ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


الوحدة العربية .. والإشتراكية  [1]

 

 

 

سؤال (1): ما علاقة الوحدة العربية بالاشتراكية؟ وهل الاشتراكية شيء أساسي في النضال العربي؟

 

- إن القضية العربية يجب أن تؤخذ ككل لا يتجزأ، وان تُعالَج على هذا الاساس. واعتقد ان بعض الذين يحصرون اهتمامهم بالوحدة، هم مُجَزِئون للقضية العربية. ان نظرة حزب البعث الى قضيتنا القومية قامت على أساس أنها قضية واحدة، وأن حلها هو رهن بتحقيق انقلاب عربي، انقلاب بالمعنى العميق، لا ينحصر بالسياسة، وانما يتناول الفكر والروح والتربية الاجتماعية والاوضاع الاقتصادية. والسياسة في نظرنا هي التعبير عن موقفنا الانقلابي في جميع هذه الاوضاع والحالات.. واذا كانت السياسة لا تكفي دوماً للتعبير الصادق عن هذه النواحي، إلا انها بلا شك اقوى وسيلة لهذا التعبير. فعندما نقول ان الحل الصحيح لقضيتنا القومية، هو الحل الانقلابي البعثي، فان ذلك يعني بصورة بسيطة أن الحالة التي وصل اليها العرب منذ قرون عديدة، وليس فقط منذ بدء الاستعمار الغربي، وان الاوضاع التي نشأت في بلادنا منذ مئات السنين الى اليوم، احدثت خللاً وتشويهاً عميقاً جداً في بنيان الامة، وتباعداً بين شعور الامة العربية وبين الحياة نفسها فلم تعد أمتنا -بالتالي- تستجيب لدواعي الحياة الاستجابة السليمة.. فالانقلاب هو هذه المحاولة لاعادة الاستجابة السليمة الشفافة بين الامة وبين متطلبات الحياة. ويظهر بصراحة من هذا التعريف البسيط ان السياسة بمفهومها العادي لا يمكن ان تنفذ الى اعماق المشكلة واعماق المرض، ولا يمكن ان تغير شيئاً أساسياً في حياتنا، فما هو المطلوب اذن؟ هو تحريك الامة العربية تحريكاً عميقاً عنيفاً في الروح.

 

 ولكي لا نقع في الالتباس المحتمل الوقوع كأن يُظَن بأن مشكلتنا الاقتصادية، مشكلة توزيع الثروة، هي المشكلة الوحيدة أو أنها هي المشكلة الحقيقية، نقول: انها مشكلة خطيرة تحتل المكان الاول في تفكيرنا ونضالنا، ولكننا دوماً نعتبر المشكلة الحقيقية - كما سبق مني القول- هي ان تبعث الروح في امتنا، هي ان يعود العربي والامة بمجموعها الى هذا الموقف الايجابي الفاعل الارادي السليم أيضاً.. موقف السيطرة على القدر، سيطرة العربي على قدره، معرفة الامة لمبررات وجودها، لغاية وجودها، والقدرة على تحقيق هذه الغاية. فالاوضاع الفاسدة وخاصة الاوضاع الاقتصادية، هي بمثابة المانع والحائل والمعيق لادراك الامة لذاتها ولوعيها حقيقة رسالتها. ان التعبير العملي عن هذه النظرية الانقلابية هو النضال بأوسع معانيه، لتربية الامة من جديد لكي تعرف كيف تواجه الصعوبات، لكي تستخرج قواها الدفينة وعزيمتها الغافية بالاحتكاك والاصطدام بالمصاعب..



وهذا النضال -كما قلت- يجب ان يفهم بأوسع معانيه. فهو في آن واحد نضال مع القوى الخارجية (والقوى الخارجية هي الصهيونية والقوى الاستعمارية) وهو نضال ضد الأوضاع الفاسدة في داخل الوطن وهذه الأوضاع سواء اكانت ظلماً سياسياً ام اجتماعياً، استغلالاً ام جهلاً، وضعفاً في الفكر وتعصباً ونقصاً في المحبة والتسامح.. كل هذه الاوضاع عندما ندعو المواطنين الى محاربتها فليست الغاية تهديم هذه الأوضاع الفاسدة فقط، وانما الغاية - على الأخص- أن يستعيد الشعب ادراكه لقيمه الأصيلة ولغاية وجوده الحقيقية بهذا الصراع الجدي. والنضال يكون ايضاً في نطاق النفس وخاصة بين المناضلين وبين ذواتهم، اذ ليس اخطر من ان يتجمد المناضلون، وهم مكلفون باحداث هذا الانقلاب فى حياة الامة، ان يتجمدوا على مفاهيم سطحية.. اذ لو انهم تجمدوا فكيف يمكن ان يحركوا الاخرين؟ فالمناضل يجب ان يكون في نضال مستمر مع نفسه ليعمق فكرته ويعيد النظر فيها دوماً فيحذر من ان يخدع نفسه وان يجبن عن المزيد من الجرأة والمزيد من التوغل في طريق فكرته الانقلابية حتى يصل الى الصفاء الخالص والصدق التام..

 

هذه الاسئلة تأخذ القضية كما قلت من وجهة نظر تجزيئية، وهذا ما يجب ان ننتبه اليه محاولين دوماً ان نعيد الى قضيتنا القومية وحدتها، وعلى هذا الاساس اجيب الاخوان الذين سألوا عن سبيل تحقيق الوحدة العربية وعن علاقة ذلك بالاشتراكية وعما اذا كانت الوحدة تسبق الاشتراكية وعما اذا كان ثمة علاقة بين الهدفين.. اقول بناء على نظرتنا الموحدة للقضية العربية: لا نعتقد ان بالامكان الفصل بين الوحدة العربية والاشتراكية، ان الوحدة العربية أعلى وأغلى في مراتب القيم من الاشتراكية. ولكن مطلب الوحدة العربية يبقى لفظاً مجرداً واُلهية، وفي بعض الاحيان خداعاً مؤذياً، اذا لم يوضع في نصابه الحقيقي، اي اذا لم يوضع على الصعيد الشعبي، اذ ما من قوة تستطيع تحقيق الوحدة غير الشعب العربي.

 

ليست الحكومات وليست الدول الأجنبية وليس السياسيون ولا المفكرون بقادرين على ذلك وإنما الشعب وحده، جماهير الشعب هي التي تستطيع تحقيق هذا المطلب الخطير، فكيف يمكن ان يتحرك الشعب لحمل هذا المطلب الثقيل، وهو رازح تحت هذه الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟

 

فتوحيدنا اذاً بين الوحدة والاشتراكية هو مثل اعطاء جسم لفكرة الوحدة. الاشتراكية هي الجسم، والوحدة هي الروح، اذا صح التعبير والتشبيه. فان القوى التي لا حصر لها، المعادية للوحدة العربية، القوى التي تعاديها عن وعي وتصميم (والقوى الاستعمارية والصهيونية من أخطرها) والقوى الداخلية المستعبدة للمصالح والتي تضحي بأغلى المصالح والاماني القومية في سبيل مصلحتها الخاصة، هذه القوى جميعها الواعية في عدائها للوحدة، يضاف اليها كل ما في مجتمعنا من جمود ومن جهل ومن رواسب وعادات كلها تشد الى الوراء، وكلها تجبن عن التجدد وتخشى أي خطوة جديدة فيها تعب وفيها تضحية.. كل هذه الآراء الشتيتة والعصبيات المختلفة: الطائفية والاقليمية والفكرية التي تجزئ وتقطع بنياننا القومي.. كل هذه الحوائل والعوائق ضد الوحدة، وان لم تكن ارادية واعية، لابد لنا لكي نقوى على مجابهتها وقهرها من الاعتماد على قوى حية، قوى في مستوى هذه العوائق.. وليس من قوة حقيقية يعتمد عليها غير قوة الشعب. والشعب كما قلت اذا سلمنا بأن عاطفته ايجابية نحو الوحدة، وهذا شيء طبيعي، فماذا تجدي العواطف، اذا بقي هذا الشعب عاجزا مكبلا؟ ولكننا اذا حركناه للنضال، في سبيل حياة حرة كريمة، واذا عودناه التمرس بهذا النضال، ثم استطعنا ان نجد ضمن هذا النضال منفذاً للوحدة.. وهذا الامر ميسور وطبيعي جداً - فعندئذ تصبح الوحدة موضوعاً عملياً وتصبح مطلباً واقعياً. لذلك لم يكن حزبنا حزباً اشتراكياً فحسب، ولم تكن الاشتراكية اول صفة له، فهو حزب عربي، حزب بعث عربي، والبعث هو الانقلاب كما تعرفون، وكل مطلب آخر نفهمه ونُفَهِّمه للشعب انما هو منبثق من خلال هذه النظرة، نظرة اننا نسعى الى بعث عربي، الى انقلاب عربي.. وفي نضال الحزب لم نغفل هذه الآراء لحظة واحدة، وفي كل قرية وفي كل معمل حيث العمال والفلاحون يناضلون في سبيل حياة أفضل، في انتزاع حقوق مغصوبة لهم.. يردد الجميع بأفواههم ويشعرون بقلوبهم، ويعرفون أن ذلك ليس إلا وسيلة وخطوة نحو هدف أعظم، هو توحيد الوطن العربي.. وهذا التوحيد ليس الهدف النهائي ولكنه بدوره وسيلة لكي تقوم الأمة العربية بمهمتها في الحياة.. وهذا المزج بين الهدفين، شيء اساسي نحرص عليه دوماً، ولكننا نعرف ان التطبيق لا يأتي دوماً صادقاً كل الصدق، متفقاً كل الاتفاق مع الخطة او التصميم الموضوع له.. فأحياناً يرجح مطلب على آخر، وتكون الظروف في بعض الاحيان سبباً في هذا التفاوت بين مطلبين لا يجوز الفصل بينهما ولا الترجيح.. تأتي ظروف مواتية لانتشار وتوسيع النضال الاشتراكي كما تأتي ظروف اخرى مواتية لتوسيع النضال الوحدوي - هذا شيء لا مفر منه اذا بقي في هذه الحدود، اذ أن الواقع يختلف تماماً عن التصميمات النظرية، ولا نستطيع دوماً ان نتحكم في الظروف، بل واجبنا ان نحسن الاستفادة من كل ظرف على افضل وجه ممكن.. وهناك أخطاء لا تعزى الى الظروف وانما الى الحركة نفسها، أي ان افرادها أو بعض أعضائها يكون فهمهم لوحدتها فهماً ناقصاً سطحياً. فمنهم من يعتقد ان الاشتراكية هي ارجح وافضل وأن الوحدة تأتي في الدرجة الثانية، ومنهم من يرى العكس، ولكن الشيء الذي يهمني التنبيه اليه، هو أن نكون حذرين كل الحذر أمام من يتذرع تذرعا ببعض الاهداف أو المطالب أو القيم القومية لإخفاء مصالحه الخاصة.. للدفاع عن مصالح خاصة سواء أكانت هذه المصالح ضخمة أم صغيرة.. فالاجتهادات الفكرية ليست دوماً فكرية، وكثيراً ما تخبئ وراءها المصالح والاهواء الشخصية. او ليس مما يدهش أو يدعو إلى شيء من التساؤل والتشكك أن نرى ذوي المصالح الاقتصادية في الوطن العربي -أكثرهم أو بعضهم- يتحمسون للوحدة العربية تحمساً مشبوهاً، لا يُقْصَد منه أكثر من ضرب الحركة الاشتراكية، ومن إلقاء الشبهة عليها، وإثارة الريب حولها بأنها معيقة لتحقيق الوحدة ومبعثرة للجهود ومشتتة للأفكار، وأن أوانها لم يحن بعد، وأن الوحدة اذا تحققت كفيلة بحل كل هذه الصعوبات؟

 

ثم لننظر الى هذا الوهم الآخر: هل صحيح أنه اذا تحققت الوحدة فالاشتراكية وكل الامور الاخرى تتحقق؟ ليس هذا صحيحاً ولا مضموناً، وفي التاريخ وحدات قومية تحققت على أساس رجعي إقطاعي تعصبي.. على أساس الإستغلال وإحتقار الفرد والمواطن والحرية.. فهل نحن نؤمن بالوحدة كصنم أم نؤمن بها على أنها وسيلة لتحقيق رسالة الامة؟ .. فاذا لم تظهر من الآن ملامح الامة العربية الجديدة التي نريدها انسانية حرة إيجابية.. إذا لم تظهر هذه الملامح منذ الآن - والسياسيون جلهم من طبقة ذوي المصالح المجرمة- فمن يضمن لنا أنها سوف تظهر عندما يحقق السياسيون الرجعيون الوحدة؟ أم انهم سينشئون دولة للعبيد مرة أخرى؟ اننا لا نفصل بين أهدافنا البعيدة ونضالنا الحاضر في سبيل تحقيق هذه الاهداف. ان ما نريده لامتنا بعد عشرات السنين يجب ان يظهر ولو بشكل موجز مصغر، يجب ان يظهر منذ الآن في نضالنا، نريد أمة حرة كريمة تؤمن بالانسانية والقيم العليا.. لها رسالة.. رسالة خَيِّرَة. فلا يمكن ان نتجاهل هذه القيم اليوم ونرجئ تطبيقها الى حين تحقيق اهدافنا بعد عشرات السنين.. واذا كانت هذه القيم لم تتجسد في نفوسنا واعمالنا منذ ان بدأنا النضال ووعينا هذه القيم، فاننا لن نحققها في يوم من الايام في المستقبل.. فالإنقلاب العربي ليس هو الذي يتحقق عند ما يستلم حزب انقلابي الحكم في البلاد العربية كلها.. الانقلاب العربي يبدأ وفي نفس اللحظة منذ ان تتكون فكرة الإنقلاب في اذهان الطليعة. وكلما زاد عدد افراد هذه الطليعة وجب أن يزداد تجسيد هذه القيم في تفكيرهم وسلوكهم النضالي.. عندها يكون استلام الحكم ثمرة لاختبار طويل طبيعي صادق بين هذه الافكار وبين حياة الشعب، ولا فرق بين الانقلاب وأدوات الانقلاب، الذين هم المناضلون وهم افراد الشعب. اذا لم يكن المناضلون محققين لقيم الانقلاب منذ البدء، فمن المستحيل أن نصدّق بأنهم سيتغيرون عند إستلامهم الحكم، بل أن السلطة والقوة عرضة للاغراء ومجلبة لضعف النفس بدلاً من رفعها الى مستوى تلك القيم.



سؤال (2): كيف يمكن ان نعلل نضال الشعب العربي في المغرب بينما هو يعيش في فقر، وحزب البعث يعتبر الاشتراكية شيئاً اساسياً في النضال العربي؟

 

- لم اقل بأنه يجب ان يرتفع مستوى الشعب المادي حتى يستطيع النضال. واقع الحوادث وتاريخ حركتنا يدل على ان مستوى الشعب يرتفع نتيجة للنضال، وكلما ناضل استطاع تحقيق شيء من التحسن في أوضاعه، وكلما كان النضال محققاً لمستوى اقتصادي اعلى كلما كان اقوى واجدى. ان نضال المغرب لا يشذ عن القاعدة بل هو اقوى دليل عليها. نضال اقطار المغرب الثلاثة يتجلى بأكمل صورة في نضال احد هذه الأقطار وهو الجزائر، مع ان الاوضاع في تونس ومراكش كانت احسن بكثير من حيث الحرية، من حيث الوضع الاقتصادي، من حيث مستوى السيادة السياسية.. فتونس ومراكش كانتا في مستوى المحميات، في حين ان الجزائر كانت تحكم حكماً مباشراً ويُفنى شعبها ويُجلى عن أرضه ويتحمل كل انوع الاضطهاد.. فكان نضال تونس ومراكش شبيهاً بنضال العراق وسورية زمن الانتداب الفرنسي والبريطاني، لذلك لم يعط هذا النضال كل نتائجه، وتوقف عند حد وسط من المساومة والمفاوضات كما هو معروف لديكم، وقبلت تونس في العام الماضي بعد ثورة سنتين وتضحيات هائلة.. قبل زعماؤها باتفاقية لا تغير شيئاً أساسياً في الوضع، وتبقي لفرنسا السيطرة على كل شي، وانما سمحت ببعض الاستقلال الذاتي كأن تكون للتونسيين وزارة ومجلس ثم عاد زعماء تونس فحصلوا على تعديل لهذه الاتفاقيات، وانتزعوا حقوقاً  جديدة بفضل نضال الجزائر. كذلك مراكش يقال فيها نفس الشيء.. ففي تونس ومراكش، الحركة الاستقلالية ليست شعبية بالمعنى الصحيح لان قيادتها ليست شعبية.. الشعب يناضل ويدفع الثمن، ولكن القيادة هي تلك التي كانت منها طبقة النضال في سورية ولبنان والعراق.. طبقة اقطاعية بورجوازية. وهذه الطبقة تحارب الاستعمار: عين لها على العدو وعين على تجارتها واملاكها، لذلك لا يمكن ان تصل في النضال الى آخره. ويأتي يوم تصبح فيه هذه القيادة التي عرفناها هنا وعرفها الشعب العربي في مراكش وتونس، تصبح قيادة النضال هذه خائفة من الشعب عندما يزداد نضال الشعب، اكثر مما هي خائفة من الاستعمار. اما في الجزائر، فالاستعمار نفسه حل المشكلة، لانه منذ قرن وربع القرن يعمل على افناء الشعب العربي هناك وعلى حرمانه من أبسط عوامل البقاء لتحويل هذه الأراضي العربية الى أرض فرنسية يستغلها الفرنسيون ويتكاثرون فيها.. ولكن العنصر العربي فيه صمود وفيه حيوية، وقد اوصله الاستعمار الى حالة يستوي فيها الموت والحياة. هذه هي الحالة الثورية الممتازة: إن العرب في الجزائر يقبلون على الموت لانهم لا يخسرون شيئاً وقد يكسبون كل شيء. اذا خسروا فحياة ذليلة، وان كسبوا فحرية واستقلالاً ووحدة مع مجموع امتهم. والاستعمار الفرنسي لم يبق طبقة ارفع من طبقة، فكلهم في الفقر وفي الذل سواء. ولذا كانت اهدافهم القومية ومصالحهم الاقتصادية مترابطة كل الترابط، وكان نضالهم من اجل الحرية والاستقلال نضالاً من اجل أوضاع مادية أفضل في وقت واحد، فكان نضالاً جدياً وشاملاً، وهذا يدل على أن الوضع المادي هو اساس التحرر، فحيث لم يصل الوضع المادي الى هذا الحد من الانخفاض - في تونس ومراكش حيث المستوى أرفع- لم يكن النضال شاملاً.

 

اما في الجزائر فانه نضال شامل، لأنه نضال حياة أو موت، وخلاص المغرب العربي هو بيد الجزائر، لأنها هي البقعة الثورية الصحيحة التي لا يمكن ان تتراجع عن الثورة مهما حشد الاستعمار من قوى لإبادة هذه الثورة. فالشعب هنا إما ان ينال حريته أو يفنى ولن يفنى إذ أن استمراره في النضال سيحرك جميع العرب وسيكون الظفر له آخر الامر.

 

وإني أعود لأُلح على اهمية الاوضاع المادية لان الشباب المثقف يعيش في وضع هو نسبياً مريح، لذلك قد تنشأ عنده أوهام لها نتائج خطيرة عندما يفكر في قضيته القومية - فالأجدى والأجدر بالشباب ان ينـزل الى صفوف الشعب بين الحين والاخر، وان يتصل بالفلاحين في القرى وبالعمال وبالطبقة الفقيرة، وان يتعلم منها، لأن في حياتها دروساً كثيرة رائعة، لا يستطيع الشباب ان يتعلموها في المدارس.. فالأوضاع المادية ليست مادة وانما هي الروح. عندما يصل الإنسان الى حالة يصبح معها كأنه شيء وليس بشرا.. عندما تعوزه أبسط الوسائل للإبقاء على الحياة في نفسه وللابقاء على الحياة في اسرته، فان نضاله عندئذ في سبيل تغيير هذا الوضع، وفي سبيل رفع مستواه، هو نضال من أجل إرجاع انسانيته.. فالأكل ليس للأكل، والدواء ليس لتسكين الألم، وإنما ليعود الانسان انساناً يمارس مهمته كانسان، فيجدر بنا أن لا نستهين بالوضع المادي، بل نعتبره أهم تعبير عن واقع الانسان..



سؤال (3): كيف يمكن أن تتحقق الوحدة العربية؟ إن الأفكار التي ذكرها الاستاذ تحاج إلى وقت طويل لتتحقق، بينما "اسرائيل" خطر داهم وقريب جداً؟

 

- كنت أعطي بعض الملاحظات العامة عن نظرتنا الى الوحدة ونظرة الآخرين إليها، وعن علاقة الوحدة بالإشتراكية، ولكني لم أتعرض بعد للخطوات العملية، وأسارع إلى القول بأننا لا نذهب إلى أن الوحدة العربية ستتم دفعة واحدة، بل أن الطبيعي والمعقول أن تتم على مراحل، ونحن نقول بهذه النظرة ، نظرة المراحل، ونعمل بها ولها: فالاتحاد بين قطرين او ثلاثة هو مرحلة يجب ان تنصبّ عليها كل جهودنا حتى تثمر، وهي بدورها ستسهل الوصول إلى مرحلة أعلى، إلى توحيد اوسع وأبعد.. وأعتقد بأن سياسة الحزب في هذه الناحية ليست مجهولة، فالحزب قبل سبع سنوات وافق على مشروع الإتحاد بين سورية والعراق ضمن شروط، وفي السنة الماضية طرأت ظروف سياسية معروفة جعلت تحقيق هذا المطلب متعذراً الآن. وقال الحزب بإتحاد يقوم بين اقطار متحررة كل التحرر من النفوذ الاستعماري ملتقية في سياستها الخارجية والعربية.. أن يكون بين هذه الأقطار إتحاد أو ما هو قريب من الإتحاد. وهكذا ساهم الحزب في مشروع الميثاق العربي، الذي كان مقدراً له منذ عام أن يضم مصر وسورية والمملكة العربية السعودية.. وقبل شهر من الزمن وُضِع في سورية ميثاق قومي بين الأحزاب، وكان حزبنا يطالب بالإتحاد التام مع مصر، وقد رفضت ذلك الأحزاب الأُخرى بدون إستثناء، وانتهى الجميع الى صيغة ضعيفة قريبة من الميثاق تقول بتوسيع الإتفاقيات بين مصر وسورية والسعودية حتى تشمل إلى جانب الناحية العسكرية، النواحي السياسية والإقتصادية والثقافية. وفي اليوم الذي يتخلص فيه العراق من أوضاعه الشاذة لا يعود شيء أثمن من الاتحاد مع العراق. وأعتقد بأن هذا التحول الذي فرضته الظروف - ظروف خارجية لم يكن لنا حيلة فيها - كان لخير القضية، إذ أنه قرّب بين مصر والأقطار العربية الاخرى، واختصر الزمن مسافات طويلة. وهذا التفاعل الذي نراه ونلمسه بين مصر التي كانت مغرقة في الإنعزالية، وبين الأقطار العربية الأخرى هو من الحوادث الخطيرة، التي تدعو الى الاستبشار، وليس لنا إلا أن نشجع هذا التفاعل بكل قوانا. أما القول بأن خطر إسرائيل لا يسمح بالإنتظار عشرات السنين فيحتاج الى توضيح.

 

إننا عندما نقول بأن اهدافنا تتطلب عشرات السنين حتى تتحقق، فليس يعني ذلك بأننا سنبقى ضعفاء نحرص على التجزئة وعلى كل الاوضاع الراهنة حتى تتحقق جميع الاهداف دفعة واحدة. فالأهداف الإنقلابية - كما قلت- بدأ تحقيقها منذ اليوم الأول لوجودها في افكار الأفراد، وهي في تفاعل مستمر مع الشعب، والشعب يضغط على الأوضاع الرسمية لتستجيب له، بقدر ما يكون في ضغطه من قوة. انني ما أردت من قولي إن عشرات السنين تنتظرنا، إلا أن أُبين أن اهداف الإنقلاب العربي اهداف أصيلة وصعبة وجدية، تحتاج إلى نضال طويل حتى نصل إلى ذلك المستوى الجدير بأمتنا، لان مطلبنا ليس هيناً.. ان مطلبنا ببساطة هو أن تعود الأمة العربية للمساهمة من جديد فى الحضارة الإنسانية.

 

أذكر أننا قبيل معركة فلسطين الأولى، قبيل قرار التقسيم وبعده، وقبيل الحرب في سنة 1948، عندما كان حزبنا يطالب ويلح في الطلب على الحكومات العربية لكي تعد الاعداد اللازم لمواجهة تلك المعركة، ويؤكد أن مواجهة المعركة في فلسطين تستوجب تحرير الشعب داخل الأقطار العربية لأن المستعبد لا يستطيع ان يحارب.. أذكر أن الرسميين في البرلمانات وفي دعاياتهم كانوا يجيبوننا دائما هكذا: "هل من المعقول أن نفكر في أمور أخرى غير الحرب أمام خطر أكيد داهم كالخطر الصهيوني"؟ وهذه مغالطة شنيعة لأن الحرب غير ممكنة، إذا لم يقم بها الشعب، والشعب لا يقوم بالحرب اذا لم يكن شاعرا بالحياة وحاصلاً على الحد الادنى من
الحياة.. وبعد النكبة تغيرت دعايتهم: "نحن الآن مشغولون بالإعداد لاسترداد أرضنا من العدو" والحجة أو الغرض في كلتا الحالتين هو عدم التعرض لهذه الأوضاع الفاسدة. قبل النكبة ليس هناك وقت والخطر مداهم. وبعد النكبة ليس هناك وقت للتفكير أيضاً في الحلول الجذرية، وإنما يجب أن نعد الوسائل الممكنة لمواجهة الخطر..

 

لقد حان الوقت اذن لكي نكشف المغالطة والخداع في هذا المنطق، فبدون نظرة جذرية إلى أوضاع الشعب لا تكون هناك مقاومة جديّة للخطر الصهيوني.. بدون رفع المستوى الإقتصادي، بدون التوحيد الممكن لبعض الاقطار العربية، لا يكون للدخول في معركة فعلية مع الصهيونية معنى جديّ.

 

فالخطرالصهيوني - فيما اعتقد لن يجد متحمسين ومستعدين لمواجهته مثل هذه الفئة الانقلابية ومثل الجمهور الشعبي الذي يتبعها، لأنه بدأ يدرك معنى الحياة القومية والرابطة القومية.. ونحن- مع علمنا بأن مشكلة بقاء الصهيونية في فلسطين قد لا يحل هذا العام حتى لو وقعت حرب، إذ أنها تتطلب تحقيق مستوى أعلى من النضال، من الإمكانيات المادية والمعنوية- فإننا لن نتأخر عن خوض المعركة ولو كانت بعد أشهر، فان اعتقادنا راسخ بأن المعركة إن وقعت قريباً أو بعيداً فستكون محررة لا لفلسطين وحدها، بل للوطن العربي كله، لأن الشعب عندما يدخل ساحة النضال لن يكتفي بالقضاء على عدو واحد.

 

وبهذه المناسبة أقول: إن نظرتنا إلى الوحدة العربية تجعلنا نهتم بنضال الجزائر مثل اهتمامنا بقضية فلسطين، في حين أن الحكومات- كما تعرفون- تؤجل وتتجاهل هذا النضال العظيم الذي يخوضه الشعب العربي هناك، فتنظر إليه نظرة مادية سطحية جداً، بحجة حل مشاكلنا الداخلية أولاً، مع أن المعركة في الجزائر لا تتطلب غير شهور حتى تنتهي بالظفر فيما لو أُمدّت بالعون اللازم..

 

عام 1956


[1]  حديث في النادي الثقافي ببيروت في شباط 1956.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني