ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


أصالة الإتجاه العربي تفرض عنف المعركة

 

 

ليس مثل العرب في هذا العصر، شعب اقام نهضته وثورته على أسس انسانية أصيلة تأبى الزيف وترفض المساومة. وهم يقيسون بمقياس واحد سواء في موقفهم من انفسهم ومن امراض مجتمعهم وعناصر الضعف والخيانة فيه، أو في موقفهم من المستعمرين والغاصبين. ليس غير العرب شعب ألجأ دول الغرب الاستعمارية التي ظلت عشر سنوات تُسَخِر هيئة الأمم ومبادئ القانون الدولي لمصالحها، الى الخروج الصريح على مبادئ هذه المنظمة في الجزائر والعودة الى اساليب القرن الماضي في عدوانها المسلح على مصر، بعد ان أمم عبد الناصر شركة القناة. وليس غيرهم شعب اوصلت ثورته العميقة الحاسمة في الجزائر حزباً اشتراكياً اصلاحياً كبيراً كالحزب الاشتراكي الفرنسي الى ان يرتكب من اساليب القمع والتعذيب والغدر ما قصرت عنه اكثر الحكومات رجعية ويمينية، ففضح بذلك زيف "اشتراكيته" امام العالم كله. وليس غير شعبنا شعب استطاع بقوة ايمانه وحقه وصموده في نضاله ان يفضح في وقت واحد خرافة الصهيونية وكذب اهدافها الانسانية السلمية وفساد دول عظمى واحزاب وفئات تقدمية خطيرة الشأن استطاعت الصهيونية ان تشتريها بالمال او تستحوذ عليها بوسائل الاعلام لمناصرة عدوانها على حق العرب الواضح كالشمس. وليس أخيراً غير شعبنا شعب ألجأ دول الغرب المتمدن وعلى رأسها الولايات المتحدة الى تمزيق براقع مدنيتها المادية الموبوءة بجشع المصالح وشهوة الاستعمار عندما اعلنت تأييدها لكل ما هو عفن فاسد متخلف في مجتمعنا العربي، لتحارب به تباشير النهضة العربية التقدمية النظيفة متمثلة في ثورة مصر وحركة سورية الشعبية.

 

اما في داخل امتنا ووطننا، فان ثورتنا تسلك نفس الطريق الواضح الحاسم فتغنى في كل خطوة تخطوها، يوماً بعد يوم، بعديد القوى التي يوقظها وضوح الثورة وعمقها على أعمق ما فيها من استعداد للخير والرجولة، بينما تحرج الفاسدين والمزيفين وتضطرهم الى الانفضاح.

 

لقد ظل الحكام والزعماء زمناً طويلاً يستغلون الدعوة الى الوحدة العربية عندما كانوا يعلمون انها لفظة للتخدير وحلم بعيد المنال، وكانت الجامعة العربية اداتهم في التخدير والتعطيل والابقاء على مصالحهم المتمشية مع التجزئة. ولكن لم تكد تظهر بوادر الوحدة الحقيقية وتتهيأ شروطها لمصر وسورية والاردن حتى آثر مستغلو التجزئة الارتماء في احضان الاستعمار والوقوف ضعافاً امام اسرائيل، وهم اليوم يطالبون بعودة الجامعة العربية، ليجعلوها من جديد سداً في وجه موجة الوحدة والحركة الشعبية الجارفة التي تحملها.

 

وطوال سنين عديدة ظل ارباب المصالح يستغلون الجهل والتعصب لتفرقة الامة ومنع تحررها وتقدمها ووحدتها، متذرعين بذرائع مختلفة: فدعاة الطائفية في لبنان يبنون حجتهم في الانفصال عن جسم العروبة على تخلف المجتمع في الاقطار العربية الاخرى وما فيه من تعصب وجهل. والعناصر النفعية في هذه الاقطار كانت تقاوم الحركة التقدمية بحجة مقاومة الفساد والانحلال. ولكن جميع هؤلاء يلتقون اليوم على صعيد واحد في مقاومة شيء واحد هو العروبة السليمة المتحررة لان فيها قضاء على استغلالهم ونفعيتهم. فحكام لبنان الطائفيون، والمتاجرون بالدين في سورية والاردن، والملوك المجوعون لشعبهم والمحتكرون لثروات الوطن يلتقون ويوحدون جبهتهم مع الاستعمار ومن ورائه اسرائيل، ليقضوا على اتجاه القومية العربية المتحررة التي لا مجال فيها لتفرقة دينية او عنصرية ولا لاستغلال او اإنحلال او فساد.

 

وما كان الاستعمار في الخارج، ومستغلو الشعب في الداخل ليتناقضوا مثل هذا التناقض، ولينفضحوا الى هذا الحد لو لم تكن ثورة الشعب العربي واضحة الاتجاه لا تسمح بالمواربة وانصاف الحلول، ولو لم تكن قد بلغت حداً حاسماً من القوة والنضج يفرض على اعدائها ومعيقي سيرها ان يستبقوا الزمن ويستعجلوا نهايتهم.

 

لقد دخلت الامة العربية مرحلة الفاعلية والخلق. وليس بمقدور احد من ابنائها او من شعوب العالم ان يتجاهل وجودها او يقف منه موقف الحياد والانفعال. وكما انها تفرض الخوف والعداء على الطامعين بها والمعرقلين لثورتها فانها كذلك تفرض الحماسة والتأييد والولاء على جميع الذين في الداخل او في الخارج -يرون في هذه الثورة- ضمانة لسعادتهم وانسانيتهم.

 

23 أيار 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني