ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


الأحكام الثورية ليست حساباً على الماضي بل هي تعهد بخلق المستقبل

 

 

 

يمكن ان تؤخذ المؤامرة التي اكتشفت في سورية من زاويتين: الاولى وهي الزاوية المحدودة التي تقصر التآمر على هذا العدد الذي اشترك فعلاً وانكشف امره، وهي الزاوية السطحية. والثانية ان تفهم المؤامرة على انها من عمل طبقة اجتماعية قائمة في سورية وفي كل قطر عربي اخر، أوصلها استمساكها بمصالحها الخاصة وتناقض هذه المصالح مع المصلحة القومية الى حد التآمر والخيانة، وهي ما كانت لتجرؤ على الدخول في هذه المؤامرة الرهيبة في سورية في ظرف كانت فيه مقدرات الامة العربية عرضة لأفدح الاخطار، لو لم تكن معتمدة على تضامن ضمني عند ممثلي هذه الطبقة في الاقطار العربية الاخرى. وان هذه المؤامرة سواء بشكلها المصغر المحدود الذي اكتشف في سورية أم بشكلها الواسع العربي، ليست الا صراعاً على القومية العربية وضمن النطاق القومي، لا دخل فيها للشيوعية من قريب او بعيد، سواء في نظر الاستعمار او في نظر الطبقة الحاكمة المستغلة التي أمست حليفة صريحة للاستعمار. فالذي يخيف هذه الطبقة كما يخيف الاستعمار نفسه هو يقظة الشعب العربي وتنبهه لحقوقه وحرصه على قوميته من الضياع امام غزو الدول الاستعمارية واسرائيل، واكتشافه للصلة الوثيقة بين وجود الاستعمار واسرائيل وبين ان تحكم هذه الطبقة التي تحارب الوحدة العربية وتحول دون ارتفاع مستوى الشعب وتنمية امكانيات الوطن بالشكل الذي يتكافأ فيه مع الأخطار الخارجية ويضمن بالتالي للوطن العربي ان يستكمل تحرره ويحافظ على استقلاله. لقد بقيت هذه الطبقة في حدود القيم الوطنية لم تتجاوزها الى التآمر المفضوح طالما كان الشعب العربي في بدء يقظته قانعاً بذلك المفهوم الابتدائي للوطنية الذي لم يكن يعني اكثر من التحرر الشكلي من الحكم الأجنبي. ولما اخذ مفهوم الوطنية يعمق ويتسع حتى شمل في نظر الشعب التحرر الداخلي والعدالة الاجتماعية وتوحيد اجزاء الوطن الممزق، أي عندما اتخذت القومية العربية مفهومها السوي وسبيلها الجدي العملي وتركزت على الاهداف العربية الاساسية الثلاثة: الحرية والاشتراكية والوحدة، اختلف التفكير وتبدلت المواقف واصبح عدو الامس حليف اليوم، وبدا الاستعمار الاجنبي منقذا للطبقة المستأثرة بالمصالح والامتيازات، بينما غدا الشعب عدوها الحقيقي الوحيد. ولكنها لا تستطيع ان تحكم الشعب وتجاهره بالعداء، فلا بد ان تختلق عدواً وهمياً تفترض وجوده وراء يقظة الشعب ونضاله. كما ان الاستعمار اضطر امام تطورات هذا العصر وانتصارات الحرية في العالم ان يكيف اساليبه ويبدل ذرائعه، ولم يعد يجد مناصاً من الاعتراف بحق الشعوب -ومنها الشعب العربي- بالحرية والاستقلال، فكان لا بد له ايضاً من اختلاق ذريعة جديدة للتدخل، فكانت الشيوعية هذه الذريعة له وللطبقة المستغلة في بلاد العرب.

 

فنحن اذن امام طبقة متآمرة في الوطن العربي كله ضبط في سورية بالجرم المشهود بعض افرادها وأُجَرائها الذين هم أُجراء الاستعمار في الوقت نفسه. وقد تضحي الطبقة المستغلة بهؤلاء الافراد اضطراراً ولكنها لن تضحي بمصالحها المجرمة ولن تكف عن متابعة تآمرها. ولن يكف الاستعمار عن استخدامها في مقاومة التحرر العربي وخنق القومية العربية ما لم يطرح الشعب العربي قضيته بشكلها العميق البسيط العاري. وما لم يضع هذه الطبقة المتآمرة امام حقيقتها وجهاً لوجه ويضطرها ان تختار بين قوميتها العربية وبين الاستعمار. وعندما يفقد الاستعمار حلفاءه في داخل بلادنا لا يبقى له أي أثر في هذه البلاد. وعندما تختار هذه الطبقة ان تكون في صف الامة وان تلتزم في سياستها وتصرفاتها حدود القيم القومية، تفقد صفتها كطبقة لتعود جزءاً من الشعب العربي. فهناك وراء كل تسلط او تدخل استعماري، ووراء كل خروج على مبادئ القومية العربية أو معاكسة لاهدافها السليمة مصالح انانية لا قومية تفسر هذا الخروج ويرتكز عليها ذلك التدخل. وحلف بغداد هو قبل كل شيء رغبة الطبقة المستغلة في الاستئثار بثروات العراق. وتآمر الوضع الرسمي في لبنان يستند قبل كل شيء الى ما تجنيه الفئات المستغلة فيه من مرابح التجزئة. والتأييد الصريح او الخفي لسياسة الحكومتين العراقية واللبنانية من قبل بعض الفئات الحاكمة في البلاد العربية يعود بالدرجة الاولى الى حرص العروش والامارات والحكام الانتهازيين على الفوائد التي هيأتها لهم تجزئة الوطن العربي. ولو أدى ذلك الى الاستعانة بالاستعمار لحماية هذه التجزئة.

 

وامام هذه التناقضات الفاضحة يقف الشعب العربي في نضاله القاسي ضد الاستعمار واسرائيل وهو يشاهد الغبن الذي يلحقه بقضية حريته واستقلاله ونهضته. استئثار هذه الفئات بثروات عميمة من ارض الوطن، لو خصص بعضها لقضية الوطن لما كان للاستعمار واسرائيل وجود في ارض العرب.

 

والقضية اذن تبقى كما اسلفنا بين القومية العربية وبين الذين يفضلون عليها وعلى تحررها وانبعاثها مصالحهم الخاصة واستمرار استغلالهم للشعب العربي. لا قضية يسار ويمين وشرق وغرب. انها قضية وطنية وخيانة. وان النضال الشعبي القومي الذي بلغ في سورية حداً من الانتشار والنضج مكنه من فضح جزء من هذه المؤامرة الواسعة فضحاً يعتبر فتحاً في تاريخ القضية العربية الحديث. لتترتب عليه مسؤوليات جسيمة لا بالنسبة الى سورية فحسب، بل بالنسبة الى القضية العربية كلها. وان الروح التي نستلهمها في حكمنا على هذه المؤامرة اما ان تكون ملتفتة الى الوراء، سجينة لمقاييس الواقع المريض، فتنظر الى المؤامرة على انها من صنع افراد بالذات انزلقوا في الخيانة لضعف في الوطنية ومرض في النفس. واما ان نستلهم مستقبل شعبنا وقوميتنا والمسؤولية التاريخية التي تقرر مصيرنا الى اجيال، فنحكم، من خلال احكامنا على اشخاص المتآمرين، على طبقة بكاملها آن لها ان تنتهي او تنصهر في تيار القومية، وعلى عقلية وضيعة جبانة كانت مصدر النكبات والخيانات منذ عشرات السنين الى اليوم. فالحكم الذي نصدره ليس هو تسجيلاً لرأي ولا حساباً على عمل قام به الآخرون فحسب، وانما هو تعهد بعمل نفرضه على انفسنا للمستقبل. لقد حكم رجال الثورة في مصر احكاماً بدت يومئذ قاسية أقصت عن المسرح السسياسي زعماء كباراً كان لهم شأن في تاريخ النضال القومي.. ومع ذلك فقد برهن رجال الثورة بالاعمال التي قاموا بها فيما بعد وبالمستوى الذي رفعوا اليه القضية القومية على انهم لم يتجاوزوا الانصاف في احكامهم، لانهم عرفوا ما تفرضه تلك القسوة عليهم من مسؤوليات وتعهدات وفّوها كل حقها.

 

ان الحكم على المتآمرين يجب ان يكون في جديته بداية لمقاييس وطنية اكثر سلامة ورجولة ولمستوى من النضال لا يكتفي بمعاقبة الخيانة بل يقضي على اسبابها من الجذور، بالقضاء على الطبقة التي تتعارض مصالحها مع كل اصلاح وبناء.

 

18 كانون الثاني 1957

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني