ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


إتحاد مصر وسورية



 

اذا كان ثمة موضوع يمكن ويجب أن يعلو على الخلافات الحزبية والاجتهادات الضيقة، فهو موضوع الوحدة. إذ ما نفع اجتهادات الاحزاب وعملها، بل ما الفائدة من وجودها إذا بقي وطننا مقطعاً الى اجزاء لا يستطيع أي منها-مهما يكن واسعاً قوياً- ان ينهض وحده، وبشكل عميق أصيل، بعبء المبادئ التي تنادي بها الاحزاب، هذه المبادئ التي ما كان يمكن أن تنـزع الى العمق والاصالة والشمول لو لم تكن مستلهمة من تاريخ الامة العربية يوم كانت موحدة، ولو لم تكن صورة الوحدة المقبلة دوماً في أذهان حملة هذه المبادئ وقلوبهم.

يتعذر على أي كان أن يفسر عنف النضال الذي خاضه وما زال يخوضه شعبنا في اقطاره الواسعة واجزائه الصغيرة المنعزلة، سواء ضد الاستعمار الاجنبي الغاشم، أو ضد الطغيان الداخلي والاوضاع المتخلفّة الفاسدة، اذا لم يضع نصب عينيه هذه الحقيقة وهي: ان الشعب العربي، في بقاع وطنه، كثر عدده أم قلّ، انما يناضل مسلحاً بقوة الامة العربية كلها، لانه يناضل في سبيل حرية الامة العربية كلها، كما انه يتعذر على اي كان ان يفسر كيف يرتفع شعبنا فوق نفسه في بعض اللحظات القومية المقدسة -كهذه اللحظة التي نحياها الآن ونعقد فيها العزم على تحقيق أول خطوة عملية في طريق وحدتنا- فتتلاقى القلوب والجهود على صعيد المصلحة العربية العليا، وفي سبيل بناء المستقبل، نقول انه يتعذر على المرء تفسير ذلك اذا لم يضع نصب عينيه تلك الحقيقة، وهي اننا لم نجمع امرنا هنا في سورية، ولم يوطد اشقاؤنا عزمهم في مصر، على هذه الخطوة المباركة كسوريين ومصريين إلا لاننا هنا وهناك نشعر ونعرف أن تلك هي ارادة الامة العربية في كل مكان، وانه لا يسعنا إلا الاستجابة لتلك الارادة.

من خلال هذا الافق وهذه النظرة، ندرك ان خطواتنا هذه قومية خالصة، ايجابية كلها، لا أثر لسلبية فيها. فليس فيها نكاية لفئة أو تحد لقطر ما دامت في مصلحة جميع العرب، وما دامت خير بداية هيأتها الظروف ونضال الشعب الطويل لجمع العرب في كيان واحد. واذا كان لأحد ان يستاء منها ويكيد لها، فهم الاستعماريون أعداء حرية الشعوب ودعاة الحرب وأذنابهم الصهاينة الباغون المعتدون.

لقد آمنا دوماً كما آمن الشعب بأن الوحدة هي أعظم المطالب القومية والاهداف الثورية التقدمية. اذ لا يعقل ان يكون شعبنا قادراً على أن يحقق، وهو مجزأ مبعثر، مثل هذه الانتصارات على الاستعمار ومثل هذه الخطوات في مضمار التقدم، وان لا يحقق اضعافها عندما تتكتل جماهيره، ويتضاعف عدده ووسائله. والشعب لا يأخذ على بعض مشاريع الوحدة كونها رجعية، بل كونها وهمية، لان الوحدة والاستعمار نقيضان. وما نشاهده ونعانيه في مرحلتنا الحاضرة خير دليل على ذلك. فزوال الاستعمار يوقظ الوجدان العربي في الاقطار التي كانت عروبتها هاجعة، وسيطرة الاستعمار تشل اكثر الاقطار العربية حماسة للوحدة.

وهذا يعني ان الوحدة -على جلال شأنها- لا يمكن أن تنفصل عن الاهداف القومية الاخرى، ولا أن تُجَرد عن الواقع تجريداً عاطفياً خيالياً يفسح المجال أمام تشويه الاستعمار ودسائسه. فلا بد اذن أن يكون للوحدة اتجاه، وأن تتجه نحو التحرر والتقدم، فهما طريقها وغايتها، وهي لهما الضمانة الكبرى.

وقد أعطى نضال العرب الصادق، ووعيهم النيّر، أولى ثمراته بأن تهيأت في الخطوة الاتحادية بين مصر وسورية أسلم الشروط لبداية وحدة ذات اتجاه. واتجاهها التحرري التقدمي، بالاضافة الى العوامل الجغرافية وملابسات خطر اسرائيل، يحتم عليها أن تكون نواة متفتحة وجاذبة مستقطبة لبقية أقطار العروبة في المشرق والمغرب.

واننا نخطئ أيما خطأ إذا سلمّنا بفائدة هذه الخطوة دون ان نسلمّ بضرورتها القاهرة، إذ أنها ليست خطوة الى الامام فحسب، بل انها الضمانة الوحيدة لكي لا نتراجع عما حققناه حتى الآن ولكيلا نفقده. فكل تحرر لا تضمنه الوحدة يبقى مزعزعاً معرضاً للانتكاس، وكل تقدم يظل سطحياً مشوهاً ممسوخاً ما لم تفتح له الوحدة اجواء النماء.

إذا كنا جادين في تقدير عظم الاخطار المحيقة بنا، فهذا الاتحاد خير سبيل للوقاية وللدفاع، وإذا كنا واثقين بامكانيات شعبنا، مؤمنين بنـزوعه الصادق الى الحرية والعدالة والوحدة، فهذا الاتحاد سيكون المحرك الفعال لتلك الامكانيات، يضاعف الثقة، وينسق النضال ويختصر الزمن، لخير العرب وخير الإنسانية.

 

6 تموز 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني