ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


ثورتنا في طريق النضج



أحدثت أزمة القناة في المحيط العربي والمحيط الدولي من الأثر والنتائج أكثر مما كان يمكن أحدا أن يتوقع. ويمكن القول أن هذه هي المرة الأولى التي تبدأ فيها القضية العربية باحتلال مكانها المشروع ضمن قضايا العالم وما فيه من مصالح ومثل. والشيء الجديد على الأخص هو أن القضية العربية بدأت تبرز بشكل إيجابي فاعل، فلم تعد مجرد تعبير عن منطقة من الأراضي فيها ثروات ولها مزايا استراتيجية وعليها كتلة من البشر يمكن تسخيرها أو تعطيل مقاومتها، ولم تعد مجرد موقع لتنافس الدول الكبرى ومساومتها. بل غدت قضية شعب مستيقظ مناضل، شاعر بوحدته القومية وصلاته الإنسانية، وواع لأثر نضاله في تقرير مصير الإنسانية وصنع مستقبلها.

 

إن مصالح عديدة ضخمة تحبس أنفاسها وهي ترقب اليوم نضالنا: مصالح الإستعمار والإستغلال والأوضاع القديمة التي تطمع في الإستمرار وتحاول تثبيت مراكزها واسترداد ما فقدت منها، مصالح المجتمعات الجديدة والشعوب الآسيوية الأفريقية المتحررة حديثاً التي يهمها، لكي تتابع نموها في سلام وطمأنينة، أن يقوى صف الحرية في العالم، وأن يبتعد شبح الإستعمار والحرب عنها وعن جوارها. وفوق المصالح أو وراءها مثل وقيم إنسانية ترقب وترتعش..


إن أزمة القناة وموقف الحكومة البريطانية العدواني من العرب قد مس أكثرية الشعب الإنكليزي وهددها في خبزها وأمنها فوقفت في وجه سياسة العدوان، كما مست ثورة الجزائر من قبل مصالح الطبقة الشعبية في فرنسا وحركت ضمير الأحرار فيها.


وهذا كله قد أدى أيضا إلى وقوف أميركا موقف (المتميز) عن الاستعمار - كما جاء في تصريح وزير خارجيتها مؤخراً، وفي حدود ضيقة متحفظة لا يجوز أن نبالغ فيها.


فهذا التفاعل المتزايد العميق بين نضالنا القومي التحرري وبين مصير الشعوب وحريتها خليق بأن يفتح أمام نضالنا وفكرته وأسلوبه آفاقا جديدة خصبة المعنى. إن حريتنا تبدو لنا اليوم وقد أثقلت بتبعات حرية الشعوب الأخرى، فغدت أكثر نضجاً وعمقاً وواقعية. ولئن كانت هذه الأثقال والتبعات ستضطرنا بعد اليوم أن نراعي في ثورتنا التحررية العوامل التي توسع الفرقة والإنقسام بين الدول الإستعمارية وتؤلب عليها شعوبها بالذات، فإنها ستضطرنا أيضا أن نوجه هذه الثورة وجهة العمق في الداخل وأن نبني تحررنا الخارجي على تحررنا الفكري والإجتماعي والوحدوي، فنفتح في شعبنا العربي من الإمكانيات والقوى الكامنة ما يشكل رصيداً جدياً لاضطلاعنا بالمهمة التي يهيئنا لها تراثنا الحضاري وتجربتنا القاسية في حاضرنا للتخلف والإستعمار، لكي نتخلص من الإستعمار في بلادنا وفي كل مكان، ونسهم في إقامة التعاون والسلام العالميين.

5 تشرين الأول 1956
 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني