ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


تجربة العرب عنصر أساسي في تكوين العالم الجديد

 

 

اغتنم هذه الفرصة [1] لأشكر باسم الوفد السوري لجنة مكافحة الاستعمار في اليونان على جهودها الطيبة التي بذلتها لهذا الاجتماع فلها ملء تقديرنا. واني لأعتقد بأن هذه الغاية السلبية التي نجتمع لتحقيقها، أي مكافحة الاستعمار، لن تثمر ثمارها الحقيقية ولن تكون مستمرة وقوية اذا لم تحمل منذ الآن بذور وملامح الغاية الايجابية التي يجب ان تكون وراء مكافحة الاستعمار، وهي ما تطمح اليه الشعوب من تقدم وسلام ومن قدرة على القيام برسالتها الانسانية.

 

ان نضال الشعوب ضد الاستعمار وخاصة نضال الامة العربية التي تشكل اليوم اكبر قوة في الشرق الاوسط، ما كان ليظهر بمثل هذه القوة وبمثل هذا الاندفاع، وان يحظى بتأييد الجماهير العربية وعطف شعوب العالم، لو انه قام فقط على كره الاجنبي وعلى مجرد رغبة التخلص من الحكم الاجنبي. بل ان قوته هي في الاهداف الايجابية التي تختلج في نفس كل عربي، والتي تستعجل الزمن لكي يستطيع تحقيقها لخيره وخير العالم.

 

ان الامة العربية عانت وما تزال تعاني تجربة انسانية عميقة بفعل وقوع ظلم الاستعمار عليها زمناً طويلاً، وثمار هذه التجربة هي شيء ضروري وعنصر اساسي في تكوين العالم الحاضر، لانها تنبعث من آلام عميقة قلما عرفها شعب في هذا العصر، ويكفي ان اشير الى آلام امتنا في الجزائر وفي فلسطين لكي نعلم بأن امة عانت مثل هذا الظلم لا يمكن ان يبقى فيها أثر للرجعية وحب السيطرة والغزو والتعصب العنصري والديني، لانها كانت أُولى ضحايا هذا التعصب وهذه الآفات.

 

ان هذا المؤتمر هو ثمين في نظر العرب لانه يجمعهم كممثلين للشعب العربي مع ممثلي الشعوب الاوروبية الصغيرة والكبيرة، وخاصة مع الشعوب الكبيرة التي مارست دولها الاستعمار ضدنا باسمها. لذلك عملنا على ان يكون هذا المؤتمر مناسبة للتفاهم المتبادل بين الرجال الاحرار في الشعوب ولكي يدرك الاوروبيون ان تجربة الشعب العربي والشعوب الشرقية هي شيء اساسي، وان نضال هذه الشعوب الشرقية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقدم شعوب اوروبا نفسها، وان استمرار الاستعمار في بلادنا يحكم على شعوب اوروبا أن تنعزل عن تيار الثورة وان تتجمد في الرجعية وبالتالي تفقد مساهمتها الحضارية.

 

لقد وقعت بلادنا خاصة في المدة الاخيرة تحت وطأة ضغط استعماري قلما شاهدنا له مثيلاً، حملة من الدعاية والافتراء شاركت فيها كل الاوساط الرجعية في اوروبا واميركا. وقد وجهت العام الماضي ضد مصر وفي هذا العام ضد سورية، وقلبت الحقائق رأسا على عقب وصورت نضال امة تريد ان تستقل وتنال حريتها، وان توحد اجزاءها وان تنهض بمجتمعها وتوفر الرخاء لابنائها، صوروها وصوروا نضالها بانه للتعدي والتسلط والتوسع، وعندما نسمع مثل هذه الدعاية نكاد نشك في اسس الحضارة التي تسمح بمثل هذه الأكاذيب.

 

ورافق هذه الدعاية اعمال وتخريب في بلادنا من قبل الاستعمار فقد شجعوا كل انحلال وكل فساد ودعموا اشد الاوضاع رجعية في بلادنا بينما ركزوا هجومهم واسلحتهم على الفئات التقدمية التي تطالب بالحرية وحق الجماهير في الكرامة القومية، والذي يهمنا هو ان لا تبقى الفئات التقدمية في اوروبا واميركا والعالم كله منخدعة بمثل هذه الدعاية، لان نهضتنا الجديدة وقوميتنا العربية الحديثة منفتحة للانسانية. وتحرص ليس فقط على عون الشعوب الحرة لها وانما يهمها ان يعرف الشعب العربي عندما يناضل ان هناك دوماً في الشعوب الاخرى فئات تنشد الحقيقة وتدافع عن الحق.

 

وعلى كل حال فان الامة العربية لم تفقد ايجابيتها رغم كل هذا الافتراء وهذه العزلة التي فرضوها حولها، ولم تفقد نظرتها الموضوعية ايضاً. فهي في نفس الوقت الذي تكافح فيه الاستعمار تنظر نظرة مجردة في اوضاعها الداخلية، وتكافح نواقص مجتمعها وعوامل التخلف فيه، وهي اذا كانت تطالب شعوب العالم بأن تؤيد نضالها، فانها تطالب ايضاً نفسها بمهمة اصيلة تعلم ان الوقت قد حان لتأديتها الى الانسانية..

تشرين الثاني 1957

 

 [1] القي هذا الخطاب في مؤتمر مكافحة الاستعمار في اثينا من 1 الى 5 تشرين الثاني 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني