ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


5 حزيران وفرصة العمل التاريخي (1)
 

 

س : هناك من يعتقد أن نكسة 5 حزيران قد أنهت دور الأحزاب، فما هو رأيكم؟
ج : إنني اعتقد أن فرصة للعمل الثوري القائم على الفكر، قد أتيحت للشعب العربي من جديد.. أن فرصة تاريخية، كالتي أتيحت قبل ربع قرن عند تأسيس حركتنا، تتاح اليوم للأمة العربية لكي يبنى هذا العمل من جديد على أرض صلبة ونظيفة.

ولست جامد الفكر ومغرور النفس إلى حد أن ادعي أن ليس من حل للعرب إلا حركتنا. فقد مرت أحداث خطيرة، وحصلت تطورات عميقة، والغد يحمل لنا مفاجآت وثورات. ولكني أقول بقناعة ويقين أن حركتنا ستكون أقل من يصيبه الهرم وينال منه الزمن. وسيبقى لها دورها إلى جانب ما قد يصمد من الماضي ويولد من المستقبل. ذلك أن عنصر الصدق قد توافر فيها إلى حد كبير.

إن الشوط الأول من حياة حزبنا، أي الخمس وعشرين سنة التي مضت، ليس لها إلا مغزى واحد: وهو أن الأمة العربية مهيأة للعمل التاريخي.

وفي مثل هذه الظروف التي تتجمع فيها الأخطار الصهيونية والاستعمارية والرجعية ضد الثورة العربية، يشعر البعثيون بطعم الحياة وروح الكفاح وبالمبررات البديهية لوجود حزبهم. إننا نكون أسأنا إلى حزبنا وإلى أنفسنا، إذا رضينا بأن يؤول عملنا، بعد ربع قرن من الجهد والنضال، إلى الحرص على بقايا الحزب، أي محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلى محاولة الحد من الخسائر والحد من التفكك والانهزام والانهيار، ومن عدد المنهزمين والمنهارين. في مثل هذه الحال وهذا الجو، وأمام مثل هذه النظرة، يقول الضمير الثوري، خير للحزب أن ينتهي من أن يهوي إلى مثل هذا الدرك وخير لنا أن نعلن فشلنا ونفسح المجال لغيرنا.

حزبنا حزب رسالة، والرسالة هل تنتهي؟ هل تحققت الأهداف التي ندب البعث نفسه لحملها وتحقيقها؟ هل يمكن أن يحققها غيره من الذين اقتبسوا أفكاره أو قلدوها، وهل ينجح المقتبس والمقلد ويفشل الأصيل؟

هل الحزب شركة يمكن أن تنتهي باتفاق المتعاقدين وانسحاب المساهمين؟

حزب البعث لا يمكن أن يكون مدافعاً، لا يمكن أن يكون خائفاً على أعضائه أن ينهزموا ويتخلوا عنه، لا يمكن أن يمسي همه الحرص والمحافظة وسد الأبواب والنوافذ لئلا يهرب فلان أو فلان.. حزبنا لا يمكن إلا أن يكون مهاجماً، وإلا مجازفاً بأعضائه يكسبهم ويشدهم إليه بمقدار ما يعرضهم للخطر ولكل ما يمتحن إيمانهم وثوريتهم وأخلاقهم الأصيلة ويثبتها ويزيدها عمقاً وصلابة. وليس كالظروف الراهنة ما يساعد الحزب على تعميق تجربته والعودة إلى أصالته ومتابعة رسالته.

لقد استمات أعداء الحزب خلال السنوات الأخيرة، لكي يظهروا ويثبتوا في أذهان الشعب العربي أن الحزب قد انتهى. وأن الحزب هو الذي ارتكب الانحرافات في العراق، وأنه هو الذي تسلط في سورية وأرهب الشعب وقمع ونكل وقتل. وكادت الدعايات المزورة تطمس الحقيقة إلى أن شعت حقيقة الحزب من خلال جريمة 23 شباط 1966 . عندئذ عرف الشعب أن الحزب كان طيلة السنوات الثلاث التي سبقت تلك الجريمة يصارع الانحراف والفساد ولا يستسلم، وأنه كان قوياً بعقيدته، أميناً على أهدافه، حريصاً على أخلاقيته، إلى حد أن الذين كان بيدهم السلاح ووسائل السلطة لم يجدوا سبيلاً إلى التسوية والتفاهم معه، ولم يجدوا بداً من ارتكاب الجريمة ليحتفظوا بالسلطة.

إن الجواب الوحيد الصحيح على الذين حسبوا أنهم باغتصابهم للسلطة يغتصبون الحزب، هو أن يسقط الحزب من حسابه موضوع السلطة وأن يعود إلى نفسه ومبادئه وقدره النضالي البطولي الذي يهزأ بكل سلطة.

وعندئذ تفرض المقاييس الثورية نفسها دون جهد أو عناء، ويأخذ الزمن مدلوله الثوري، فلا يكون اختصاره بالحيل وتجاوز النضال وقواعد العمل الثوري، بل على العكس بمضاعفة النضال وتعميق الوعي.

إن حزبنا لن يتمكن من متابعة دوره التاريخي بعد النكسات التي لحقت به، وبعد النكسة القومية التي نزلت بالأمة العربية، إلا إذا استعاد مبرر وجوده كحركة تاريخية تعمل لمئات السنين، وإلا إذا طرح مناضلوه قضيته وقضية الثورة العربية على مستوى الحياة أو الموت، والقبول بالموت كضمانة متجددة لأصالة الحزب وجدية دوره التاريخي في الثورة العربية المعاصرة.

س : ما هي أمراض التجارب الثورية بوجه عام والعربية منها بوجه خاص؟
ج : المرض ليس في الثورة إنما المرض في القيادات الثورية. قبل عشر سنوات، كان المد الشعبي الثوري في البلاد العربية آخذاً في التوسع والازدياد، بينما كان الاستعمار وأحلافه والحكومات الرجعية العميلة في تقهقر واندحار. وكان ثمة عند الجماهير العربية استعداد لثورة تاريخية، فيما لو وجدت القيادات الثورية لهذه الجماهير ولبت مطلبها الأساسي وحاجتها العفوية العميقة، وهي أن ترى النضال التحرري الوطني والنضال الاجتماعي الاشتراكي مقترنين باحترام الحرية والكرامة للمواطنين وبالتجرد والنزاهة والصدق، خلافاً لما يتصف به الاستعمار من ظلم وعدوان وغدر واستغلال جشع، وما تتصف به الرجعية من استغلال وإهدار لكرامة الإنسان والوطن في سبيل أطماعها وشهواتها.

ولكن سرعان ما خاب أمل الجماهير، وانكسرت حدة اندفاعها التاريخي الذي كان يمكن أن يصنع المعجزات، لان القيادات لم تكن تستلهم هذه الجماهير لتعرف حاجاتها وتتعرف إلى طاقاتها الهائلة بل كانت تقودها بروح الشك والحذر والنظر إليها بأنها قاصرة لا تحسن استعمال الحرية وعاجزة لا تصلح إلا للتنفيذ، وجاهلة لا تستحق المصارحة، وأن المعجزات هي من صنع الأفراد والقيادات، لا من صنع الشعب وجماهيره الثائرة.

لذلك لم يتغير شيء أساسي في نظر الجماهير، بعد أن وصلت تلك القيادات التي تدعي الثورية إلى الحكم، وبقيت السلطة هي السلطة: ضغط وكبت، وشك وحذر، وخداع وتملق، وإفساد للضمائر، وإرهاب للنفوس، واستعباد للأذهان بالدعاية والإيحاء والتلقين وتزييف الديمقراطية، وتزوير الحقائق. لقد عبدت القيادات التي تدعي الثورية السلطة عبادة وثنية سطحية ضيقة، وأقبلت عليها بنهم الجائع المحروم، ونفسية الخوف والتقليد لا نفسية الثقة والخلق، وانتظرت من السلطة ومن وسائلها أن تصنع كل شيء.

كان القلة من القادة الثوريين الذين لا تخدعهم السلطة يستبعدون أنفسهم منها، ويعتبرون ذلك كسبا لهم وللثورة، وكانت الأحداث تأتي مصداقاً لنظرتهم وموقفهم، إذ أن الاسترسال في الاعتماد على السلطة والابتعاد عن الجماهير كان لابد أن يؤدي إلى الانهيارات المفاجئة وانقشاع غشاوات الوهم والتضليل.

الثورة هي من أجل سعادة الإنسان وكرامته، فإذا لم يعد الإنسان مقياسها، وفقدت الصلة بينها وبينه، بين الوسائل والغاية، تتشوه الثورة وتفقد معناها. إن ما تشكو منه الثورات المعاصرة هو التطرف في تقدير أهمية العوامل الموضوعية على حساب العامل الذاتي، تماماً عكس ما كانت تشكو منه الثورات في القديم عندما كانت تبالغ في الاعتماد على العامل الذاتي دون أن توفي العوامل الموضوعية حقها.

س : ما هو موقفكم من القوى الاشتراكية العالمية، وعلى وجه التحديد الاتحاد السوفياتي والصين؟

ج : الاتحاد السوفياتي أكبر دولة اشتراكية وأكبر وزن دولي تقدمي في العالم، وقد عادى حزبنا بدون مبررات جدية، ولكننا لم ننفعل ونبادله العداء، بل صبرنا وتجاهلنا، وبقينا على الموقف الذي يمليه علينا المنطق الثوري ومصلحة الأمة العربية في مصادقة الدولة الاشتراكية، وأخيراً دفع الاتحاد السوفيتي العداء إلى آخره عندما دعم المتمردين على الحزب واعتبر أبناء العائلات المترفة الذين جاءت بهم الدبابات إلى الحكم، والذين يتسترون بألفاظ اليسارية والاشتراكية ممثلي الحزب الحقيقيين، بينما اتهم الحزب وقادته ومؤسسيه الذين عاشوا حياتهم في الحرمان وناضلوا ثلاثين سنة من أجل الاشتراكية ومن أجل قضايا الجماهير العربية الكادحة اتهمهم باليمين والرجعية.

انه لا يجوز لنا أن ننفعل ونتصرف أي تصرف يمكن أن يؤدي إلى أن يستفيد الاستعمار والرجعية منه. ولكن إلى جانب هذا الحرص المشروع وهذه الحيطة وهذه الحكمة، نحن مطالبون بان نخلص للحقيقة، وان ننبه ونحذر من الاسترسال في سياسة القوة والفرض والتعسف والجبروت، مهما يكن التفاوت بين قوتنا وقوة الاتحاد السوفياتي، فالحقيقة هي المقياس وهي أقوى من أكبر قوة في العالم وهي في جانبنا.

إن جوابنا على الاتحاد السوفياتي لن يكون في الرجوع إلى الوراء، في الاقتراب من مواقع اليمين والرجعية، بل في الأمانة لنهجنا وأهدافنا الثورية، وفي توضيح موقفنا لشعبنا وللأحزاب والحركات التقدمية في بلادنا وفي العالم.

أما فيما يتعلق بالصين، فإنني أعتقد بأن الثورة الصينية من أعمق الثورات في القرن العشرين، وقد تابعنا باهتمام كبير ما كتب عن الثورة الثقافية الأخيرة، وقد كان رد فعلنا على المحاولات المغرضة وعلى الأحكام المتسرعة على هذه الثورة، مزيداً من الإيمان بحاجة الثورات القومية الاشتراكية في العالم الثالث إلى الاطلاع والعمق في فهم تلك التجربة التي تملك وراءها أربعين سنة من النضال.

إن الثوريين المتعبين الذين يخافون مجرد الإعلان عن رأي موضوعي في قضايا الثورة العالمية والذين يحملون روحاً شائخة هرمة محافظة، هم الذين يبدون من التحفظات والشكوك في صواب الثورة الثقافية ما يلتقي مع ما يبديه الرجعيون والرأسماليون.

س : كيف تتصورون على ضوء النكسة علاقتكم بالحركة الشيوعية؟

ج : إننا انتبهنا لضرورة تعديل موقفنا من الشيوعية والشيوعيين منذ عام 1953، عندما لجأنا إلى لبنان في عهد أديب الشيشكلي.. وعلى أي حال فنحن قصرنا في إخراج تفكيرنا في موضوع العلاقة مع الشيوعيين إلى حيز التنفيذ الجدي، كما قصرنا في نشر هذا التفكير بشكل واضح وعلى نطاق واسع. والذي حصل أن الفئات والحركات التي -سواء بتأخرها عنا في الزمن أو باختلافها عنا في درجة التمسك باستقلالية القضية العربية وسلامة اتجاهها- لم تضطر أن تقف ذلك الموقف النقدي الحاسم، استطاعت أن توجد معهم علاقات ودية فكرياً وعملياً، كان يفترض أن لا نتخلف عنها، سيما وأن الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية أخذت تدرك منذ مدة أنها تخلفت كثيرا عن ركب التطور، وبالغت في التبعية والولاء الخارجي واكتفت بترديد الفكر الثوري العالمي ترديداً حرفياً جامداً فكانت بذلك عاجزة عن تقديم شيء جديد للثورة العربية، وهي الآن كأحزاب وأفراد، تفتش عن مكان مستقر لها في الوطن الذي نعيش فيه.. فهي أمام عملية اندماج وطني.. وهذا شيء ايجابي نرحب به ونستبشر.

س : ما هو الجواب الذي يجب أن يعطيه العرب على نكسة 5 حزيران؟

ج : الجواب على تلك المأساة التاريخية يكون بالاستفادة أولاً من الأخطاء الماضية أي بالخروج من منطق العمل القطري ومنطق السلطة والعودة إلى منطق العمل القومي ومنطق العمل الجماهيري، ويكون بالعودة إلى مبررات الثورة العربية وبالارتفاع بفكر الثورة وأداتها وأساليبها إلى مستوى مواجهة الأخطار الراهنة.

إن الجبهة القومية الشعبية على نطاق الوطن العربي والعمل الشعبي المسلح هما الركيزة الأساسية لكل إستراتيجية في مستوى الرد على العدوان الصهيوني الاستعماري الأخير. فالوحدة والديمقراطية هما شعارا المرحلة الراهنة، إن النكسة
لا تتحول إلى نصر إلا إذا استطعنا جعلها منطلقاً للوحدة، وهذه مهمة أساسية لحزبنا، تتطلب تعاوناً تاماً وصادقاً مع الجماهير الناصرية وجميع القوى الوطنية والثورية في الوطن العربي.

تشرين الثاني 1967

(1) حديث الأستاذ ميشيل عفلق إلى مجلة الصياد اللبنانية - تشرين الثاني 1967.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني