ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


 للوحدة طريق واحد  

 

في منتصف القرن الماضي كانت ألمانيا لا تزال مجزأة، وكان موضوع الوحدة يفرق بين شمالها وجنوبها، لأن الشمال كان يضم دولة بروسيا الكثيفة العدد ذات المجتمع الإقطاعي العسكري الرجعي، بينما كان الجنوب يضم دويلات تفشت فيها مبادئ الثورة الفرنسية وظهرت الأفكار الاشتراكية، لذلك كانت تخشى الوحدة لأن الوحدة تعني بالنسبة إليها خضوعا للرجعية البروسية، وضياع حرياته الديمقراطية وآمالها في التقدم الاجتماعي. ولكن الشعور القومي كان أقوى من هذه المخاوف، وتحققت الوحدة الألمانية على يد بسمارك رجل بروسيا وأقوى ممثل للرجعية الألمانية السياسية والاجتماعية. وتحدد من ذلك الحين مصير ألمانيا في اتجاه السيطرة ومعاداة الحرية في الداخل والخارج معا.

أما وضع الأقطار العربية فمختلف عن ذلك اختلافا جوهريا. وأهم سبب لذلك هو وجود الاستعمار وتسلطه على أكثر هذه الأقطار. فالرجعية العربية هي أيضا تتمنى لو تستطيع أن تجمع كل هذه الأقطار تحت سيطرتها واستغلالها، ولكن وجود الاستعمار وحرصه على إبقاء التجزئة العربية من جهة، وكون الشعب العربي هو المادة الأساسية لمقاومة الاستعمار من جهة أخرى، كل هذا يحول بين الرجعية العربية وبين أن تقوم بالدور الذي اضطلعت به الرجعية الألمانية، ويفرض عليها إم أن تتخلى عن جميع امتيازاتها كطبقة رجعية وإما أن تعادي الوحدة وتستميت في الدفاع عن التجزئة. ولقد كان ممكنا قبل عشر أو عشرين من السنين، حين كان نضال العرب ضد الاستعمار ضعيفا مجزءا، وحين كان الوعي الاجتماعي غامض مبتدئا، أن يسود موقف الرجعية من الوحدة بعض الالتباس والتضليل، فتتظاهر بتبني دعوتها وتضع لها المشروعات الخيالية. أما اليوم وقد بلغ النضال العربي التحرري هذا المستوى الذي ظهر في مصر والجزائر، يرافقه ويمتزج به وعي اجتماعي تقدمي لا ينفك في ازدياد وتصاعد، فان موضوع الوحدة العربية وخطوات تحقيقها، لم يعد قابلا للغموض والالتباس، فالوحدة أصبحت بالبداهة مرادفة للتحرر لان الاستعمار لا يخشى شيئا كخشيته لها، كما أن الوحدة أصبحت مرادفة للتقدمية في الداخل، لأن الرجعية التي تستسلم للاستعمار وتتحالف معه ضد مطالب الشعب الاجتماعية، لا تستطيع إلا إن تكون مع الاستعمار أيضا في مقاومته لتيار الوحدة.

ولئن كان ثمة من مثل يجسم هذه الحقيقة فانه يكون مثل لبنان. لقد ظل هذا القطر إلى أمد قريب يمثل شذوذا عن القاعدة لأنه أكثر الأقطار العربية استمساك بالتجزئة، وهو في نفس الوقت قطر حريص على استقلاله متعلق بالحريات الديمقراطية، متطلع إلى حياة اجتماعية تقدمية. وظل هذا الوهم قائما حتى بلغت الحركة العربية نضجها الحالي وطريقها الذي تسير فيه أهداف الحرية والاشتراكية والوحدة في نضال متآلف متكامل، فإذا بالوهم يتبدد، وإذا بحكام لبنان والطبقة المستغلة للتجزئة فيه لا تستطيع الدفاع عن هذه التجزئة إلا بالتخلي عن جميع المبررات وبمناقضة كل المدعيات التي كانت تتستر بها. لقد تخلت عن استقلال لبنان وعن حرياته وتقدميته، وحكمته بالحديد والنار ونفوذ المال والإقطاع، واستعانت على ذلك بأبشع ما في الأقطار العربية الأخرى من رجعية وتخلف، وهكذا عاد لبنان ليؤيد القاعدة ويثبت كغيره، سواء بسواء، أنه حيث توجد التجزئة لا بد إن يوجد الاستعمار والاستبداد والرجعية.

وتمشيا مع هذا المنطق نفسه نقول: حيث توجد الرجعية وحيث يكون وضعه قويا، لا بد أن يوجد الاستعمار، وان تستحكم التجزئة، فهذا العراق أول من حمل لواء الوحدة العربية، أوصلته طبقته الرجعية إلى آخر درجات العزلة والانغلاق. كم فرضت رجعية النظام الملكي على الأردن نكسته الأخيرة بعد أن كادت وحدته تتحقق مع سورية ومصر. أما الرجعية السعودية فمعروف أنها ليست مستعصية على الوحدة فحسب، بل كانت ولا تزال تستخدم نفوذها ومواردها لمحاربة الوحدة في أرجاء الوطن العربي.

ويمكن القول بالمقابل أن توجه مصر الثورة نحو الوحدة العربية كان لا بد أن يحدث حتى قبل أن يتضح لحكامها كل الوضوح منذ الوقت الذي أطاحوا فيه بالملكية وأقصوا الرجعية السياسية والاجتماعية، ووقفوا من الاستعمار الموقف الجريء الحازم.

إذن فموضوع الوحدة، وهو حياة العرب وبقاؤهم، يجب أن ينقذ من جميع ما يحيطه به ذوو الأغراض والمصالح الخاصة من أوهام ومغالطات وأضاليل لان في إنقاذه إنقاذا لوجود العرب، فالوحدة ليست مطلبا معزولا عن واقع الظروف والشروط السياسية والاجتماعية، بل هي تعبير عن هذه الظروف والشروط وجزء لا يتجزأ منها. وليس يصح بعد الآن أن يقال: المهم أن تتحقق الوحدة وان تبدأ، وسيان أتحققت على يد هذا أو ذاك أو بدأت من هنا أو من هناك، ففي الوضع الداخلي والخارجي الذي توجد فيه الأمة العربية لا يمكن للوحدة غير طريق واحد هو طريق التحرر والتقدم والنضال السياسي والاجتماعي، أي طريق جماهير الشعب العربي. وكل انحراف عن هذا الطريق ليس هو انحرافا بالوحدة عن الطريق السوي بل سد للطريق في وجه تحقيقها. والعرب اليوم ليسوا مخيرين بين وحدة شعبية تقدمية وبين وحدة تقوم على أيدي الملوك والإقطاعيين، بل هم مخيرون بين هذه الوحدة الشعبية التقدمية التي هي وحدها ممكنة التحقيق وبين بقاء التجزئة التي هي نفي لبقائهم.  

21 حزيران 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني