ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


النضال العربي بوجه الاستعمار وإسرائيل 



ايها الاخوان

لقد عرف الاستعمار أن الأمة العربية تعيش حالة تخمر وتهيئة لانبعاث قوميتها، وان في ذلك خطراً عليه. وقد كانت هذه المعرفة من أهم العوامل التي دعت إلى تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين والذي أصبح فيما بعد دولة إسرائيل.

 

ولم يكن وجود الصهيونية كافياً لكي ينجح الصهيونيون في استملاك فلسطين وإقامة دولة فيها. والحركة الصهيونية في البدء لم يكن هدفها فلسطين. كانت تفتش عن أية ارض في العالم تقيم عليها وطناً قومياً يهودياً. ولكن الحركة الصهيونية من جهة ومصلحة الاستعمار من جهة.. تلاقي المصلحتين هو الذي ساعد على خلق هذه الدولة. والمفهوم بداهة بأن مساعدة الدول الاستعمارية للحركة الصهيونية على تحقيق اغراضها في فلسطين يقصد منه الحيلولة دون الوحدة العربية والحيلولة دون قوة الأمة العربية، أي بلوغ هذه القوة القدر الذي يشكل خطراً على وجود الاستعمار. فعندما يمكن لليهود من إقامة دولة في قلب البلاد العربية تساعدها الدول الاستعمارية باستمرار ينشغل العرب بهذا العدو ويبذلون قسماً كبيراً من جهودهم في دفع خطر هذا العدو وفي الاستعداد لمواجهة خطره، كما ان نفسيتهم وتفكيرهم يمكن أن يشغل عن الاستعمار بهذا العدو الظاهر المقيم. وتعرفون كيف أن بريطانيا نفسها كانت، وأحسب أنها مازالت إلى اليوم وإلى الغد، تحاول ان تظهر بوجهين وان تلعب على الحبلين، فهي التي أوجدت إسرائيل وتدعو إلى مقاومة إسرائيل وتتكلم كأنها عربية قحطانية تغار على العروبة، وتتحالف مع بعض الدول العربية بحجة الدفاع ضد الخطر الإسرائيلي أو بحجة التخلص من إسرائيل. فلم نكن مخطئين إذن عندما وضعنا دوماً العدو الأول هو الاستعمار واعتبرنا إسرائيل نتيجة للاستعمار وحليفة له وربيبة له، وان مصيرها مرتبط بمصيره. ولكن لا حاجة إلى تنبيهكم بأن هذا لا يجوز أن يؤخذ بالشكل الحرفي وان تظنوا ان إسرائيل تأتمر بالاستعمار بكل شيء، هي حليفة للاستعمار ولكنها ليست أداة بالمعنى العادي .. لها كيانها، ولها خططها ولها مصالحها ولها قوتها وذكاؤها وسياستها وتعتمد على قوة ونفوذ الصهيونية العالمية. اذن هي احياناً تورط الدول الاستعمارية وأحياناً الدول الاستعمارية تدفعها.

 

أشرت إلى هذا لكي ابين لكم تضليل الدعايات الاستعمارية، ودعايات عملاء الاستعمار والفئات الرجعية التي تتبنى منطق الاستعمار، لأنها اصبحت تعي صلتها بالاستعمار وان مصلحتها رهن ببقاء الاستعمار. ففي هذه الاشهر الأخيرة فقط، إذا اكتفينا بها، نرى صحفاً كثيرة في هذا البلد وفي بلدان عربية أخرى مسيرة مباشرة أو بصورة غير مباشرة من الاستعمار، ومن الانكليز بصورة خاصة، كلما قامت حركة شعبية، كلما قام نضال في بلاد العرب في وجه الاستعمار الغربي، قامت هذه الدعايات وهذه الفئات والأوساط تصرخ بأنكم نسيتم العدو الأول للعرب، إسرائيل، وان كل الانتباه يجب أن يركز عليها، وان كل الجهود يجب أن تصرف لمقاومتها. وتعرفون أيضاً بأنهم حاولوا كثيراًَ أن يُظهِروا حلف بغداد بأن مبرره الأول والأكبر أنه وجد ليساعد على محو إسرائيل وعلى التخلص منها، وان بواسطته سيحصل العراق على الأسلحة، وتقوى الجيوش العربية. وكان هذا تناقضاً مفضوحاً، واستمروا إلى الأيام الاخيرة في هذه الدعاية حتى ان الأوساط الانهزامية والانعزالية في لبنان، وهي معروفة بجفائها لكل ما هو عربي وبعقليتها الطائفية المتعصبة، وبصلاتها المشبوهة مع دول الغرب، قد شاركت فيها.

 

عندما نشأت أزمة قناة السويس سمعنا أصوات هذه الفئات تذوب غيرة على فلسطين وتتوعد إسرائيل وتكثر من الكلام والكتابة عن إسرائيل وخطرها على العرب والعروبة، لكي تلهي الناس عن الخطر الحقيقي وعن موضوع الساعة.

 

قلت لكم بان القوّة العربية قد تضاعفت أضعافاً في السنوات الأخيرة، ومن المعلوم والواضح بأن خلق دولة إسرائيل كان باعثاً كبيراً وكبيراً جداً لتنمية هذه القوى ولحفز الأمة العربية ولرفع مستواها النضالي. فالاستعمار اذن هو شيء مصطنع كاذب يعيش بالحيلة ومن يوم إلى يوم بالأكاذيب، بالبطش والقوة، والشيء الطبيعي هو ان تكون الشعوب مستقلة حرة، وان لا يكون هناك مستعمِر ومستعمَر مستغِل ومستغَل. والدليل على اصطناع الاستعمار وعلى بطلانه وعلى أنه شيء موقوت لا يمكن أن يستمر وأن يكون له أساس قوي، ان العمل.. نفس العمل الذي يأتيه الاستعمار - بضرب الأمة التي يريد أن يستعمرها ويستغلها ويخنق حيويتها- نفس العمل هذا يكون له نتائج متناقضة. فالدول الاستعمارية أقامت إسرائيل لكي تحول دون نهضة العرب، ودون وحدة العرب، ولكن هذا الفعل نفسه كان عاملاً كبيراً جداً في إيقاظ قوميتنا ورفع مستوى وعينا ونضالنا لكي نصل في النتيجة إلى القضاء على إسرائيل والاستعمار معاً. ويكفي أن نأتي بمثال مصر، ولو أن الأمثلة كثيرة، ولكنه أبرز مثال هذا الذي فعلته معركة فلسطين في نفسية مصر وشعبها، فكانت معركة فلسطين بالنسبة لمصر بصورة خاصة حدثاً تاريخياً في تاريخ الأمة العربية. لأنها قضت على تلك العزلة التي عمل الأجنبي مئة سنة ليقيمها بين مصر وبين بقية الأقطار العربية، وتحطمت هذه الأسوار العازلة لمصر. وأكثر من ذلك، بانهيار أسوار العزلة انقشعت الغشاوة عن الشعب في مصر وانتفض من حياة كانت مطبوعة بطابع الفساد والذل والميوعة واتجه في طريق صاعدة نحو البناء القومي السليم والاصلاح الاجتماعي والتفكير السياسي المتصل بصميم مصلحه الشعب. ولم يحدث هذا في يوم واحد كما تعلمون. وكل شيء في الحياة لا بد له من وقت ليأخذ حده وينضج ولا بد أن تعترض الطريق عثرات وأن يحصل تردد وتلمس، ولكن عندما تكون الدفقة قوية وعميقة وأصيلة لا بد لها ان تصل إلى نتائجها المقدورة لها وهكذا وصلنا منذ سنة من الزمن أو سنة ونصف السنة إلى شيء قريب من المعجزة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما كانت عليه مصر من قبل إذ نجد الاتجاه العربي في الفئة الموجهة في مصر يصل إلى حد من السلامة يفوق كل قطر عربي آخر، وأقصد الحكومات.. لا أقصد الحركة الشعبية، لأن هؤلاء تتلمذوا على الحركة الشعبية التي نشأت هنا في سورية وفي العراق وفي الأردن ولكنهم تمثلوها بسرعة فائقة. واليوم نستطيع القول بأن هذا الاتجاه لم يعد محصوراً في نطاق الحاكمين بل أخذ يتفاعل مع الشعب.

 

قد تتساءلون كيف تنقلب الامور احيانا في تاريخ الامم انقلاباً مفاجئاً.. ما كان ليقدر أو ليحسب.. وهل هذا من صنع الأشخاص؟ وجواب سريع على ذلك هو ان الأصل نمو تفكير الشعب ووعي الشعب فإذا تحقق هذا النمو إلى حد كاف في الشعب فإنه يخلق الجو المناسب لظهور اشخاص افذاذ، وعندها يأتي دور الاشخاص، ولا ينكر دور الأشخاص الافذاذ في صنع التاريخ. ولكن من الخطأ أن نحسب أنهم وجدوا من الصدفة. انهم نتيجة امتهم واختمارامتهم، ثم تتمثل أمتهم فيهم، وهم بدورهم يدفعونها خطوات إلى الأمام. ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يتصور أن حركة مصر الأخيرة أو ما يسمونه الثورة كان ممكناً أن تقوم وان تعيش وتستمر لو لم يكن الجو العربي في مصر، وخاصة فيما حول مصر من أقطار عربية، قد بلغ ذلك النضج من النضال الشعبي.. من النضال القومي.. من التفكير القومي المقرون بالتفكير الاجتماعي التقدمي. كل هذا انعكس على مصر.. وتفاعل مع مصر.. مع أفراد كلهم دخلوا معركة فلسطين.. دخلوا هذه التجربة.. وعانوا تجربة فلسطين بتفكير جديد وبتصميم جديد.

 

هذا كما قلت شيء قريب من المعجزة؛ ولكن ما هو مخبأ في صدر الأمة العربية من إمكانيات يفوق ما رأيناه حتى الآن بكثير. ولسنا الا في أول الطريق.

 

وثورة الجزائر، يصح أن تسمى بدون تحفظ معجزة، ليست قريبة من المعجزة.. ولكنها معجزة بالمعنى الكامل. إذ لا يمكن ان نتصور إمكان القيام بالثورة لولا أن الجزائر قطر عربي.. لولا أنه متصل ولو من بعيد بأواصر روحية وتاريخية بالعروبة. وبالتالي لم يندفع شعبنا هناك بذلك العزم والتصميم والكفاءة العجيبة على التنظيم الحديث لو لم يكن مطمئناً إلى ان أمة بكاملها، وفي حالة النهوض والانبعاث تدعمه وتسنده، لأنهم شاهدوا هذا الانبعاث ووصلهم خبره. وفعلاً كانت المساعدات المعنوية والمادية ذات أثر في استمرار ونجاح الثورة في الجزائر.

 

وانظروا بعد ذلك إلى الاستعمار.. إلى بريطانيا وفرنسا.. الدولتين اللتين مازالتا تعيشان على الاستعمار بشكله القديم المتخلف اي الاحتلال والاستغلال لموارد بلاد أخرى والافساد والضغط والتخريب وعرقلة النهضة وعرقلة الوحدة وكل ذلك.. هذا النوع من الاستعمار لم تحتفظ به إلا بريطانيا وفرنسا. انظروا إليهما، وقد شاهدنا اجزاء الوطن العربي تتحرك الواحد تلو الآخر، وكل حركة تأتي بمفاجآت أضخم من التي سبقتها.. مع أن لهم مصالح حيوية، فالاستعمار لفظة مجردة ولكن وراءها واقعاً حياً يجب ان تتبينوه، والاستعمار يعني أن هناك في الدولة المستعمِرة طبقة من الشعب أقامت كل حياتها على وجود المستعمرات.. كل مصالحها ورساميلها وصناعتها وتجارتها.. كل ذلك.. وان هذه الطبقة بطبيعة الحال هي الحاكمة في الدولة المستعمِرة، وأنها بالتالي تؤثر في مجموع الشعب لأنها حاكمة، تؤثر في الرأي العام والثقافة والصحافة والتشريع وكل شيء، وتطبع إلى حد قليل أو كثير مجموع الشعب بالطابع الاستعماري، بالعقلية الاستعمارية، بالمفاهيم الاستعمارية.. حتى العمال في الدولة المستعمِرة لا ينجون من التأثير الاستعماري، من العقلية المستعمرة ولكن بصورة أخف بكثير من غيرهم.

 

ذلك لأن العامل الانجليزي هو مستعمِر يعيش بشروط من الرفاه المادي، ولو فقدت بريطانيا مستعمراتها لهبطت نسبة الرفاه كثيراً. ولكن تبقى فروق بين طبقات الشعب. فالعامل مهما أفاد من الاستعمار ينظر إلى الظلم الذي يقع عليه من مستثمريه المباشرين، ويتألم من هذا الظلم، ويستطيع إذا نضج فكره -تفكيره ووعيه- أن يكون في صف الحرية وضد الاستعمار.

 

هذه الدول الاستعمارية التي تنهال عليها الضربات، ليس من العرب فحسب بل من جميع الشعوب التي كانت مستعمَرة واخذت في التحرر في هذا العصر، تتمسك ببقايا استعمارها ومصالحها استمساك الغريق المشرف على الغرق، ولذلك تتكالب وتلجأ إلى هذه التصرفات التي نراها ونعانيها اليوم معاناة مباشرة. ذلك لأن الطبقة المستفيدة من الاستعمار -في الدول الاستعمارية- إذا فقدت المستعمرات فستفقد زعامتها ومصالحها في أوطانها، وستكون معرضة لثورة داخلية. والواقع أن ثورة الشعوب المضطهَدة هي بصورة غير مباشرة مقدمة لثورة الشعوب المضطهِدة المستعمِرة لتصحيح أوضاعها. لأن انتزاع هذه الثروات غير المشروعة المصطنعة التي كانت الدول الاستعمارية تعتمد عليها.. ضياعها منها يحدث انقلابا في نظام الدول الاستعمارية وتضطر إلى اعادة تنظيم شؤونها وتوزيع ثروتها، ووضع نظام اقتصادي جديد لكي تستطيع أن تعيش دون أن تتكئ على مستعمراتها. لذلك لا نستغرب هذه الوقاحة التي تبدو من الدول الاستعمارية في موقفها معنا.

 

وعندما يكون نضال الشعب السائر في طريق التحرر.. عندما يكون نضاله واعياً وعميقاً وجريئاً فإنه يفرض على مستعمريه أن يخرقوا كل ستر.. وان يفتضحوا تمام الافتضاح. النضال الرخو يبقي عليهم الخرافات الكثيرة ولا يظهرهم على حقيقتهم. ولكن.. عندما يبلغ نضال العرب هذا المستوى الذي ظهر في الجزائر، وفي مصر في المدة الاخيرة، لا يعود ثمة مجال للخداع والمواربة ولأي شكل من أشكال التضليل. فترونهم منذ أزمة القناة إلى اليوم يتصرفون كالحمقى..كالمجانين.. ولم يعودوا يخشون نتائج هذه التصرفات لأنها في نظرهم مسألة حياة أو موت.. هذه التصرفات حتى في القرن التاسع عشر.. قرن الاستعمار، حيث لا رأي عام عالمي يضغط، متى كانوا يلجؤون إلى مثل هذه الوقاحة؟.. وطبيعي أنهم كانوا يفضلون الأساليب الأكثر مراوغة، والأكثر خداعاً، ولكننا اضطررناهم إلى ان لا يبقى أمامهم الا الوقاحة والصفاقة. وهذا كسب كبير لمعركتنا لأننا لسنا وحدنا في العالم.

 

بالنسبة لشعبنا كسب كبير أن يشعر بكل حواسه وكل شعوره ووعيه ما هو الاستعمار. هذا كسب بالغ القيمة والفائدة، لأن الشعوب ليست دوماً في هذا المستوى من الوعي، وليس الجميع في مستوى واحد. قد تكون قلة واعية، ولكن يندر أن توجد ظروف يعرف فيها كل الشعب ما هي حقيقة الاستعمار. وبنضالنا الجريء الصادق اضطررنا الدول الاستعمارية أن تتصرف هكذا ولا ندع مجالا للالتباس. هذا بالنسبة لنا، ولكن هناك رأي عام عالمي وشعوب أخرى قاست من الاستعمار ما قاسيناه وتحررت حديثاً، أو مازالت في طريق التحرر، وشعوب ليس لها مصلحة في الاستعمار، وشعوب لها مصلحة ضد الاستعمار.

 

وموقفنا يكسبنا هذا الرأي العام العالمي المشارك بعضه لنا في التجربة والعاطفة، والمشارك بعضه لنا في المصلحة.

وأخيراً بلغ من نمو النضال العربي أن وقفنا اليوم كما لم نقف في أي وقت مضى منذ مئات السنين.

العالم كله يشهد الآن بأن في العالم شيئاً اسمه الأمة العربية.. والعالم كله يشهد بأن هناك عدواناً صريحاً عليها، وان لها قضية عادلة سواء في فلسطين وسواء في مجموع أجزاء وطننا -حيث يوجد استعمار- حيث يوجد احتلال وقيود وأحلاف ومعاهدات وشركات.

 

والشيء الجديد والمفيد في آن واحد هو ان هذه المعركة تتمثل بالدرجة الأولى في مصر.. مصر كما وصفتها، وكما يعرفها الجميع، كيف كانت وكيف أصبحت اليوم ممثلة للعروبة، ممثلة للأمة العربية.. وليس هذا كلاماً عاطفياً، وإنما هو الواقع بعينه. فمصر في السنتين الأخيرتين، في مواقف واضحة مشهودة، لم تعد تتصرف كبلد قائم بذاته، وإنما تصرفها كجزء من وطن كبير هو الوطن العربي. وأكثر من ذلك، لم تعد تتصرف كجزء وإنما بالنيابة عن مجموع هذا الوطن كطليعة وممثلة له. ولولا ذلك لما وقفت مصر هذه المواقف التي كان يمكن أن تسمى جنونية.. وان تنعت بالطيش والتهور، لو أنها بمفردها تتحدى كل هذه القوى الرجعية في العالم، تتحدى أخطاراً ليست وهمية وليست بعيدة وإنما على حدودها. ومعروف أن هذه القوى تتفوق على مصر كثيراً، رغم أن مصر تقدمت كثيراً. ولكن هذه التصرفات لم تكن جنونية ولا نتيجة التهور، وإنما نتيجة الايمان والوعي، لان مصر والمسؤولين في مصر أصبحوا يعملون باسم الأمة العربية.. باسم مائة مليون عربي، مائة مليون ليس من البشر الهاجع، وإنما من البشر الناهض الذي يزداد قوة يوماً بعد يوم. وواثقة بأنها اذا مثلت سياسة الحرية والبعث والاستقلال والتحرر تمثيلاً صادقاً سليماً لإنسانية خيّرة فإن هذه الملاين مرغمة على تأييدها، ليس لها الخيار، وفي هذا الايمان بطولة.

 

فسواء في مقاومة مصر للأحلاف الاستعمارية باسم مصلحة العرب كلهم، وسواء بتبنيها لسياسة الحياد الايجابي باسم مصلحة العرب جميعاً، وسواء بوقوفها وقوفاً صامداً عنيداً من الخطر اليهودي، ومن العروض والمساومات والتسويات التي عرضت عليها.. وقفت وهي تعرف ما هو خطر إسرائيل على الوجود العربي كله. وسواء موقفها في أزمة القناة، وشقها الطريق أمام جميع أقطار العروبة لتحدي الاستعمار والانعتاق من قيوده ومن شركاته واستثماره كل شيء.

 

هذه المواقف لم تقفها مصر كمصر، ولا كجزء من الوطن العربي، وإنما كمندوبة للأمة العربية، بصفتها أكبر قطر عربي، فيه إمكانيات ضخمة وتهيأت له شروط من الثقافة والانتاج والوعي حتى استرد مصيره بيده ونظف جوه، وبالتالي أصبح أهلاً لأن يتكلم باسم جميع العرب.

 

هذا الايمان هو بالدرجة الأولى عند تلك النخبة من الموجهين، ولكنه بفضل الأحداث وبفضل الأخطار التي تلاحقت علينا في المدة الأخيرة.. انتقلت هذه الأفكار وهذا الايمان.. انتقل من نطاق تلك الفئة القليلة من الموجهين، واخذ يتسع وينتشر بين جماهير الشعب الذين وان كانوا لم يصلوا بعد في ثقافتهم القومية ووعيهم النضالي إلى المستوى الذي يمكّنهم من فهم هذه السياسة البعيدة النظر، ولكن الأخطار ربتهم تربية عميقة، إذ أنهم شعروا بأنهم أمام بريطانيا الرهيبة التي كان يعرف عنها انها رهيبة، وأمام فرنسا، وربما أمام الغرب بكامله في أول أزمة القناة.

 

شعر الشعب العربي في مصر أنه لا يستطيع أن يرد هذه الأخطار وهذه القوى الهائلة، وما كان ليوافق على الخطوة التي خطاها عبد الناصر فى تأميم القناة، لولا أن عبد الناصر في نفس الوقت الذي أمم فيه القناة أكد إيمانه بالقومية العربية وبالقوة العربية وانه إنما يفعل ذلك مستنداً إلى قوة الأمة العربية، فشعر الشعب العربي في مصر أنه مسنود، وأصبحت العروبة بالنسبة إليه ليست للتغني العاطفي، وإنما مسألة إنقاذ.. مسألة حياة أو موت.

 

فلنترك ايها الاخوان التحليلات السياسية إلى وقت آخر، ولنقتصر على هذه الناحية القومية: عندما يتم هذا العمل التاريخي في تاريخ أمة.. عندما تتفاعل الفكرة العربية مع قطر هو أضخم قطر عربي، كان ميئوساً منه منذ خمس سنوات، عندما ينقلب هذا الانقلاب وهذه القوة الضخمة التي كانت سلبية وأصبحت إيجابية في خدمة العروبة أي جواب يجب أن يلقاه منا هذا القطر؟

 

كل أفراد الأمة العربية مسؤولون اليوم عن مستقبلهم، عن مستقبل الأمة العربية.. وتاريخها. هل ترسخ هذه العقيدة التي تفاعلت مع مصر، أضخم وأكبر قطر؟ هل نحقق أمل هذا القطر بنا؟.. هل نبرهن أن العروبة هي واقع وهي حقيقة وفعل وعمل وجهاد؟.. ام نتردى وننتكس؟.. ويبقى انقلاب مصر معلقاً في الهواء معرضاً لشتى الانتكاسات ايضا، ولأن يكون سطحياً، وأن تقع عليه ضربة تحدث في مصر ردة وانتكاساً. لو أخذنا هذه المعركة التي فرضها الاستعمار علينا، والتي بمعنى من المعاني نحن فرضناها عليه. لو أخذناها من هذه الناحية، ألا يجب أن نزداد التحاماً مع بعضنا سواء مع مصر أو مع الجزائر أو مع أي قطر آخر؟..

 

نأخذ مصر كمثال، لأنه أبرز مثال، هل نتجاوب مع متطلبات عصرنا الصاعد. وندفع الثمن، ونمتِن هذه الأواصر التي تنمو وتتشابك بين أقطارالعروبة؟.. ولو بالدم.. ولو بالتضحيات المستمرة.. لكي نكون مطمئنين إلى مستقبلنا؟ لأنه لا يعود هناك حدود تستطيع أن تفصم عرى الأمة العربية، وتعيدها إلى شتات من بشر جاهل لشخصيته ومصيره ونفسه.

 

هذا كله بيدنا. وبهذه الروح يجب ان ننظر إلى المعركة، وان نجعل المواطنين ينظرون اليها. وان ندخل وإياهم هذه المعركة.

 

ايها الاخوان

 

من يوم وَعَيْنا وجودنا القومي، وبصورة خاصة من يوم تأسيس هذا الحزب وهذه الحركة، وإيماننا بأمتنا إيمان قوي وعميق.. ولكن مهما قيل في الانسان. فإنه لا يستطيع ان يكون دوماً في مستوى واحد.. وحياة الانسان متحركة. واستطيع أن اقول بأننا خلال هذه السنين الطويلة التي رافقنا فيها قضية أمتنا وساهمنا في نضالها، لم نكن في يوم من الايام مؤمنين بمستقبل أمتنا كما نحن اليوم.. كما نشعر اليوم. لذلك أقول لكم بصراحة بأنني لا اهتم كثيراً في النتيجة العاجلة والقريبة للمعركة التي تدور بين العرب والاستعمار.. ولو أن واجبنا جميعاً أن نعمل كل شيء في سبيل النصر، وبإمكاننا أن ننتصر، لأن امكانياتنا عديدة. ولكن هذا ليس المهم، المهم أن تبقى الأمة.. وان تبقى سائرة في الطريق الصاعدة متفائلة مؤمنة برسالتها.

 

ولا يستبعد على أية أمة في العالم -في أحسن الشروط من الوعي ومن الخلق ومن الاستعداد المادي- لا يستبعد أن تأتي قوة تفوقها وتنـزل بها ضربة تقهرها مؤقتاً.. هذا محتمل.. ولكن المستحيل، انه إذا قامت هذه الأمة بواجبها ،فإنه يستحيل أن يُقضى عليها نهائياً.. قد تقهر.. قد تبقى سنوات في حالة ضعف وخسارة، ولكن بذور القوة قد تضاعفت.. لأنها قامت بواجبها.. وينتظرها مستقبل أروع بكثير.

 

هكذا أرى المعركة: اننا مطالبون بالدرجة الأولى -وفوق كل شيء وكل تقدير وكل اعتبار- بأن ننقذ المستقبل، وإنقاذ المستقبل يكون بأن نوفي الحاضر حقه، ان نقوم بواجبنا -في الحاضر- دون أن نحسب أو أن نضع بالدرجة الأولى حسابات الربح والخسارة. وهذا ما يترتب على سورية بشكل خاص -ولو أني لا افرق بين قطر وآخر وأعتبر أن هذه التقسيمات كلها زائلة- ولكن حتى الان كانت سورية تعتبر في نظر الأقطار الأخرى وخاصة في نظر مصر بأنها مهد الفكرة العربية، وانها على صغرها وقلة امكانياتها.. قد ناضلت أكثر من غيرها.. وأن هذه الفكرة، هذه الدعوة، لقيت هنا التربة الخصبة.. وانتشرت إلى الأقطار الأخرى، وفي مصر بصورة خاصة -كما قلت لكم- لمست هذا بنفسي: لسورية في أذهان المصريين مكانة خاصة، واسمها يفعل في قلوبهم فعل السحر، ويقولون ويعترفون بأنهم تتلمذوا على سورية بالفكرة القومية الصحيحة، والاتجاه القومي التقدمي.

 

وتعرفون كيف ان هذا الحزب رفع شعار الاتحاد بين سورية ومصر كخطوة في سبيل وحدة عربية سليمة من الشوائب، وأن ذلك لقي استجابة وترحيباً من مصر رغم العوائق والموانع الكثيرة في هذا الظرف.

 

فإذن الواجب يقضي بأن تكون سورية أسرع من غيرها إلى التضامن وإلى دخول المعركة بسرعة.. سيكون لذلك أثره القوي الفعال في مصر وفي سائر الأقطار.

 

تشرين الأول 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني