ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


العروبة والألم 

 

 

قد تخرج من الجزائر الصورة المثالية لعروبة المستقبل. ذلك لان شعب الجزائر قد عرف الالم الانساني كما لم يعرفه شعب في العالم. ونضال الجزائر هو مقياس حيوية الامة العربية وقدرتها على التجدد والابداع.  فلقد ظهرت في هذا العصر حركات وثورات كانت بالنسبة الى العالم مفاجأة ومثار دهشة. اما ثورة الجزائر فكانت مفاجأة العروبة لنفسها.

 

لقد اعتدنا في اقطار الشرق العربي منذ مطلع هذا القرن ان نرى الحركات القومية متمثلة في الطبقات الوجيهة المتزعمة، فخالط قوميتنا من جراء ذلك الشيء الكثير من معاني الترف المادي والعاطفي والفكري. وبدت هذه القومية، وهي بعد ناشئة في المهد، ومغلوبة مضطهدة، كأنها تتكلم لغة ليست لغتها الطبيعية، دخلها الاصطناع والتزييف والغرور والتبجح منذ تمتماتها الاولى. وهذا ما جعلها، ردحاً طويلاً من الزمن، معزولة عن الشعب وحياته الصادقة الصميمة، كما جعل صوتها عاجزاً عن ان يتجاوز نطاق ارضنا، ويتجاوب مع مشاعر الشعوب الاخرى ويكسب عطفها وتأييدها.

 

كانت جماهير شعبنا العربي في جميع اقطارها وما تزال تعيش في الالم، ألم الحرمان والظلم والتأخر. لكن صوت الشعب المتألم كان يضيع في جلبة المعركة القائمة بين البلاد والمستعمر الأجنبي.

 

اما في الجزائر فقد عمل الاستعمار الافرنسي طوال اكثرمن قرن، بحرب منظمة للافقار والابادة، على تحقيق المساواة بين افراد الشعب العربي، في الفقر والظلم، فتحققت بذلك للشعب وحدة الشعور ووحدة القضية، ولاول مرة في تاريخ النضال العربي ضد الاستعمار اتحد المعنى القومي بالمعنى الإنساني اتحاداً تاماً، لان الاستعمار اوصل الشعب في الجزائر الى هذا الحد المتطرف الذي يدافع فيه الانسان عن مجرد البقاء وعن مجرد الكرامة التي لا يستطيع مخلوق بشري ان يحيا بدونها.

 

وهكذا قدر للعروبة في الجزائر ان تبلغ جذور انسانيتها وان تتعرى من كل ترف وتزييف وتمتلئ  بالمعنى الايجابي لانها عانت وقاست كل مراحل السلبية والحرمان لتصبح عروبة الحق والحرية والعدالة، ولتستطيع ان تولد هذا النضال الشامل الجبار الذي بلغ الغاية في الرجولة والرصانة والعمق.

 

ان النقص الذي كنا نشعر بوجوده في نضالنا القومي يسده اليوم نضال شعبنا في الجزائر، لانه منبعث من الم كبير، وهو ألم اكبر من ان يستنفده الحقد ويتوقف عند الهدم ويستسلم للغرور والاهواء او للضعف والاستكانة.

 

فبمقدار ما يتضامن الشعب العربي في اقطاره الاخرى مع نضال اخوانه في الجزائر، وبمقدار ما يؤازر هذا النضال ويضحي في سبيله، بمقدار ما يتحقق التفاعل بين اجزاء شعبنا الواحد، وتتوحد تجربته، ونعجل في تحرير قوميتنا العربية مما علق بها ودخل عليها من سطحية الطبقات المترفة ونفعيتها، لنغمس هذه القومية في معين ألم الشعب وصدقه وانسانيته.

 

26 تشرين الاول 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني