ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


إتحاد مصر وسوريا دعم للاتجاه الثوري وضمان لاستمراره

 

لو قيل، قبل بضع سنوات لأشد الأحزاب والفئات والأفراد ثورية في العالم، ان الشعب العربي سوف يخطو هذه الخطوات التي حققها في السنوات الأخيرة، لما استطاع أحد من هؤلاء أن يصدق ولو امكان حدوث بعض الذي حدث. ذلك أن الثورة العربية الحديثة ثورة عميقة أصيلة، وهي لذلك غنية بالمفاجأة والإبداع، تخفي أضعاف ما تعلن، وتفاجئ أبناءها بمقدار ما تفاجئ البعيدين من خصوم وأصدقاء. فالأمة العربية اليوم أخصب تربة للثورة في العالم، لان ثورتها هي على مقياس آلامها وتناقضاتها الداخلية والخارجية. فلا غرابة إن عجزت الحركات الثورية في العالم عن توقعها وتقديرها حق قدرها، لان هذه الحركات، بعد أن قطعت أشواطا في تحقيق أهدافها، لم تعد تمثل آلاما وتناقضات بمثل هذا العمق والوضوح. ولا غرابة في أن تفاجأ هذه الحركات ويفاجأ العالم معها بظهور شخصية الأمة العربية الواحدة، وكانوا يحسبونها أمما متباينة، وبظهور حركة الوحدة العربية تحمل في ثنايا تيارها الجارف، نضال التحرر الوطني والثورة الاجتماعية والسلم العالمي، بعد أن كانوا يحسبونها وهما وخيالا أو تدبيرا مصطنعا خطرا يفتعله الاستعمار وتلوذ به الرجعية، ويتسم بالتعصب والانعزال.

وكانت نظرتنا دوما إلى الوحدة العربية أنها هدف ثوري وإنها أكثر أهدافنا ثورية، لذلك لا يمكن أن تلتقي بشكل من الأشكال مع الاستعمار والرجعية، خاصة بعد أن أعطيناها مفهومها الشعبي المستمد من طبيعة المرحلة التاريخية التي تجتازها امتنا، وهي مرحلة تحرر مزدوج من الاستعمار والرجعية. فان أي توحيد لبعض أجزاء شعبنا لابد أن يتفاعل مع هذا النضال القومي الاجتماعي وان يصبح بالتالي الدعامة والقاعدة لهذا النضال. ولذلك رأينا المشروعات الاتحادية المشبوهة، والتي كانت تطرح للتخدير أكثر منها للتحقيق، تزداد انفضاحا وانهيارا بمقدار ما كان هذا المفهوم الشعبي للوحدة يزداد وضوحا وانتشارا. وإذا كانت البساطة في طرح المشكلات ووضع الحلول من مميزات الثورات التاريخية، فإن الثورة العربية قد حققت هذا الشرط عندما اتخذت اتجاها يضع بوضوح بديهي، الشعب العربي في صف، وأعداء حريته ووحدته وتقدمه مجتمعين متحالفين في صف آخر.

وقد قطع شعبنا في معظم أقطاره أشواطا جدية في طريق الوعي الثوري، حتى كدنا ننسى اليوم، تلك الصورة القائمة التي كانت تقترن بالوحدة العربية وتتراءى فيها الخيالات المريضة والأفكار الممجدة للقوة والسطوة، خيالات وأفكار الملوك وزعماء الإقطاع الذين كانوا يحلمون بالوحدة كجمع التخلف إلى التخلف، والاستغلال إلى الاستغلال، وهذا هو بالذات ما كان يفقد نضال الوحدة الدم والعصب، ويلقي على طريقه الظلمات. أما اليوم فقد أصبح واضحا للشعب بفضل الوعي الثوري الذي صقله النضال، أن الوحدة عملية تحرر وخلق وبناء، وإنها لا تكون ممكنة إلا بمقدار ما يتضح الانقسام بين الحرية والاستعمار، والتقدم والرجعية، وبمقدار ما يتوحد نضال الشعب ضد الاستعمار والرجعية ليس في نطاق الوطن العربي فحسب، بل على النطاق العالمي أيضا. فان شعبنا الذي فرضت عليه التجزئة زمنا طويلا لابد له عندما تدعوه مصلحته للتكتل ضد أعدائه الخارجيين والداخليين، من أن يتغلب على جميع الحواجز والمصالح والاعتبارات المصطنعة التي اقترنت بوضع التجزئة، وان يرتفع إلى مستوى من العاطفة والوعي ومن انفتاح النفس وسعة الأفق، يسهل عليه في وقت واحد، أن يلتقي بنفسه وبالإنسانية، وأن يدرك الروابط ويتحسس بالمشاعر التي تتجاوز حدود قومه وأرضه، كما تتجاوز حدود أقطاره وأقاليمه، خاصة وان طريق الوحدة قد انفتح أمامه في نفس الوقت الذي بدأت فيه شعوب العالم تنفتح لتفهم قضيته، بعد أن أصبحت الأمة العربية وقضيتها في طليعة القوى والقضايا الثورية في العالم.

وليس أدل على صدق ثورية الوحدة العربية وسلامة اتجاهها، من البداية التي شقت بها لنفسها طريق التحقق، والتي لم تكن صدفة، بل فرضها منطق هذه الوحدة الثورية فرضا، ونعني بها: اتحاد مصر وسورية. ونستطيع القول أن العصر الحديث لم يعرف أمة توحدت بمثل هذا الحد من سلامة الاتجاه وعمق الوعي القومي والإنساني. فمصر وسورية اليوم لا تمثلان سياسة التحرر والتقدم فحسب، بل بالإضافة إلى كونهما القلعتين الجبارتين اللتين تحطمت أمامهما جميع أحلاف الاستعمار ومشاريعه وضغطه وعدوانه، تمثلان في مجال السياسة الدولية، اسلم سياسة مهيأة لأن تبدل العلاقات الدولية تبديلا ايجابيا عميقا يسير بها نحو السلم والتعاون، ويضمن للشعوب الحرية والتقدم، تلك هي سياسة الحياد الايجابي. ولقد كان من الصعب على الوفود التي اجتمعت في باندونغ وأقوت هذه السياسة أن تتوقع الدور الكبير والنتائج الخطيرة التي أدتها هذه السياسة بعد أن تبنتها مصر وسورية، وأصبحت من خلالها، تعبيرا عن أهداف الأمة العربية وإمكانياتها الثورية. وما ذلك إلا لأن الحركة الثورية العربية قد تجاوزت طور السلبية والضيق، وامتزج سيرها ومصيرها بالسير والمصير الإنسانيين، وغدا تعبيرها عن حاجات شعبها، تعبيرا عن حاجات وتطلعات جميع الشعوب المؤمنة بالحرية والمناضلة في سبيل التقدم والتعاون والسلم.

لم يعد الاتحاد مشروعا من المشروعات وشعارا من بين الشعارات، بل أصبح حقيقة واقعة وقدرا محتوما، لان وراءه أمة كبيرة تعاني ظلما وألما عميقين، وتناضل في مختلف أقطارها وعلى عدة جبهات في الخارج والداخل لتظفر بحريتها وتنطلق في أداء رسالتها. ووراء هذا الاتحاد أيضا منطق التاريخ واتجاه العصر وإرادة الحرية والتقدم والسلم عند شعوب العالم، لأن هذه الشعوب أخذت تدرك احتياج العالم إلى الدور الايجابي المهيأ للأمة العربية الحرة الموحدة الناهضة.

ولكن المرتكز الأساسي لإرادة الأمة ولمنطق التاريخ واتجاه العصر يبقى هو الشعب بوعيه ونضاله. وما دام الوعي الشعبي غير مكتمل والنضال الشعبي لم يبلغ كل مداه، فحتى الضرورات التاريخية لا تجد سبيلا إلى التحقق. وعندما طرحت فكرة الاتحاد بين مصر وسورية بصورة رسمية قبل عام ونصف، لم تكن ثمة ضمانات جدية لكيلا يؤجل تحقيق هذه الفكرة إلى مستقبل بعيد. ولكيلا تعصف بها في داخل سورية أية مؤامرة أو مغامرة، تلتقي أهدافها مع أهداف الاستعمار والصهيونية. ثم تعاقبت على مصر وسورية والبلاد العربية أزمات وأحداث، كان يمكن أن تشغلنا عن الاتحاد، وتبعدنا حتى عن التفكير فيه. فإذا بها تهيئ وسائله وتسد النقص الذي كان لا يزال قائما في وعي الشعب في سورية وأكثر منه في مصر.

ولأول مرة نلمس لمس اليد أن هدفا قوميا من أهم أهدافنا قد أصبح في مأمن من كل خطر، وان تحقيقه العاجل، وعلى الشكل القوي السليم، أصبح قدرا لا تقوى على رده أو تبديله جميع القوى الخارجية المعادية، منذ أن أصبح ملكا فعليا للقوى الشعبية في مصر وسورية.

 6 كانون الأول 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني