ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


الشعب العربي يطلب تصحيح التجربة لا إلغاء الوحدة

 


منذ أن تأسست (1) الجامعة العربية عام 1945 كانت مهمتها مزدوجة: محافظة على التجزئة الراهنة، ومحافظة على الأوضاع الداخلية الرجعية، تحوطا وإحباطا للتطور التاريخي، الذي كان ينذر بظهور تيار شعبي جارف نحو الوحدة العربية ونحو المجتمع الاشتراكي. منذ ذلك الحين كانت الانفصالية والرجعية توأمين متحالفين، وكان شعار التمويه: العمل للوحدة الشاملة. وقد أريد للجامعة أن تقوم منذ تأسيسها على تناقض أساسي يشلها ويمنعها من تحقيق أي عمل ايجابي لصالح الأمة العربية، بينما يسمح لها هذا التناقض -ما دام مستترا غير مكشوف- أن تضع العراقيل الجمة في طريق نضال الشعب العربي وتقدمه، وان تقوم في مناسبات خطيرة حاسمة بدور التآمر والتستر على الخيانة كالدور الذي قامت به في نكبة فلسطين. هذا التناقض يكمن في ادعاء العمل للوحدة العربية من جهة، وفي الانطلاق لهذا العمل من احترام و تكريس الكيانات القطرية، واحترام وتكريس الأنظمة الداخلية الرجعية من جهة أخرى.
لقد كانت الجامعة تقوم على أساس احترام استقلال كل دولة عربية، ليس تجاه الدول الأجنبية والاستعمار، بل استقلالها عن الدول العربية الأخرى، وتكريس الكيانات الإقليمية باسم مبدأ (الاستقلال) بتحريف معناه، من معنى التحرر القومي، الى معنى الانفصال القطري.

كذلك كانت تقوم على أساس عدم تدخل أية دولة عربية في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى. أي منع الدول التي استطاع النضال الشعبي أن يطورها نسبيا، سواء من حيث التحرر من القيود الاستعمارية، أو من حيث التحرر الداخلي السياسي والاجتماعي، من أن تنبه الشعب العربي إلى أخطار ارتباطات بعض حكوماته بالاستعمار، وأخطار تخلفها السياسي والاجتماعي على قضية هذا الشعب في كل مكان، وبتعبير آخر كانت الجامعة ترفع شعار الوحدة العربية لتتمكن من ضرب وحدة النضال العربي، فلم تكن بذلك سوى خدعة اخترعتها الحكومات العربية الممثلة لطبقة اجتماعية رجعية ذات مصالح تجعلها معادية للشعب متواطئة مع الاستعمار.

وقد بلغ هذا التناقض ذروته في الدور الذي لعبته الجامعة في حرب فلسطين، فتحقق إجماع الحكومات العربية على شيئين سلبيين: الأول، منع شعب فلسطين من النضال والمشاركة في القتال، والثاني، تغطية الهزيمة والخيانة، وتضييع المسؤولية برفعها عن الحكومات العربية، تفاديا لثورة الشعب عليها، وتحمل الجامعة لتلك المسؤولية لأن الشعب لا يستطيع محاسبتها. فقد أدخلت الحكومات جيوشها إلى فلسطين لخداع الشعب العربي، ولتبرير منع شعب فلسطين من القتال، وتبرير الهزيمة فيما بعد، لأنها كانت تعرف أن هذه الجيوش لا يمكن أن تنتصر طالما لم يكن ممكنا توحيدها الحقيقي بقيادة مخلصة سليمة وبقي كل منها يعمل على انفراد وبعضها حسب توجيهات الدول الاستعمارية.

فمن النكبة والهزيمة في فلسطين لقيت الجامعة نهايتها كفكرة، واستمرت كواقع لم يعد له أي أثر في الأحداث، بينما ولدت من هذه النكبة ذاتها فكرة عملية للوحدة بمضمون اشتراكي ديمقراطي، وتفكير جديد يتمرد على منطق الكيانات القطرية ويجرمه كما يجرم الوضع الاجتماعي الرجعي كأكبر معطل لإمكانيات الشعب. وتركز في أذهان الجماهير العربية انه لا بد للوحدة، كيما تتحقق، من أن تقفز من فوق الجامعة لتتجاوز منطق التناقض والإحتيال الذي أدى إلى ضياع فلسطين. وبدأ السعي للتوحيد بين دول متقاربة في النضال والأهداف.

ومنذ عام 1955 بدأ التقارب بين مصر وسوريا على أساس التماثل في السياسة الخارجية (تحرر ومقاومة للأحلاف العسكرية، حياد ايجابي) والسياسة العربية، والسياسة الاجتماعية مثل الإصلاح الزراعي وغيره، وفي عام 1956 كان إجماع الشعب العربي في جميع أقطاره على تأييد مصر في معركة تأميم القناة أروع مثال على التفكير الجديد المناقض والمصحح للتفكير الذي قامت عليه الجامعة. كان انفراد حكومة عربية في اتخاذ موقف قومي جريء أقوى من دول الجامعة كلها ومن إجماعها. وكانت سوريا تعرف إذ ذاك مدا شعبيا تحرريا فوقفت حكوماتها إلى جانب مصر وتحققت وحدة القطرين عام 1958 نتيجة هذا التقارب.

فالانفراد الثوري نال إجماع الشعب العربي، اما الإجماع الرجعي فكان متهما ومجرما في نظر الشعب. ووحدة سوريا ومصر لم تتم في الجامعة، ولا  بمعرفتها ومنطقها بل كانت هي أيضا انفراداً وتمرداً على المنطق القديم. وظلت كذلك في نظر الشعب العربي إلى أن انحرفت التجربة وظهر أن المنطق الإقليمي كان هو السائد في حكم الوحدة بدلا من المنطق الوحدوي، ومنطق الحكم الفردي بدلا من منطق الحكم الشعبي فانتكست الوحدة بذلك وانهارت.

وإذا كانت الوحدة قد أفادت من فشل الجامعة، فهل أفادت الجامعة من فشل تلك التجربة للوحدة؟ هل استطاعت الجامعة أو تستطيع أن تعزز وجودها ونفوذها نتيجة فشل تلك المحاولة الوحدوية المتمردة على الكيانات الإقليمية وعلى الأنظمة الرجعية وإجماع الدول العربية؟ لقد كادت الجامعة أن تنهار نتيجة انهيار تلك التجربة للوحدة، وهذا يعني أن الرجوع إلى الوراء لم يعد ممكنا، ففشل تجربة الوحدة لا يداوى بالمرض نفسه الذي كان سبب الفشل، أي بالعقلية الإقليمية التي تجاوزها الزمن، بل بخطوة جديدة إلى الأمام في طريق الوحدة السليمة. لم يعد لمنطق الجامعة إمكانية البقاء والحياة في المرحلة التي وصل إليها الوعي عند الجماهير العربية، فإذا بقيت الجامعة فأما أن تتطور وتغير مبادئها، وأما أن تقبل بدور رمزي بسيط كمجرد رابطة ومكان للالتقاء.

بعد تجربة الوحدة لم يعد المنطق القطري قادرا أن يعرض نفسه على الرأي العام (في الجامعة) بل ترتَّبَ عليه أن ينحصر في حدود القطر، وعند الطبقة الرجعية المتآمرة والشعوبية الحاقدة، فالخداع لم يعد ممكنا لان الوعي الشعبي قد نضج وخاصة بتجربة الوحدة وانتكاسها. التآمر بشكل علني وعلى مسرح الجامعة العربية أصبح متعذرا في حين أن التآمر على نطاق القطر بالإرهاب والتنكيل يمكن أن يحدث، فإذا ظن البعض أن بإمكان الجامعة أن تلعب هذا الدور فظنهم خاطئ. فالتآمر على الوحدة هو بالدرجة الأولى تآمر على الاشتراكية، والعودة إلى المنطق القطري هو بالدرجة الأولى عودة إلى المنطق الرجعي الرأسمالي، وقد تأسست الجامعة بقصد التآمر على الوحدة والاشتراكية معا. ويراد لها اليوم أن تكون البديل للوحدة، وان تجسد فشلها وفشل مضمونها الاشتراكي وان تلعب نفس الدور الذي قامت لتلعبه: خداع العمل الوحدوي القائم على احترام التجزئة واحترام الأنظمة الرجعية. ولكن ذلك ضرب من المحال، فان تنتكس الوحدة في قطر، وان ينتكس مضمونها الاشتراكي، هو شيء مختلف جدا عن تكريس هذه الردة في الجامعة، إذ أن الجامعة تحاول أن تعطي لما يقرر فيها من مواقف وتوجيهات صفة قومية، ولا يجرؤ احد اليوم على تحدي الرأي العام العربي بمثل هذا الشكل العلني الإجماعي وإلا كان أعضاء الجامعة يسعون إلى إنهائها ليعود كل منهم إلى تنفيذ المؤامرة بشكل مستور في نطاق القطر.

لقد جاءت تجربة الوحدة لتبرهن رغم كل ما فيها من نواقص وثغرات على حقيقتين خطيرتين بالنسبة لقضية الشعب العربي. أولها أن الوحدة ممكنة وقابلة للتحقيق، ولذلك لن يهدأ للشعب العربي بال بعد اليوم قبل أن يحقق خطوة وحدوية شعبية. والثانية أن الوحدة ارتبطت بحياة الجماهير ونضالها اليومي من اجل معيشتها ولن تستطيع قوة أن تفصل بين نضال الفلاحين والعمال من اجل الوحدة، وبين نضالهم من اجل الاشتراكية والحرية.

ولقد أتت انتكاسة تجربة الوحدة لتؤكد أن منطق الوحدة هو المنطق الصحيح وبالتالي إذا كانت هناك أمانٍ وأوهام لدى الرجعية في أن تستعمل انتكاسة تلك التجربة للوحدة بالرجوع لمنطق الكيانات والمحافظة على الأوضاع الرجعية فهذا وهم وتضليل لأن الوعي الشعبي أقوى من أن تصمد أمامه مثل هذه المحاولات.. الشعب العربي يطلب تصحيح التجربة لا إلغاء الوحدة.

15 أيلول 1962.

(1) نشر في جريدة (البعث) في 15 أيلول 1962.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني