ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


ثورية الوحدة العربية



لا شك ان اهداف "البعث العربي" التي لخصناها في "الحرية والإشتراكية والوحدة" هي اهداف اساسية متساوية في الاهمية لا يجوز فصل او تأجيل بعضها عن البعض الآخر. ولكن الشيء الذي لا شك فيه ايضا هو ان للوحدة وهي التي تعبر عن الصفة العربية الشاملة تقدما ورجحانا معنويا يجب ان لا يغفل عنه البعثيون لئلا ينساقوا مع تيارات فكرية وسياسية هي ابعد ما تكون عن فكرة  "البعث العربي."

 

كان " البعث العربي" عند تأسيسه في الاربعينات اول حزب اشتراكي في العالم العربي، ومع ذلك لم يختر لنفسه اسم الحزب الاشتراكي. وقد اعطى للحرية الدور الاساسي في بعث الامة العربية، ومع ذلك لم يتسم بالحزب الديمقراطي. ولئن كان قد تسمى بالبعث العربي فليس ذلك لانه اول حزب آمن بالوحدة العربية فكرا وعملا، وجعل تنظيمه على اساس عربي شامل فحسب، بل لانه آمن منذ البدء ان كل نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية في اجزائها ومجموعها لا تصدر عن هذه المسلمة: "وحدة الامة العربية" تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة. فليس اذن الفرق بين "البعث العربي" وبين الاحزاب الاخرى التي تنشأ في الاقطار العربية والتي منها ما ينادي بالديمقراطية،ومنها ما ينادي بالاشتراكية، ومنها ما ينادي بالاثنتين معا في حدود القطر الذي تنشأ فيه، واكثرها يقول بالوحدة العربية كنتيجة وهدف سيصل اليه كل قطر عندما يكتمل تطوره، نقول ان الفرق بين حزبنا وهذه الاحزاب ليس فرقا في الكم بل في النوع. ان الحرية التي يطلبها حزب مصري او لبناني، والاشتراكية التي يعمل لها حزب عراقي او سوري، هما غير الحرية والاشتراكية اللتين تحتاجهما وتقدر على تحقيقهما الامة العربية كأمة ذات تراث حضاري واستعدادات وامكانيات لنهضة جدية اصيلة. فالحرية التي يسعى اليها كل قطر عربي على حدة لا يمكن ان تبلغ من العمق والشمول والمعنى الايجابي ما تبلغه الحرية التي تنزع اليها الامة العربية عندما تضع مصيرها ومصير الانسانية موضع التساؤل. كما ان الاشتراكية التي تتقلص وتتشوه –في حدود القطر الواحد- حتى تقتصر على اصلاحات جزئية خادعة. تأخذ كل مداها النظري والتطبيقي عندما يكون مجالها الوطن العربي كوحدة اقتصادية وكوحدة شعبية نضالية. وهذا الفرق ايضا بين الحرية والاشتراكية كما تفهمان في حالة التجزئة (وفي عقلية التجزئة) وبينهما في عقلية الوحدة هو فرق في النوع لا في الكم. فلم يعد اذن عمل الاحزاب القطرية مرحلة توصل الى الوحدة، بل اتجاها جديدا وطريقا مختلفا يبتعد عنها ويضعف امكانياتها، وهو الفرق نفسه بين الجامعة العربية التي تجمع العجز الى العجز، والاحقاد والاطماع والمصالح الخاصة بعضها الى بعض، وبين الوحدة العربية التي تخلق العرب خلقا جديدا. وليس الذي يمنع اتحاد او انصهار الاحزاب ذات الاهداف الواحدة المتواجدة في عدة اقطار عربية هي الحواجز والعراقيل التي تضعها الحكومات في طريق اتحادها، بقدر ما هي طبيعة هذه الاحزاب وطبيعة اهدافها المستمدة مباشرة من وضع التجزئة، وعقليتها، والتي تستعصي على كل توحيد.
 

وفي حين يعتبر "وحدويو" التجزئة الوحدة شيئا آليا يبلغ بالتوحيد السياسي عندما تتهيا الظروف وتسنح الفرص، وانها لا تحتاج الى تهيئة سابقة اللهم الا التهيئة السياسية بالمفاوضات والمناورات، واما التهيئة الفكرية فلا تعدو ان تكون، في احسن الاحتمالات، تبشيرا عاما بالوحدة يتسع لشتى الارتجالات والتناقضات. وفي حين تمثل الوحدة في نظر الاحزاب القطرية وممارساتها الشيء السطحي الذي تعوزه الجدية، ويأتي في أدنى درجة من الأهمية بالنسبة الى المشاغل القطرية التي تستأثر عمليا بكل اهتمام هذه الاحزاب، فان الوحدة في نظر "البعث العربي" فكرة اساسية حية لها نظريتها كما للحرية والاشتراكية نظريتهما، ولها مثلهما نضالها المبدئي اليومي المنظم المستمر، ومراحلها التطبيقية التي تزيد في قوة هذا النضال وتمهد الطريق للنصر الاخير.
 

الوحدة العربية فكرة ومستوى : ليست الوحدة العربية محصلة او نتيجة لنضال الشعب العربي من اجل الحرية والاشتراكية، بل هي فكرة جديدة يجب ان ترافق وتوجه هذا النضال. ان امكانيات الامة ليست مجموعا عدديا لامكانيات اجزائها في حالة الانفصال بل هي اكثر في الكم ومختلفة في النوع.
 

نفسية التجزئة هي التي تفسر الى حد بعيد ليس تكاثر الاتجاهات المتنافرة المتناقضة فحسب، بل ايضا سلبية هذه الاتجاهات وعجزها عن كل بناء. هي نفسية الفرار والعجز، فرار الى التوسع الوهمي (الاممية التقدمية والرجعية) او التقلص المصطنع (الاقليمية اللبنانية والمصرية)كأن ربط العرب بعجلة عالم اوسع من عالمهم يغنيهم عن التحرك الذاتي، او كأن الجهد الروحي الذي يبذل لبعث الحياة في قسم منهم لا يكفي لبعثهم جميعا. نفسية التجزئة تحلم بالثورات الصاخبة العاصفة وتقنع بالاصلاحات الرخيصة والترقيعات الهزيلة المضحكة، تتكلم عن المبادئ وتعني اقتسام المناصب والمنافع. نفسية الوحدة تخلق الفكر الجريء النزيه والعمل العميق الصبور.
 

ان شعار "البعث العربي" (امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) يشير الى مستوى الوحدة اذ يقرنها بالرسالة. فالتفكير في الرسالة والكلام عنها لا يكونان مشروعين وجديين الا على نطاق الوحدة. ذلك لان الانقلاب، وهو خلق الشروط التي تمكن الامة من التغلب، بقواها الذاتية، على اسباب تخلفها، لا يكون مشروعا ولا جديا إلا على نطاق الوحدة ايضا. والرسالة ليست الا الانقلاب وثمراته. فانقلابية البعث العربي نابعة مباشرة من فكرة الوحدة، واداة هذا الانقلاب هو الجيل الذي له عقلية الوحدة ونفسيتها، الجيل العربي الجديد الذي يستمد قيمه من امكانات الامة العربية الكامنة لا من الواقع المريض.
 

الوحدة العربية عمل نضالي : كما ان الوحدة العربية فكرة جوهرية لها وعيها الذي يجب ان يوضح ويعمم حتى يقوم التفكير ويلهب النفوس – فهي كذلك عمل له تنظيمه الذي يجب ان يحكم ويتسع حتى يسيطر على الظروف ويقلب الاوضاع. اذن فليست الوحدة عملا آليا تتم من نفسها نتيجة للظروف والتطور. فالظروف لا تخدمها، والتطور قد يسير معاكسا لها نحو تبلور كاذب للتجزئة. فهي بهذا المعنى فاعلية وخلق ومغالبة للتيار، وسباق مع الزمن، اي انها تفكير انقلابي وعمل نضالي. ان هجوم الاستعمار والصهيونية يكاد يتركز على الوحدة العربية. ولا يحتاج الاستعمار الى تدخل مباشر لتزييف الديمقراطية والتقدمية فالتجزئة كفيلة بذلك ما دام وضعها ومنطقها يغريان كل جزء بأن يستغلها لبلوغ بعض الفوائد الخادعة على حساب الاجزاء الاخرى. وهكذا فبالرغم من وحدة حاجات الشعب العربي في جميع اقطاره، فان معظم نضاله يهدر ويبعثر. فمنطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في البلاد العربية من التوحد والتعاون فحسب، بل يدفعها الى التعاكس والتناقض.
وهكذا نصل الى هذه الحقيقة : لا يحقق الشعب العربي وحدة النضال، ما لم يمارس نضال الوحدة.

ميشيل عفلق

شباط 1953

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني