ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


تحرر العرب ووحدتهم ضمان حيادهم

 

 

الامة العربية في مرحلة ثورة وانقلاب، هذا ما نكرره منذ تأسيس حزبنا، ولم يكن يتجاوب مع هذا القول الا قلة واعية من ابناء امتنا، وها نحن اليوم نرى ملايين الشعب العربي تتجاوب مع هذه الحقيقة، ونرى شعوباً ودولاً في العالم انتهت اخيراً الى فهم حقيقة العرب وطبيعة المرحلة التي يجتازونها، لكن دول الغرب تصر وحدها على التجاهل. ولئن بدا لنا طبيعياً أن تكون دولتا الاستعمار بريطانيا وفرنسا عاجزتين عن ان تتحررا من اوضاعهما وعقليتهما المتخلفة المتحجرة وان تفهما بالتالي شرعية مطالب العرب واهدافهم القومية، فاننا لا نستطيع الا ان نستغرب بعض الشيء موقف الولايات المتحدة منا، ذلك الموقف المتردد المتناقض الذي ان اقدم خطوة في طريق تأييد الحرية والعدالة فكأنه يندم عليها فيتبعها بخطوة اخرى تسترد ما اعطى وتهدم ما بنى. هذا هو شعور العرب تجاه سياسة الولايات المتحدة في الازمة الاخيرة عندما استغلت قرار هيئة الامم المتحدة بوجوب انسحاب القوات المعتدية من مصر لمحاولة تسوية نهائية لقضية فلسطين، ثم عندما أعلنت دعمها وتأييدها لحلف بغداد، في هذا الوقت بالذات الذي انكشفت فيه للعرب قاطبة أغراض هذا الحلف الاستعمارية التي تهدد استقلالهم ووحدتهم في الصميم.

 

ولعل ما ترمي اليه السياسة الاميركية من وراء فرض الصلح بين العرب واسرائيل ودعم حلف بغداد الذي يوشك على الانهيار هو ابعاد النفوذ السوفياتي عن البلاد العربية ومنطقة الشرق الاوسط. لكن هذا منطق قديم بال كنا نظن ان احداث السنوات الاخيرة كانت كافية لاقناع الولايات المتحدة بالتخلي عنه أُسوة بكثير من شعوب العالم ودوله التي غيرت نظرتها الى القضية العربية تغييراً اساسياً. فلم يعد معقولا في هذا الوقت ان تستمر الدول الاجنبية في اعتبار البلاد العربية مجرد ارض فيها ثروات ومواقع استراتيجية، وانه يمكن ان يقرر مصيرها من بعيد وعلى ضوء الصراع والتنافس بين الدول الكبرى، دون ان يُحسب للشعب العربي وأمانيه المشروعة ونضاله المتصل في سبيل التحرر والوحدة والقومية والتقدم الاجتماعي، أي حساب. لقد أيدتنا الولايات المتحدة في استنكار المؤامرة الاستعمارية المبيتة والعدوان البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر، وساهمت مع أعضاء هيئة الامم المتحدة في دفع هذا العدوان، ولكنها في استمرارها في مناصرة اسرائيل ودعم حلف بغداد كأنها تقول يجب ان يبقى العرب مجزئين متباعدين متنافرين، وان تظل بلادهم مجالاً اقتصادياً لغزو اسرائيل وسوقاً استهلاكية لبضائع الغرب، ومواقع استراتيجية لبريطانيا وفرنسا، وان تبقى بالتالي بلادهم مرتعاً للفساد والخيانة، وأن يمد في أجل الطبقة الفاسدة المفسِدة التي تلتقي مصالحها مع بقاء اسرائيل وبقاء حلف بغداد. ومعنى ذلك كله ان الشعب العربي سيظل يشعر بالكبت والاكراه والظلم وبالتدخل الاجنبي الذي يحول بينه وبين نزوعه المشروع الى حياة حرة راقية نظيفة. وفي هذا ما يشجعه على مديد الصداقة والتعاون الى الشعوب التي تظهر تفهماً لقضاياه، ومناصرة فعالة له، مهما تكن الفروق المذهبية والعقائدية بينه وبين هذه الشعوب كبيرة. ان الذي يبعد النفوذ السوفياتي عن البلاد العربية هو ابتعاد الاستعمار وجلاؤه التام عنها، وهو بالتالي مواصلة الامة العربية تحقيق اهدافها القومية وتمتعها بحريتها ووحدتها الكاملتين وبناؤها لنهضتها على اسس مستقلة حتى تكون قادرة على رفض التبعية لاية جهة كانت.

 

على هذا الاساس آمن العرب بسياسة الحياد الايجابي، وهم اليوم حريصون عليها اكثر من اي وقت مضى. وبالرغم من ان الامة العربية بحكم طبيعة المرحلة الثورية التي تجتازها تشعر بتجاوب اكبر وصلة أوثق مع الشعوب الثائرة التي تبني حياتها وتنظم مجتمعها الجديد، فانها ترفض سياسة المعسكرات وتأبى أن ترى الخير كله في الانظمة الجديدة والشر كله في الطرف الاخر، وترى في الابتعاد عن الانحياز الى أحد الطرفين ضمانة لحريتها ومساعداً لها على بلوغ طريقها المستقل، وهي في هذا تمشي جنباً الى جنب مع اكثر الشعوب الآسيوية التي عانت تجربة مماثلة لتجربتها. ولو خير العرب بين أن يحققوا أهدافهم في الحرية والوحدة والنهضة بأسرع وقت ممكن بفضل انحيازهم الى المعسكر الشرقي، وبين أن يتابعوا ثورتهم باسلوبهم المستقل المستلهم من ظروفهم وحاجاتهم ونظرتهم الى الحياة والانسان، ولو كلفهم ذلك تأخير تحقيق هذه الاهداف بضع سنين او اكثر، لفضلوا الطريق الطويلة مقابل حرصهم على على بعض القيم الاساسية، وهل ان تكون ثورتهم ثورة في العمق تتوافر لها أسباب النضج وتمتزج في اخلاق الفرد وتربيته، فثمة حدود لاندفاعنا الثوري نحو التحرر والتقدم يقف عندها هذا الاندفاع، وهي تقديس إنسانية الانسان والحرص على ان لا يتشوه الانسان الذي هو غاية كل تحرر وتقدم، ولكن هذا لا يعني اننا نستطيع السكوت والصبر على الاستعمار الذي لا يكتفي بتشويه انسانيتنا بل يهددها بالقتل والاماتة، ولا يقتصر افساده على الافراد بل يهدد بقاءنا كأمة. فثورتنا رغم التحفظ الذي اوردناه تبقى ثورة اي تعجيلاً واختصاراً للزمن، فنحن رغم كل شيء مستعجلون لتحررنا ووحدتنا وتقدمنا، واذا احرجتنا الظروف والاحداث، فقد نتساهل في اسلوب الثورة، ولكننا لن نتساهل في ضرورة الثورة، ولن نستعيض عنها بما يسميه الاستعمار ودول الغرب التطور والذي ليس هو في الحقيقة الا تاخراً وموتاً.

 

لقد سجلت سياسة الولايات المتحدة تجاه القضية العربية في الازمة الاخيرة تحسناً رحّب به العرب، ولكنه ترحيب ممزوج بالمخاوف والاسف لأننا ما زلنا نلمس تقصير هذه السياسة عن مستوى التفهم الواقعي لقضيتنا. قد لا يكون في مقدور العرب اليوم تصفية اسرائيل، ولكنهم لن يرضوا ان يتحول الاغتصاب، بالصلح الذي تريده اميركا، الى وضع شرعي. والعرب لا ينوون ان يحولوا بلادهم الى قاعدة موجهة ضد اميركا أو أية دولة اخرى، ولكنهم لن يسكتوا عن احلاف الغرب الاستعمارية في بلادهم، وهم لا يفهمون من دعم حكومة رجعية خائنة كحكومة نوري السعيد إلا خطة مبيتة لطعن حريتهم وعرقلة تقدمهم وايجاد توازن في داخل وطنهم الواحد بين قوى التقدم والرجعية والوطنية والخيانة للمد في أجَل الاستعمار، ولابقاء شعبنا وبلادنا اداة للتسخير والاستغلال.

 

7 كانون الاول 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني