ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


في ذكرى انتفاضة رمضان

 

 

أيها الإخوة(1)

تخوض أمتنا تجربة تأريخية كبرى متعددة النواحي فيها الانتصارات وفيها العثرات الى أن تبلغ الاهداف الكبرى التي وضعتها لنفسها كأمة عظيمة تشعر بدورها التأريخي وبرسالتها الانسانية. لا نستطيع أن نقدر عظمة ثورة رمضان إلا إذا تذكرنا العهود الحالكة التي سبقتها سواء في العراق أو في سوريا. ليس سهلا أن نوفي بطولة شباب البعث العربي الاشتراكي حقها من التقدير. تلك البطولة التي جسدوها في صباح الرابع عشر من رمضان مدنيين وعسكريين. لقد قضوا في ذلك اليوم على عهد من التآمر على عروبة العراق، بل على العروبة جمعاء، على عهد مثّل العزلة والانتهازية والشعوبية والدكتاتورية أبشع تمثيل.

وانتفاضة رمضان كانت في الوقت نفسه قضاء على عهد آخر لا يقل إجراما وتآمرا وسوادا عن عهد قاسم، ذلك هو عهد الإنفصال في سورية العربية. إنتفاضة رمضان أيها الإخوة كانت ممهدة ومقدمة لحركة آذار، كما نرجو أن تكون حركة آذار ثأرا كبيرا لثوار رمضان. الأمة الأصيلة أيها الاخوان هي التي تتعلم من جميع الظروف والأحداث من النصر ومن الفشل على السواء ولقد كان عهد الإنفصال درسا عميقا بليغا لجميع المناضلين، إذ برهن بأن تفرق القوى العربية التقدمية لا يكون إلا لمصلحة الإستعمار والرجعية. وإن الخلافات مهما تكن كبيرة بين قوى المعسكر الثوري العربي لا يجوز أن تتعدى حدا معينا وإلا أستغل ذلك الإستعمار واستغلته الرجعية والصهيونية وجميع أعداء الأمة العربية.

أيها الإخوان

لقد كان الدرس مؤلما بالنسبة إلى معسكر الثورة العربية عندما أصيب بنكسة الإنفصال في سوريا وكان مؤلما عندما أصيب بنكسة (18) تشرين في بغداد ولكن التقدميين العرب، القوى العربية التقدمية خرجت أخيرا مستفيدة من هذا الدرس بعد أن دفعت هي والشعب العربي في جميع أجزاء وطنه أبهظ الأثمان، وتوصلت أخيرا إلى أن تدرك هذه الحقيقة الأولية وهي أنها كلها يجب أن تبقى صفا واحدا في وجه أعداء الأمة العربية وأعداء نهضتها وتقدمها.

لقد ظهر هذا الوعي الجديد المبارك عندما سارعت القوى التقدمية في الوطن العربي وحتى خارج الوطن العربي إلى تأييد حركة آذار في قراراتها الإشتراكية الأخيرة متناسية كل الخلافات الثانوية مدركة بأن المعركة الأولى يجب أن تبقى مع الإستعمار والصهيونية والرجعية، وهكذا تلاقى الإخوة بعد زمن من الفرقة وسارعت الجمهورية العربية المتحدة قيادة وشعبا إلى تأييد قرارات التأميم، كما حذت حذوها ثورة الجزائر وكما فعل المعسكر الإشتراكي، ولم يتخلف إلا أعداء الثورة، إلا أعداء الشعب، إلا أعداء التقدمية، إلا أعداء القومية، الحاكمون في بغداد، الذين فضحوا أنفسهم مرة أخرى عندما تخلفوا عن الركب التقدمي فوقفوا إلى جانب المؤامرات الإستعمارية والرجعية على سوريا، وهاجموا الخطوات الإشتراكية المباركة وكان هذا كافيا لإدانتهم مرة جديدة بأنهم أعداء الشعب. هذا الحكم الرجعي المتآمر الذي يزج في السجون الآلاف من البعثيين وألوف الوطنيين التقدميين دون وازع من ضمير.

ونحن نرسل باسم شعب هذا القطر وباسم حركة آذار وباسم البعث العربي الإشتراكي في كل قطر عربي، نرسل تحية النضال والإعجاب والأخوة لمناضلينا المعتقلين في سجون العراق ولجميع رفاقهم من الوطنيين المخلصين. تحية عربية نضالية إلى المعتقلين من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي معاهدين رفاقنا على اللقاء في يوم قريب في يوم النصر المبين.

وكلمة صادقة إلى جميع المنظمات القومية والوطنية التقدمية في العراق لكي تعتبر بالدروس السابقة ولكي تدرك أخطاء الماضي فتتلافاها وتوحد جهودها في سبيل المعركة المشتركة وفي سبيل التخلص من الأوضاع الرجعية الدكتاتورية الغاشمة.

أيها الإخوة

الحزب الذي يضطلع بمهمة تأريخية في سبيل سعادة شعب عظيم لا يخاف أن ينقد نفسه وأن يرى أخطاءه، لأنه يعرف إن هذا شرط أساسي من أجل أن يصحح سيره وأن يسرع في تحقيق أهدافه.

ولقد حدث بعد انتفاضة رمضان غلو وتطرف في معاملة فئات تقدمية كانت هي الأخرى قد انجرفت في الغلو والتطرف وتصدت لتلك الإنتفاضة المجيدة دون إدراك لحقيقتها التقدمية ودون إدراك لطبيعة إنتفاضة رمضان الشعبية التي إنما وجدت من أجل الطبقة الشعبية، من أجل العمال والفلاحين، من أجل الجماهير العربية الكادحة الواسعة في كل جزء من أجزاء الوطن الكبير. فكان هناك غلو من الطرفين وتباعد، وكانت هناك أعمال قاسية يجب أن ننتقد أنفسنا فيها لكي نتحاشى في المستقبل كل سبب من أسباب التنابذ والتناحر بين قوى التقدم والثورة ولكي يستفيد كل طرف من هذه التجارب والعبر.

فلقد ظلت حركة البعث العربي أيها الرفاق والإخوة مغموطة الحق، ظلت حركة البعث العربي سنين طويلة في نظر الحركات الثورية والتقدمية في العالم مغموطة القدر والحق، لا يعترف بثوريتها وبتقدميتها، وبأنها تمثل حركة الجماهير العربية في تطلعها نحو المجتمع الأفضل، وكانت تلقى عليها الشبهات والتهم جزافا وظلما وعدوانا. وأخيرا وضح الحق وتراجع المخطئون وخاصة بعد أن أسفرت حركة آذار عن وجهها الإشتراكي الحقيقي الأصيل. لم يعد من عذر أو مبرر لأية فئة تقدمية في الوطن العربي أو خارجه أن يلتبس عليها الأمر في فهم حقيقة البعث العربي الاشتراكي.  

أيها الأخوة

ليس كل الذنب على الآخرين ليس كل التقصير من الآخرين يجب أن نعترف بقسطنا وأن نتحمل نصيبنا من الخطأ، لكي تكون حركتنا بالفعل حركة تأريخية متجردة، تسمو فوق الانانيات وفوق الإعتبارات الزائلة ولا يهمها شيء إلا مصلحة الشعب العربي. لم تنتكس إنتفاضة رمضان هذا الإنتكاس المؤقت لأن هناك رجعية واستعمارا يتآمران دوما على شعبنا وعلى ثورته، وإنما أيضا لأن الإنتفاضة تركت مجالا لاستغلال هذه القوى المعادية.

 والحزب مفجر الثورات هو فوق الثورات وإذا أخطأت الثورات فالحزب موجود لكي يصحح. ايها الإخوة.. الثورة لا تخشى أعداءها لأنها إنما وجدت لكي تواجه هؤلاء الأعداء، ولكي توقع بهم الهزيمة، وتقضي على جرائمهم ومفاسدهم، وتعطيلهم لنهضة أمتنا. ولكن الثورة يجب أن تخشى أن يتأثر بالأعداء من هم بحكم مصالحهم وأوضاعهم وآمالهم في صف الثورة. الثورة تكون مقصرة إذا تركت الأعداء يؤثرون في قسم من أبناء شعبنا ما استطاعوا أن يتبينوا أين تكون مصلحتهم وأين هو موضعهم في الثورة.

وعلينا باستمرار أن ننقد أنفسنا وأن نحث الهمم باستمرار لكي نوصل صوت الثورة إلى جميع أبناء الشعب الذين يفترض فيهم أن يكونوا إلى جانب الثورة يقاتلون ويحاربون في صفها.

أيها الإخوة

إن الإنتصارات لا تسكر إلا الأفراد السطحيين المغرورين الدخلاء على الثورة والحزب، لأن المناضلين الحقيقيين يزدادون تواضعا عند كل نصر يحققونه ويعرفون إنهم لم يكونوا سوى الأداة لهذا النصر، وإن الشعب هو صانع النصر.

أيها الإخوة

 ما زالت الطريق أمامكم، أمامنا جميعا، ما زالت الطريق طويلة وشاقة، ما تزال أمامنا مهمات كثيرة، ليست الانجازات، على أهميتها، هي كل شيء وإنما هناك الوعي والتوعية والتوضيح والوصول إلى قلب كل مواطن بحماسة النضال، بحرارة الإيمان، بحرارة المحبة، أن لا ندع فردا واحدا يغدو فريسة الرجعية، أو فريسة الإستعمار. يضلل وينتقل الى صف الأعداء بدلا من أن يحارب في صفنا. ما زالت هناك نقاط غامضة تحوم حول هذه التجربة في نظر قسم من أبناء الشعب.

يجب أن توضح هذه النقاط، يجب أن يعرف الشعب العربي في سوريا وفي كل أرض عربية بأن حزب البعث العربي الإشتراكي هو من صميمه، هو من قلبه وروحه، هو من دمه وعرقه وشقائه، هو من تراثه وتأريخه، هو من عروبته الأصيلة، هو من قيمه الروحية، وإنه ليس دخيلا عليه وليس غريبا عنه، ولا شاذا، ولا متحذلقا، ولا متعسفا، وإنما ترجمان أمين متواضع لحاجات هذا الشعب ولروح هذا الشعب، ويجب أن يكون هذا واضحا ليس في الكلام فحسب وإنما في سلوكنا، وفي عملنا اليومي. يجب أن تتجسد أخلاق البعث وفكرة البعث بكل ما تحمل من قيم روحية، ومن أصالة عربية، ومن تشبع بتراثنا القومي التأريخي المجيد، يجب أن تتجسد في أعمالنا اليومية، وهكذا لن يكون في وجهنا إلا الأعداء. وهذا ما قبلناه عندما بدأنا حركتنا لأننا إنما وجدنا لنزيل هؤلاء الأعداء من طريق الأمة.

أيها الإخوة..

لقد طرأت أشياء وأشياء على هذا الحزب وعلى ثوراته ويجب الا نتهاون في التمييز بين الأصيل والدخيل، بين المفاهيم الأصيلة والمفاهيم والشعارات المقلدة والمستعارة، يجب أن يعود أعضاء هذه الحركة إلى ماضي حركتهم، كما يجب أن نعود جميعا إلى ماضي أمتنا المجيدة فنستلهمه باستمرار. الحزب الذي لا يرتبط حاضره بماضيه، لا يكتب له التقدم والنجاح، والأمة التي لا يرتبط حاضرها بماضيها لا تقدر على التخلص من أوضاعها الفاسدة وعلى تحقيق النهضات والثورات.

هذه الحركة منذ بدايتها قامت على أفكار أساسية وقيم أساسية وما أحرانا بأن نتذكر باستمرار هذه القيم والأفكار بعد أن دخلت في طور التحقيق، فقد كانت فكرة القومية أيها الأخوان مظلومة في وطننا، لا بل في العالم كله.

كانت فكرة القومية في نظر الثوريين والتقدميين في العالم تعتبر فكرة رجعية ونزعة تعصبية أو إستعمارية. وكان البعث العربي أول من جلا حقيقتها وأظهر وجهها الإيجابي المبدع الثوري المحب. وكانت تلك كلمة السر في نجاح هذه الحركة لأنها حملت إلى جماهير الشعب العربي الثورة باسم القومية العربية. قرنت الإشتراكية بالوحدة وبالقومية فوجدت الطريق معبدا إلى قلوب الشعب والجماهير.

وبعد سنين وسنين من نشأة هذه الحركة رأينا الحركات التقدمية في آسيا وأفريقيا وغيرها من بلدان العالم تؤكد تلك الحقيقة التي كان حزب البعث العربي الإشتراكي أول من أبرزها، بأن القومية ليست كلها سلبية. وليست سلبيتها إلا تزييفا وتشويها وانحرافا عن حقيقتها وإنها في حقيقتها إيجابية محبة ثورية مبدعة.

كذلك كان البعث العربي منذ ربع قرن أول من أعطى لقيمة أخرى غالية، لقيمة روحية ثانية هي الدين، أعطاها حقها وأنصفها وجلا وجهها الإيجابي المبدع الصادق، بعد أن كانت الحركات التقدمية في العالم تنظر الى الدين كأنه وسيلة لتضليل الشعوب فحسب. وسيلة يستخدمها مستغلو الشعب ومستعبدوه، وإنه للتخدير والتضليل ولقتل روح الثورة والنضال. فجاء البعث العربي وبدأ نضاله وتأريخه بأن جلا الوجه الحقيقي للدين وخاصة للتراث العظيم للأمة العربية وللرسالة الخالدة التي نعتز بها جميعا، فما لنا أيها الإخوة... ما لنا نتعامى عن الكنوز التي كشف عنها حزبنا، ما لنا نتهاون في تقدير هذه القيم؟

أيها الإخوة

يجب أن تكون نظرتنا جريئة نظرة الثوريين فيها جرأة وفيها شجاعة وفيها الرجولة، يجب أن لا نحمّل الآخرين كل المسؤولية، بل أن نتحمل قسطا منها. سنجد دوما في طريقنا العقبات، سنواجه كثيرا من الشكوك والظنون والإتهامات من قبل أقرب الناس إلينا، من قبل أفراد شعبنا، سنواجه دوما كل ذلك إذا لم نعد الى تلك الينابيع الأولى، الينابيع الروحية التي بدأت بها حركتنا، وإذا لم نصمم بأن نرفع ثورتنا إلى صف الثورات التأريخية وأن نعطيها أبعادها الإنسانية، وأن تتسم بالعمق والمحبة والأخلاق.

وما ارتضينا لأنفسنا بالماضي، ولن نرتضي أن تكون ثورة البعث مجرد حكم وسلطة تصدر القوانين وتصدر الإجراءات، وإنما أرادها الشباب العربي في هذا الوطن العربي الواسع، أرادوها حركة تاريخية إنسانية تروي في النفس العربية كل تطلعاتها وظمأها الى القيم والمثل، تعيد الصلة بين حاضرنا وماضينا المجيد، تفتح أمام شعبنا إمكانيات مستقبل إنساني أصيل لا يبقى عالة على غيره من الأمم، ولا يبقى مقلدا ومستعبدا، وإنما يجدد عهد الحضارة العربية بكل ما فيها من قيم انسانية.

أيها الإخوة..

إذا أردنا في هذه المناسبة العظيمة أن نمجد إنتفاضة رمضان، وأن نجدد العهد على استرداد عراقنا الحبيب من أيدي الرجعيين والإستعماريين والشعوبيين، فليس مثل هذا العهد نقطعه على أنفسنا يهيئ لنا سبيل العودة إلى العراق، وإلى كل قطر عربي. هذا العهد بأن نتحاشى تلك الأخطاء التي وقعت في الماضي، والتي كان سببها السكر بخمرة الظفر والسلطة أو الطيش والغرور وانفصال القادة عن القاعدة وتلهيهم بالتنافس والتناحر على المناصب متناسين الرسالة السامية التي وجد هذا الحزب ووجدت ثوراته من أجل تحقيقها، الا وهي: مصلحة الشعب، مصلحة عشرات الملايين من أبناء الشعب العربي.

هذه هي الرسالة فكيف يجوز لأحد.. للقادة أن يفكروا لحظة واحدة في أنفسهم وفي مراكزهم ومصالحهم الشخصية وهم مؤتمنون على مثل هذه الرسالة. لا يصلح حالنا إلا إذا قرنا العلم بالأخلاق. وحزبنا قام على العلم ولولا ذلك لم يبق هذه السنين الطويلة ولم ينجح وإنما نجح ايضا لأنه لم ينظر إلى العلم نظرة سطحية، وإنما قرن العلم بالقيم الأخلاقية، بالتذكر المستمر للأمانة التي وضعت في أيدي مناضلي هذا الحزب وقادته، والتي تتعلق بمصلحة عشرات الملايين من العرب. هذه الأمانة التي تتطلب منا جهدا وتواضعا وتجردا حتى نأمن في المستقبل النكسات والعثرات وحتى نؤدي الأمانة كاملة صادقة والسلام عليكم.

9 شباط 1965 
 
( 1 ) كلمة ألقيت في 8/2/1965 ونشرت في جريدة الأحرار بتأريخ 9/2/1965. 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني