ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


نضال في مستوى الأهداف والأخطار

 

 

البلاد العربية منذ سنين عديدة والى سنين عديدة اخرى تجتاز مرحلة انقلاب. والانقلاب يعني من جملة معانيه ان الامة التي طرأ عليها التشويه من الداخل والعدوان من الخارج لا بد، لكي تسترد السيطرة على مقدراتها، من تجميع قواها السليمة وتركيز جهودها على الجوهري من الامور، حتى تتمكن من تحويل سيرها المتدهور الى اتجاه صاعد، وحتى تتفوق فيها عناصر الخلق والبناء على عناصر الموت والتخريب. وبكلمة مختصرة: مرحلة الانقلاب تشبه حالة حرب دائمة بكل ما تعنيه الحرب من يقظة وحذر ومضاعفة للجهد والانتاج وتضحية بالكماليات واستثمار لجميع الامكانيات وتجديد وابتكار في طرق استثمارها. وفوق هذا كله وضع الخطة الشاملة وتعيين الاهداف الواضحة وتوحيد العمل والنضال والافادة من كل نصر جزئي نحرزه في نضالنا الطويل لتغذية هذا النضال نفسه وتوسيع افقه ورفع مستواه.

 

والمعروف ان الطبقة المتزعمة في الوطن العربي كانت وما تزال ابعد ما تكون، سواء في تفكيرها او في سلوكها واوضاعها، عن الاستجابة لشروط الانقلاب، وعن تحقيقها وحتى عندما توجد البلاد في حالة حرب فعلاً كما في حادث العدوان الاستعماري الاسرائيلي الاخير، فان هذه الطبقة تتصرف لا تصرف العاجز عن تحقيق متطلبات الحرب فحسب، بل تصرف المخرب المتآمر ايضاً. ولقد كان العدوان الاخير بمثابة تذكير وانذار بأن الاستعمار وحلفاءه من اعداء العرب سوف يعيدون تنظيم خططهم ويضاعفون اعدادهم لمواجهة النضال العربي الذي فاجأهم بسرعة نموه، ولكن طبقة الحكام والمستغلين في اكثر اقطارنا لم ترد ان ترى في العدوان الا حالة طارئة عارضة انتهت بانتهاء القتال في مصر. وسرعان ما عادت الى سابق عهدها في الميوعة واللامبالاة. وترجمة هذا السلوك الى لغة الواقع الصادق الصريح هي ان هؤلاء لا يعترفون بشيء اسمه ثورة الجزائر وبأن هذه الثورة ركن اساسي في النضال العربي. ان هؤلاء الحكام لا يعترفون فعلاً، وان رددوا قولاً، بأن ثمة في قلب الوطن العربي دولة غاصبة غازية هي عبارة عن معسكر يهيئ الحرب ويبيت الغدر. وان اتقاء خطرها واستئصال شرها لن يأتيا عفواً بل باعداد مماثل لاعدادها او يزيد. وفي العراق وضد شعب العراق مؤامرة استعمارية كبرى تهدد الامة العربية كلها انكشف امرها منذ ان ولد حلف بغداد. وفي لبنان والسودان وتونس ومراكش مؤامرات تجمعها بحلف بغداد اواصر القربى الاستعمارية والكيد للعروبة. وفي السعودية واليمن وامارات الخليج استعباد وجهل واحتلال وتنكيل. وكل هذا يستدعي لا توحيد النضال فحسب، بل توفير وسائل النضال ايضا وذلك بتضحية العديد من النواحي غير الاساسية في حياتنا لتركيز معظم الجهود على الامور القومية الحيوية التي تقرر مصيرنا وبقاءنا.

 

كثير من الدلائل تشير الى ان الاستعمار قد خرج من محنته الاخيرة متعظاً يحاول تسوية خلافاته الداخلية وتوحيد جبهته ضد الوطن العربي، وان يبرز هذه المرة بخطط اكثر احكاماً، ووجه اقل تنفيراً، أي بخطط السياسة الاميركية ووجهها. والجواب اللائق بهذا الهجوم الجديد ان ننتقل الى مرحلة أعلى وأنضج في توحيد النضال العربي نجسد بها ايماننا بوحدة أمتنا تجسيدا عملياً واعياً فنضع قضايا النضال العربي فوق القضايا والحاجات المحلية بشكل يخدم القضية القومية الكبرى. وهذا يفترض وضع خطة شاملة بعيدة النظر والمدى تعالج الحاضر على هدي المستقبل القويم الذي نسعى اليه، وتعيين المراحل والامور المستعجلة المعالجة والامور التي يمكن تأجيلها. ولن تجدي هذه الخطة ما لم نقتنع ونسلم بدئياً بهاتين المسلّمتين: اولاً، ان هذا المستوى الجديد من النضال لا يقوم بغير تضحيات جدية تتحملها الفئات والاقطار ذات الحظ الوافر من الثروة والامكانات. ثانياً، ان هذا المستوى الجديد لا يمكن ان يتحقق بعدالة توزيع المسؤوليات والواجبات فحسب، بل ايضاً بزيادة امكانات الاقطار العربية وتفجير طاقة الشعب فيها باعادة النظر في الاسس والانظمة الاجتماعية الراهنة التي لا يمكن ان تعطي اكثر مما اعطت حتى الآن.

 

ولقد جاءت اتفاقية التضامن العربي بداية صالحة تنبئ عن شعور عام بالحاجة الماسة الى الارتفاع بالقضية العربية، الى مستوى وحدة المصير والتكافل في الاخطار والاعباء ولكنها رغم ذلك بداية صغيرة ومحدودة كانت تلبية للضغط القريب المباشر على الاقطار التي اشتركت فيها. ولا يمكن ان نطمئن الى صدق هذه التلبية الا عندما يصبح اهتمام المسؤولين في هذه الاقطار بواجب التضامن القومي مع ثورة الجزائر مثل اهتمامهم بحرية الاردن.

 

ان وصول بعض العناصر النضالية نتيجة لنمو الوعي العربي الشعبي الى مراكز الحكم في مصر وسورية والاردن، لئن كان له اثر وفضل في تحقيق بعض الخطوات في مجال التحرر والتمهيد للوحدة، فان له ايضاً محذوراً يجب التنبيه اليه. فوجود هذه العناصر النضالية في الحكم قد يخلق في نفس الشعب بعض الاطمئنان والتخدير، وقد يدخل في قناعة الشعب ان ما لم تستطع هذه العناصر تغييره هو بطبيعته غير قابل للتغيير، فتتشوّه نظرة الشعب الانقلابية، ويتزعزع ايمانه بأمته وقدرتها. ليس النضال مجرد شعارات عن التحرر ولا هو يكتفي بمعارك السياسة الخارجية. ان للنضال كثافة تمتد الى حياة أبسط مواطن في أصغر قرية والى شروط هذه الحياة ووسائلها، لأن منها ومن مثيلاتها تتكون قوى الامة وطاقتها، فاذا لم تتمكن العناصر النضالية ان تؤثر في الحكم بالشكل الذي يوجد للشعارات التحررية الانقلابية جسماً تتغذى منه، واذا لم تبدل في الاوضاع وتخلق من القوى ما يسمح بالتكافؤ مع مهمة تحرير الوطن العربي وتوحيده والتغلب على العراقيل التي يضعها الاستعمار وحلفاؤه وعملاؤه في طريقها، فان ابتعادها عن الحكم يكون أدعى الى تنبيه الشعب واحتفاظه بسلامة اتجاهه وحيوية نضاله.

 

25 كانون الثاني 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني