ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


في سبيل وعي عربي انقلابي

 

لقد حققت الأمة العربية في السنوات الأخيرة تقدما واضحا في طريق الثورة والانبعاث، والمهم أن نعرف ما هي أسباب هذا التقدم وهل كان هذا كل ما تستطيع ان تحققه، وهل أن الطريق التي تسير فيها الحركة التحررية تضمن اطراد التقدم واستغلال جميع إمكانات الأمة وزيادة هذه الإمكانات وتعبئتها بشكل يجعل مستقبل أمتنا في مأمن من كل خطر استعماري؟.

في اعتقادنا ان السبب الأول والأهم في هذا التقدم الذي تحقق هو ظهور نظرة جديدة في العمل القومي العربي لم تبلغ بعد مستوى النظرية في الوضوح والترابط والشمول، ولكن فيها الحد الأدنى الذي يسمح لها ببلوغ هذا المستوى. ويمكن إجمال هذه النظرة الجديدة في شيئين أساسيين هما: أولا الاعتماد على الشعب واعتباره القوة الثورية الوحيدة الفعالة، ليتمكن من القيام بمهمته التاريخية، ثانيا: اعتبار القضية العربية كلا متماسكا لا يتجزأ. ولقد أعطت هذه النظرة حيثما طبقت وبالمقدار الذي طبقت فيه نتائج ايجابية بارزة، ولكن الواقع أنها لم تعط كل النتائج المرجوة، لأنها انحصرت في بعض الأقطار دون بعضها الآخر، ولأنها بقيت في حدود النظرة والأسلوب ولم تصل إلى حدود النظرية التي ترسم صورة عقلانية للمستقبل كما ترسم الطريق لتحقيقها. وان بلوغ الحركة العربية الحديثة مستوى النظرية هو أمر ضروري وحيوي عليه تتوقف ضمانة مستقبلنا وسلامته.

إن ما حققه شعبنا العربي في بعض أجزاء الوطن كثورة مصر وثورة الجزائر والحركة الشعبية في سورية ليدعو إلى التفاؤل الكبير ويعبر عن غنى الإمكانيات الكامنة في هذا الشعب، ولكن ذلك كله لا يعفينا من ضرورة الارتفاع فوق هذا المستوى من النضال الذي ما زالت تعوزه الخطة الشاملة والنظرة البعيدة المدى، خشية أن نتجمد على ما وصلنا إليه أو يتعرض سيرنا للانحراف أو الانتكاس وأن يظل قسم كبير من إمكانيات شعبنا معطلا أو غير مستغل على الشكل الأكمل وضمن الخطة الشاملة. وان من دواعي التفاؤل والدلائل على أصالة الانبعاث العربي، هذا الوعي الذي يتجلى في القيادات الجديدة في مصر والجزائر وسورية الذي يعمل بروح مرهفة متجاوبة مع حاجات الشعب ومنفتحة على اتجاه العصر، ويؤدي إلى حد كبير من التناسق بين مختلف هذه الوثبات العربية دون أن يكون ثمة تنسيق مسبق أو نظرية واحدة يرجعون إليها جميعا. فالطريق إذن ممهد للشروع في هذه المحاولة دون أن يفهم من ذلك أن الارتفاع بالنضال العربي إلى مستوى النظرية يعني بالضرورة الجمود وفقدان المرونة والتقيد الحرفي بالأفكار والخطط المسبقة، فالنظرية إذا كانت لا تستطيع أن تخلق المستقبل، فهي تتيح المساهمة في خلقه بما تدخله على النضال من عنصر الإرادة والتخطيط وإعداد الشروط الملائمة، وهي لا تمنع التكيف مع الظروف الجديدة وغير المتوقعة، إلا أنها تضمن استمرار الاتجاه الأساسي من خلال المرونة والتكيف.

ليس يكفي أن يكون حدس القادة الثوريين الجدد حدسا عميقا صادقا وأن تكون معالجتهم للظروف الحاضرة منفتحة على المستقبل وممهدة له، فقد يزول القادة أو يتبدلون، ولا بد من أسس وقواعد موضوعية تصبح في متناول فهم العدد الأكبر من أفراد الشعب تغتني بتجارب الشعب النضالية المتعاقبة ويحتكم إليها كمقاييس لمدى تقدم نضالنا وسلامة سيره وكأداة يراقب بواسطتها الشعب نفسه وقادته.

2 آب 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني