ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


المعركة بين الوجود السطحي والوجود الأصيل

 

 

بين واقع الامة العربية، وبين ما تصبو اليه من آمال وأهداف، بون شاسع..

 

بين شعور الامة العربية بأن لها رسالة إلى العالم، هي وحدها التي تبرر وجودها وتعطيه معنى وحافزاً، وبين تخبطها في أوضاعها البالية ووجودها المتخلف عن كل نهضة جدية وتأثير فعال في الاحداث، بين هذا الواقع وذلك الشعور من البعد ما يكاد يبلغ حد التناقض. والحياة لا تستطيع القرار على التناقض، ولا بد لها من ان تحله، إما بإماتة هذا النـزوع إلى الرسالة والاهداف الاصيلة، بقبول الواقع السهل والاستسلام له، وإما بتحريك القوى التي تتجاوب مع تطلع الامة إلى اصالة وجودها، والتي يؤدي تحركها إلى اخراج هذا التطلع من نطاق التمني العاطفي العاجز، وزجه في معترك التفاعل مع الارادات والقوى والمصالح الحيوية، ليبرهن على ما يكمن فيه من امكانات هي امكانات الامة ذاتها.

 

فالمعركة اذن هي بين الامكانات المتحققة في واقعنا الراهن وبين الامكانات الدفينة الكامنة في الامة العربية، والتي على مدى انطلاقها وعمق تحققها يتوقف مصيرنا ويتعين مكاننا ودورنا في العالم.

 

المعركة هي بين تلك الأقلية التي تستمسك، هنا وفي كل بلد عربي، بالاوضاع الراهنة وتدّعي أن هذه الاوضاع، رغم سوئها، هي نهاية ما يستطيعه العرب. وهؤلاء يلتقون، شاءوا أم أبوا، بالاستعمار وأعداء العروبة من كل صوب، ويدعمون كل ما في مجتمعنا من فساد وظلم وتأخر- وبين نوع آخر من المواطنين، هو أيضا أقلية، يؤمن على العكس بأن بقاء الاوضاع الراهنة هو الذي يحجب حقيقة الامة العربية ويخنق معظم كفاءاتها ويشوه نظرتها إلى نفسها وإلى الوجود.

 

هذا النوع الثاني، هذا النوع الجديد الذي يعطي مجرَد ظهوره إلى الميدان، أقوى دليل على صدق حدسه وواقعية نظرته، هذا النوع من المواطنين العرب يعبر بالضرورة- سواء توافر له الآن كل الوعي أم بعضه- عن ارادة الحياة في امتنا ومصلحة العدد الأكبر من أبناء شعبنا، ويلتقي طريقه بطريق التحرر والتقدم، والتفتح للمستقبل ولكل ما في الحياة من نزوع عميق إلى الخلق والبناء والخير والسمو والتضحية.
 


لقد آن للعرب ان يضعوا مشكلتهم الاساسية في وضع صحيح صريح، يليق بشعب عظيم، صادق شجاع، يأنف من محاباة نفسه على حساب رسالته التاريخية.

 

آن للعرب أن يضعوا حداً للأعذار والتهرب من المسؤولية وإلقاء جميع التبعات على الاستعمار، وان ينظروا إلى مشاكلهم نظرة عميقة من الداخل، ويعتبروا أنفسهم وحدهم المسؤولين عن مصيرهم أولاً وآخراً.

 

آن لنا ان نعتبر الاستعمار نتيجة لتقاعسنا عن تبديل أوضاعنا الداخلية البالية، لا سبباً في قيام هذه الأوضاع واستمرارها. وما كان ليتسنى للإستعمار أن يشن علينا هذه المعارك المتلاحقة لولا تأخرنا في فتح المعركة المباركة التي تضع العربي أمام قدره وجهاً لوجه، وتضطره أن يختار وأن يضع إرادته في الميزان.



وهذه المعركة التي نطلب فتحها لا تعني ان نكف عن مقاومة الاستعمار والعدوان الاجنبي بكل قوانا، كما أنها لا يمكن أن تعني ان نعمل في بعضنا قتلاً وتدميراً.. إن ما نرمي اليه هو أن نضع حداً للإنفعال والإستسلام، وأن نشرك أكبر عدد ممكن من أبناء شعبنا في قضية أمتهم ومصيرها، لأن في تحريك هذه القوى الشعبية الضخمة، التي كانت حتى الآن مهملة الوزن بعيدة عن ساحة المعركة، الأمل الوحيد في تغيير نظرتنا إلى أنفسنا، وتبديل موقفنا من الإستعمار، فلا نعود نعتبر وجوده قدراً ورغباته أوامر واجبة التنفيذ.

 

هذه هي النقطة الأساسية الفاصلة بيننا وبين الحكومات في الوطن العربي. وهي في الوقت ذاته نقطة الإفتراق بين الحاضر المطبوع بالعجز، والمستقبل الزاخر بالممكنات.. فالحكومات العربية تعتبر الخضوع لمطالب الإستعمار أهون وأيسر من تلك الرغبة الجامحة عند الشعب العربي إلى التحرر. لذلك فهي تختار دوماً الطريق السهل، وتتحول مرغمة إلى أدوات يستخدمها الإستعمار لعرقلة تحرر الشعب وتأخير نهضته. لقد إختارت الحكومات هذا المنطق وفرضته على الشعب، وليس الشعب العربي بملوم اذا اعتبر- تبعا لهذا المنطق ذاته- أن أجدى نضال يقوم به ضد الإستعمار هو نضاله ضد الطبقة الحاكمة المسخّرة له.

 

وفي هذا اليوم الذي نحتفل فيه بذكرى جلاء القوات الأجنبية عن سورية العربية، يجدر بنا أن نذكر أن العرب في جميع أقطارهم نظروا إلى الجلاء عن سورية على أنه نقطة الإنطلاق إلى تحرير الوطن العربي وتوحيده. وبعد مرور تسع سنوات على الجلاء، نرى أن حكومات سورية لم تفعل شيئاً لنجدة الشعب العربي المناضل ضد الإحتلال والطغيان، وأن حكومات سورية كانت طوال هذه السنين أكبر أداة في أيدي أعداء الوحدة ومستغلي القطيعة والتجزئة.. وفي هذه الظاهرة ما يكفي لإنهاء خدعة التذرع بالأجنبي، وتحميله تبعة تآمر الحكومات على الاهداف القومية. وفيها ما يكفي ايضاً لوضع مشكلتنا الأساسية وضعاً صحيحاً، فنقتنع بأن السبيل الوحيد إلى تحرير الوطن العربي وتوحيده، هو في إيصال الجماهير الشعبية إلى حكم البلاد وإستلام مقدراتها، لأن في هذه الجماهير وحدها تتوافر الإرادة والمصلحة والقوة لتحقيق استقلال العرب ووحدة أرضهم ونهضة مجتمعهم.

 

لقد جاء دور الجماهير في العالم، والجماهير الحقة هي شعوب آسيا وافريقيا التي عانت أعمق تجربة إنسانية من الإستعباد الخارجي والداخلي، من الظلم الوطني والأجنبي -فخلافاً لما حدث في الغرب في هذا العصر من ثورة الطبقات المستثمَرة على الطبقات المستثمِرة، ثورة بقيت في حدود المصالح المادية الضيقة ولم تتعارض مع مشاركة ضمنية للجماهير الغربية في استغلال الشعوب الشرقية عن طريق الإستعمار- نقول: خلافاً لما حدث في الغرب، فإن ثورة الشعوب الشرقية تحمل بالدرجة الأولى طابعاً تحررياً انسانياً، لأنها تتوجه ضد الإستعمار الذي يحمل في طياته جميع أنواع الظلم وأشكاله. وفي حين لا يصيب الظلم في الغرب إلا طبقات، فالشرق عبارة عن أمم مظلومة. والأمة العربية إحدى هذه الأمم المظلومة التي تكمن في تجربتها بذور رسالة جديدة إلى الامم وإلى الإنسانية، لا إلى الطبقات الاجتماعية وحدها.

 

فالبعث العربي إما أن يكون قومياً أو لا يكون مطلقاً، لأن قوميته ضمان لإنسانيته. وإن إعتماد حركة "البعث" على نضال الجماهير العربية المظلومة يعني ايماننا بأن هذه الجماهير، تمثل، نتيجة لمعاناتها الظلم والاضطهاد، حقيقة الأمة الصافية، كما أن فيها تكمن معظم قوى الأمة وكفاءاتها. فإشتراكيتنا بهذا المعنى هي وسيلة لبعث قوميتنا وأمتنا، والباب الذي تدخل منه الأمة العربية إلى التاريخ من جديد. واتجاهنا القومي يقي إشتراكيتنا شرور السلبية والنقمة الهدامة والمادية الشرهة، ليبقيها في جو الإيجابية والعطاء وحمل الرسالة.

 

وقومية "البعث" ضمانة لصدق انسانيته. اذ ليست إنسانيتنا تلك الإنسانية المثالية التي تفتقر إلى المعاناة ودم الحياة، بل هي حصيلة نضالنا العسير وخلاصة آلامنا ومآسينا، وتحملنا لمسؤولية مصيرنا كأمة لها ماضيها بمزاياه وعيوبه، ولها حاضرها بكل قسوته وجديته، وأمامها مستقبل يتوقف عليها وحدها أن تجعله من صنع إرادتها ومن وحي حريتها.

 

وقد تظل يقظة الجماهير في نظر الكثيرين يقظة غامضة مشبوهة، معرّضة لأن تحمل معها الشيء الكثير من الحقد والهدم والسطحية، والمادية. ولكن يقظة الشعب العربي، إذا نُظِر إليها من الزاوية القومية ومن خلال مأساة الأمة العربية وآلامها، يقظة واضحة الملامح والإتجاه، مضمونة النتائج. فالامة العربية ضحية أضخم ظلم عرفه هذا العصر، ولا يمكنها أن تحارب ظلماً بهذا الحجم التاريخي وأن تتغلب عليه إلاّ إذا عمقّت نضالها حتى يلامس جذور إنسانيتها ويلتقي بكل نضال إنساني تاريخي. لقد خبر العرب، بالتجربة المرة القاسية، إلى أي حد يتضاءل شأنهم وتهون نفوسهم ويهبط مستواهم الروحي، عندما تُعزل جماهير الشعب عن مقدراتها، ويمسي قدر الأمة لعبة بين أيدي الوجهاء المستغلين والهواة المازحين والمغامرين المغرورين، وكيف يتعفن الجو، ويسود التبذل، وينتشر التشاؤم، وتنغلق النفس أمام معنى المصير والمهمة التاريخية.

 

فهل غير الجماهير العربية من يخرج قدر العروبة إلى الهواء الطلق، ويعيد اتصاله بحرارة الحياة ونبضات التاريخ، ويطهره بآلام الملايين من المظلومين، ويغنيه بعديد الآمال المكبوتة والطاقات المدخرة منذ قرون؟ وهل يمكن أن تكون يقظة الجماهير العربية إلا يقظة الروح والضمير والجد والرجولة والعقل المتحرر المبدع والشخصية المستقلة المنتجة؟..

 

فاذا كان لا يزال ثمة في بلادنا فئات وأشخاص، من رجال الحكم والطبقة المستعبَدة لمصالحها، ينشدون مصيرهم خارج مصير أمتهم، ويرضخون لضغط الإستعمار كقدر لا  يقاوم، ويروّجون لأحلاف الغرب ومساعداته، كسبيل إلى إنعاش البلاد إنعاشاً مصطنعاً مشبوهاً، وحمايتها حماية خادعة كاذبة، فإن جماهير الشعب العربي تقف خارج جميع الحلول السياسية المصطنعة، وفي اتجاه متعال عليها. فلا الدكتاتورية الاصلاحية بقادرة على تحقيق شيء جدي دون نضال الشعب، ولا السياسة الاتحادية التي تسلك طريق القمع والطغيان وتحمي ابشع أنواع الإستغلال الطبقي والفساد، بمستطيعة ان تحقق شيئاً اذا لم يندفع فيه الشعب بكل قواه النضالية، ومن اجل أهدافه الكاملة في الحرية والإشتراكية والوحدة.

 

إن الشعب العربي، تتقدمه الطليعة الواعية المؤمنة، سيمضي في نضاله التحرري التاريخي سالكاً الطريق الذي اختطته الحياة لكل عمل صادق أصيل، طريق الانبعاث من الداخل، لتتكون النفوس قبل الوسائل، والعزائم قبل الاسلحة، والتيار الحي الذي يخترق روح الامة، ويكشف عن كوامنها ويلامس حريتها في أعمق جذورها. وعندما يصهر النضال روح أمتنا، ويضم تياره جماهير شعبنا، عندئذ تظهر لنا الامور على غير ما نرى الآن، ويعرف العرب أن الإستعمار الآثم، والصهيونية الباغية، وكل عدوان خارجي وظلم داخلي لم تكن كلها إلا مناسبات لكي يجسد الشعب العربي قيمه الحضارية، ويجدد رسالته الانسانية. ولئن كانت تجربته في هذه المرحلة الجديدة من البعث قد حوت مزيداً من المذلة والقسوة والألم، فلكي يحمل التعبير عن الرسالة العربية مزيدا من الحرية والرحمة والحق.

 

عام 1955

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني