التهيؤ اللازم هو نوع من الجحيم الذي لا يحتمل ولا يوصف، لان الحزب محاط بالأعداء والأمة محاطة بالأعداء والمؤامرات من كل جانب، واكبر فخ ينصب للحزب هو أن يورط في الحكم قبل أن يستعد له، في حين أن الحزب في النضال يشعر بأنه يملك ذاته يملك نفسه في كل لحظة وفي كل دقيقة، وسواء أكان يضم الألوف أو العشرات فهذا الشعور هو واحد يضع عشرات من المناضلين في نضالهم واستمرارهم إمكانية كسب الأعداد الكبيرة للحزب، في النضال لا يمكن لأي قوة في العالم أن تضطره لان يقول كلمة لا يؤمن بها ولا يعتقدها أو أن يقوم بأي عمل ليس من طبيعته أو سلوكه. دعايات الأعداء والدول الاستعمارية اعجز من أن تنال من حزب مناضل، أن تزيفه أو تشوهه، تبقى اضعف منه وهذه الحال تتغير تماما عندما يستلم الحزب الحكم، فكيف نحافظ على الاستفادة من ذلك في الوقت الذي يكون فيه الحزب في قطر من الأقطار قد وصل إلى مسؤولية الحكم.

فانا لا أقول بأنه يجب إذ ينسحب رفاقنا من الحكم بعد إذ وصلوا إليه في العراق، ولكن أقول بأن تجارب عشرين سنة وتجربة الخمس سنوات الأخيرة بصورة خاصة من عام 1963 إلى الآن يجب أن تكون ماثلة وان تكون واضحة وان توضح وتكتب وتشرح وان يتمثلها القادة ويتذكروها وليس من المستحيل أن يتمكنوا من استيعاب هذه التجربة استيعابا حيا لمواجهة مسؤوليات الحكم بشكل جديد وبنفسية جديدة وبإرادة جديدة هذا ليس مستحيلا، ولكن هذا ليس سهلا بل هو صعب جدا ويجب أن نلح على هذه الصعوبة تفاديا للوقوع في أخطاء قد تكون مدمرة.

النظرة الأولى للحزب أيها الرفاق نظرة ما زلت اعتقد بأنها مستلهمة من واقع الأمة العربية بصدق حتى قبل نكسة 48 لان نكسة 48 كنكسة 67 كانت نتيجة لا سبب، كانت نتيجة لأوضاع سابقة، كان الحزب عندما تأسس قبل 48 ببضع سنوات، كان يعيش في وسط تلك الأوضاع، وكان بالتالي يستشف الشروط المطلوبة للعمل الثوري الجدي المتكافئ مع الصعوبات التي تقف في وجه الأمة العربية، في وجه حريتها وفي وجه خروجها من التخلف وفي وجه توحيدها. فالنظرة الأولى والتي لم يتراجع عنها الحزب فيما بعد هي اعتبار الأمة العربية في حالة حرب. نظرة ثورية قاسية بمعنى أن الحزب لم يتجاهل حقيقة الإخطار المحيطة بالأمة ودرجة خطورة الأمراض، لم يتجاهلها وهناك إلحاح على هذا الفارق الكبير بين حاضر الأمة العربية وحاضر الأمم الراقية، هذا الفارق الكبير الذي يجب إن يوحي بمستوى الانقلاب الفكري المطلوب.

هذا الفارق الكبير، هذه الأخطار والمؤامرات الاستعمارية ومنها الصهيونية المحدقة بالأمة العربية كان الحزب يلح أيضا عليها وعلى جسامتها وعلى خطورتها، ومقابل ذلك يلح على غنى الإمكانيات العربية، إمكانيات الشعب العربي الكامنة التي يجب أن توقظ والتي يجب أن توضع لها الصيغة العملية لكي تنطلق ولكي تتحقق وتستغل فتستطيع التغلب على الصعوبات وعلى الأخطار والأمراض والعلاقة واضحة بين هذه النظرة القاسية، النظرة التي لا تقلل من شان الأعداء ولا من شأن الأخطار ولا من شأن الأمراض العامة، العلاقة واضحة بين هذه النظرة وبين فكرة الوحدة العربية. هذا شيء ملازم لفكرة الحزب، منذ البدء أكد الحزب أن البعثي لا يصل إلى النظرة الثورية العميقة إلا من خلال النظرة الوحدوية، النظرة للأمة ككل و إلى واقعها المتخلف، فإذا غابت النظرة الوحدوية أو ضعفت وتراخت وتغلبت النظرة القطرية تخف قسوة النظرة الثورية وبالتالي يهبط مستوى التفكير والعمل الثوري.

فمسؤولية تسلم الحكم في قطر هذا شيء واقعي أن الحزب إذا كان عليه أن يصل إلى الحكم فلن يصل دفعة واحدة إلى حكم الوطن العربي بل لا بد أن يصل من خلال الواقع المجزأ إلى الحكم في قطر ثم في قطر، ولكن ربط ذلك بالنظرة الوحدوية الشاملة هو الذي يحمي تفكير الحزب وعمل الحزب من الانزلاق في السهولة أن يتصور الأمور أسهل مما هي في الحقيقة. فوحدة الأمة العربية حقيقة في الإيجاب وفي السلب. حقيقة في الإيجاب لأنها هي القوة وهي الوضع الصحيح السليم، حقيقة في السلب بمعنى أن الأعداء يتآمرون على الأمة العربية كلها وعندما يضربون قطرا من الأقطار يقصدون ضرب الأمة كلها وبالتالي العمل في قطر سواء في حالة نضال أو حالة استلام الحكم (الذي يجب أن نفهم منه انه نضال من نوع أخر). أريد أن أقول أن العمل في القطر في جو وروح ومنطق الوحدة والعمل القومي بتربية الجماهير بتربية مناضلي الحزب على أساس أن الأمة العربية في حرب مستمرة من قبل 67 ومن قبل 48 ولا حاجة للفت النظر إلى أن كثيرين ممن يسمون أنفسهم ثوريين وان كثيرا من الأنظمة التي تسمي نفسها ثورية لم تطبق ولم تجسد هذه النظرة وهذه الروح.

موضوع الجبهة من خلال هذه النظرة من خلال هذا المنطق يمكن أن ننظر إلى إستراتيجية العمل في الجبهة بان يعود الحزب إلى جوه الطبيعي، إلى النضال، إلى نظرته القاسية. وإذا كان الحزب قد تورط في الماضي في الغرور والسطحية والاعتداد و الانفراد وانه يستطيع فعل كل شيء وهو لم يتهيأ التهيئة اللازمة، فخطة العمل الجبهوي هو معالجة لهذا الغرور السابق لهذه السطحية لكي يمحو الحزب من ذهنه وذهن الرأي العام اثر هذه الفجاجة هذا التشويه الذي أحدث خيبة أمل عند الجماهير وعند مناضلي الحزب ولكي يعود ليجد قلوب الجماهير مفتوحة أمامه دون تحفظ ولكن المبدأ الأساسي هو ان يعمل الحزب لأنه يعمل رسالة تاريخية. يعمل عملا ثوريا على مستوى الوطن العربي وان يعتمد على نفسه بالدرجة الأولى وما انفتاحه على الآخرين إلا من اجل تحميلهم مسؤولياتهم ووضع حد لخطر الوقوع في الغرور لخطر تغطية الواقع الهزيل بشعارات فضفاضة ومن ثم لحفز الحزب إلى القيام بالدور الذي لم يستطع القيام به في الماضي.

آسف إذا أخذت كلمتي هذا المنحى ولم أتعرض لبعض الأسئلة بالدقة المطلوبة، ولكن كما قلت لكم في الواقع لم اشعر بأني مهيأ لإعطاء أحكام وآراء قبل أن استعيد الصلة بالحزب وبالواقع القومي وقبل أن أشارك في دراسة هذا الواقع الجديد دراسة متأنية لا تتأثر بعامل السباق، وأضيف كلمة واحدة وهي اني من خلال هذه النظرة لا أعطي للوضع القائم في سوريا تلك الأهمية التي قد يعطيها رفاق آخرون، وحتى من قبل نكسة حزيران وعلى اثر نكسة شباط لم أعط للوضع في سوريا هذا الاهتمام واعتبرته ظاهرة لنكسة الحزب ونكسة الثورة العربية، وان مسالة بقاء مجموعة في الحكم فترة من الزمن هذا الشيء لا يقدم ولا يؤخر كثيرا إذا انصرفن بجد إلى دراسة الظاهرة الكبرى. وبعد نكسة حزيران تضاعفت قناعتي أضعافا بان المهم هو أن يستعيد الحزب دوره بالنسبة للثورة العربية والنضال العربي والى قضية فلسطين التي هي خلاصة هذه الثورة وهذا النضال وان اهتمام الحزب بالوضع في سوريا يجب أن لا يتعدى حدا معينا.

 14 تشربن الاول 1968

(1) كلمة الأستاذ ميشيل عفلق في الشباب العربي في باريس ألقاها بتاريخ 14/10/1968 في طريق عودته من البرازيل الى الوطن العربي.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني