ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


مستوى جديد لنضالنا

 

 

لقد عملت الدول الاستعمارية عشرات السنين على تأخير انبعاث الامة العربية بافقارها وتجزئتها وتكبيلها بالقيود العديدة. ثم اوجدت اسرائيل كوسيلة اخيرة بالغة المفعول والنجوع في هذا السبيل لاشغال العرب واهدار جهودهم وقواهم وقطع الطريق على تحررهم ووحدتهم.

 

ولكن هذ الدول فوجئت في الآونة الاخيرة بتزايد امكانيات الشعب العربي وتفجر طاقته الثورية رغم جميع العراقيل، فتراجعت موقتا لتضع من خطط الضغط والعدوان واساليب التفرقة والافساد ما تستطيع معه التفوق على الطاقة العربية الجديدة.

 

والاستعمار لم يتراجع الا في جبهة واحدة من الجبهات العديدة للمعركة الدائرة بيننا وبينه، اي في جبهة القناة التي فتحها دون حساب وتروّ، ولكنه ما زال يعمل في الجبهات الاخرى بمزيد من الاستعداد والقوة والدهاء. وهذا كله يوصلنا الى نتيجة منطقية وهي ان على الشعب العربي وقيادته الثورية ان يضعا بدورهما خطة جديدة ترفع مستوى النضال وتحكم اسلوبه وتفجر قوى جديدة في الشعب، حتى يتحول الاستعمار مرة أخرى من الهجوم الى الدفاع.

 

إن بعض الأفكار التي كانت جديدة قبل خمسة عشر عاماً عن مقومات القومية العربية والوحدة العربية، اضحت اليوم في حكم المسلمات والبديهيات، ودخلت في وعي الجماهير من اقصى الوطن العربي الى اقصاه. ولكن هذه الافكار ليست إلا جوانب واجزاء من الفكرة العربية الحديثة لا يجوز فصلها عن الكل الذي ترتبط به هذه الاجزاء ارتباطا عضوياً.  ولئن كان من المسلم به ان تحقيق الفكرة العربية يحتاج الى زمن والى مراحل، فان من غير الجائز ألاَّ نسبق ذلك بوضع التصميم الكلي، وان نخطو في تطبيق المراحل دون ان نستبين الطريق بوضوح، ونعرف انها طريق واحدة يرتبط آخرها بأولها.

 

والذي تهم معرفته اليوم هو هل ستبقى قوميتنا العربية بهذا الشكل العام المجرد الذي يحوي من العاطفة اكثر مما يحوي من الفكر، وتختلط فيه العوامل الايجابية بالعوامل السلبية، ام ان خطورة المعركة التي نخوضها تتطلب ان ننظم عملنا ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق ايجابي مكتمل الجوانب، هو وحده الكفيل بأن يخلق في شعبنا من القوى ما يتكافأ مع متطلبات معركة التحرر والبناء، وأن يوجه هذا الشعب ضمن المبادئ والاساليب التي تقيه الانحراف والانتكاس، وتضمن له تزايد الانسجام مع نفسه ومع المجموعة الانسانية؟

 

كان منطق السياسيين القدامى يتخذ دوماً من معركة التحرر ذريعة لارجاء طرح المشاكل الاساسية التي تصطدم بها نهضة العرب الحديثة، اما منطق الوعي الجديد فيفرض ويحتم ان نعتبر معركتنا مع الاستعمار حافزاً لطرح هذه المشاكل وإيجاد الحلول لها بدلاً من اعتبارها عائقاً.

 

ان هذا التحرك القومي المطبوع بطابع مقاومة الاستعمار والعمل على التحرر منه، ما زال فيه فراغ ونقص، ولا بد من إغنائه وإخصابه بالثورة الاجتماعية والثورة الفكرية. ان قسماً غير قليل من شعبنا العربي ما زال خارج المعركة، وان جوانب عديدة في نفس كل عربي مشترك في النضال ما زالت جامدة صماء لم تحركها المعركة ولم تضرب على أوتارها العميقة.

 

فلا بد من قفزة الى اعماق الجماهير العربية، والى اعماق النفس العربية. ففي المجتمع العربي من انواع الظلم والعسف والاذلال، ومن التفاوت الاقتصادي الفاضح، ومن الكفر بكل قيمة للمواطن، ما يتعارض السكوت عنه والتباطؤ في معالجته مع ما نظهره من استنكار للظلم الاستعماري. وفي حياة الفرد العربي من المآسي والتناقضات التي تمس حريته وكرامته الانسانية ما يعيق تجاوبه الكامل مع انطلاقة أمته، وما يصم هذه الانطلاقة بفقر الروح وسطحية المعنى. واذا بقينا نقيس انفسنا على الاستعمار والمستعمرين، ونسجن نظرتنا في نطاق المقارنة والمفاضلة بيننا وبين المعتدين علينا، فسوف يبقى حقنا رخيصاً وحقيقتنا زائفة ومعركتنا غير اصيلة ولا حاسمة. لقد آن لنا، بعد ان بلغ نضالنا الحد الذي اعاد الينا الثقة بانفسنا وبالمستقبل، ان نقيس انفسنا بالمقاييس الانسانية الايجابية، وان نعطي لثورتنا ثقلها الاقتصادي الواقعي وعمقها الروحي وابعادها التاريخية.

 

هذا هو المستوى الذي ينقذ معظم جهودنا وامكانياتنا من الضياع ويسجم سيرنا مع سير الشعوب الحرة المبدعة .

 

واذا حاول المنطق القديم ان يعترض ويتذرع كعادته بحراجة الظرف ليقول ان هذه الاشياء سابقة لأوانها، نجيب بأننا لا نقصد ان نحمل مرحلتنا الحاضرة اكثر مما تحتمل، ولا ان نشتت الافكار ونبعثر الجهود، ولكننا مع حرصنا على توفية المعركة الحاضرة حقها، نريد أن تتفاعل بذور المستقبل مع الحاضر، وأن ينبئ الحاضر عن ملامح المستقبل ويوصل اليه.

 

12 تشرين الاول 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني