ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


لا رجوع ولا تراجع




من الواضح أن الاستعماريين الانكليز والفرنسيين مصممون على العدوان على البلاد العربية واختلاق أية ذريعة لتبرير عدوانهم هذا. ومن الواضح أيضا أن أزمة القنال لم تكن سوى مناسبة لانكشاف مقاصدهم ومخاوفهم من يقظة العرب الحديثة وتصميمهم على ضربها قبل اكتمال نموها، فالمعركة إذن واقعة لا محالة بيننا وبين الإستعمار، وزمن المعركة مفروض من قبل الإستعمار نفسه، أي في هذه الفترة الحاضرة التي يرى فيها الإستعمار أنها وقت مؤات له لأن تهيئة العرب لم تكتمل بعد، ولأن الظرف الدولي يجعل من غير المحتمل أن تتوسع حربه مع العرب إلى حرب عالمية. وهذا يعني أن تأميم مصر لشركة القناة لم يعجل في مجيء المعركة تعجيلاً جوهرياً، بل على العكس عجل في فضح الخطة الإستعمارية أمام العرب وأمام شعوب العالم فضحاً أوقع المستعمرين في الإحراج والتخبط.


ولقد دأبت الدعاية الإستعمارية على محاولة تضليل الرأي العام العربي والعالمي وعرض الأمور بشكل معكوس وإلقاء التبعة على تطرف جمال عبد الناصر، فأظهرته بمظهر المعتدي والطامع في السيطرة والتوسع. وبالرغم من فشل هذه الدعاية الواهية في التأثير على الشعوب الحرة، وعلى الكثرة الساحقة من أفراد الشعب العربي، نرى من واجبنا أن نوضح هذه الناحية، للعدد القليل المخدوع من غير عملاء الأجنبي، وغير ذوي المصالح الضخمة الحليفة لمصالح الإستعمار ومنطقه. إن الاعتداء هو دوما وأبداً من جانب الإستعمار، والعرب كانوا دوماً حتى الآن مدافعين، وحسبنا أن ننظر إلى هذه السنوات الأخيرة والى الحكم الرجعي الذي أقامه نوري السعيد في العراق بدعم الأجانب، إلى حلف بغداد ومحاولة جر الأقطار العربية إليه، لندرك أن ما يسمونه تطرفاً في سياسة جمال عبد الناصر لم يكن إلا جواباً على ذلك الهجوم الإستعماري ودفاعاً عن حرية الأقطار العربية واستقلالها. وليس عبد الناصر في هذا إلا معبراً عن إرادة الشعب العربي بأسره. وليست سياسته الإستقلالية الواضحة الجريئة إلا تعويضاً عن خسارة بعض المناطق والأقطار التي توصل فيها الإستعمار بمساعدة الرجعية العربية إلى تمكين نفوذه ليهدد بذلك سلامة الأقطار المتحررة من هذا النفوذ. فلولا حدة الهجوم الإستعماري في العراق لما ظهر الدفاع الاستقلالي في مصر بتلك الحدة، ولولا تآمر نوري السعيد لما كان في سياسة عبد الناصر ما يسمونه باطلاً بالتطرف. وبإمكاننا أن نعدد الأمثلة فنبين كيف أن تعنت الإستعمار ومكابرته وبطشه الوحشي في بلد كالجزائر وكيف أن تآمر الإستعمار على الأمة العربية بإقامة دولة "إسرائيل" وتسليحها وتشجيعها على العدوان، كل هذا فرض على العرب كيما يدافعوا عن بقائهم، أن يقفوا من الدول الغربية ذلك الموقف النضالي الحاسم. هذا فضلاً عن تدخل الإستعمار وشركائه لعرقلة نهضتنا الداخلية ووحدتنا القومية بدعم الطبقات والأسر الحاكمة الرجعية حتى يظل وطننا العربي خليطاً متنافراً عجيباً يحتفظ بالمجتمعات البدائية إلى جانب مجتمع القرن العشرين، وتبدد في بعض إماراته الهزيلة ثروات كانت تكفي للنهوض بمستوى عشرات الملايين من أفراد شعبنا.


نذكر كل هذا لنخلص إلى القول: إن القضية العربية بكل مآسيها وتناقضاتها، وفي صراعها التاريخي مع الإستعمار والرجعية، هي التي تطرح نفسها من خلال أزمة القناة على بساط البحث العربي والعالمي، وفي الوقت المناسب.


فلئن كان الاستعمار مصمماً - دفاعاً عن مصالحة الجشعة الأثيمة - على إرجاع نهضة العرب عشرات السنين إلى الوراء، فان تصميمه ليس بكاف لكي يتحقق له ما يريد. لقد وصل انبعاثنا أو كاد يصل إلى منتصف طريقه. وما تباطؤ هذا الإنبعاث وتعثره الا نتيجة لتباطؤ تفتح الوعي في قسم غير قليل من أبناء وطننا ولضياع قسم من إمكانات شعبنا وأرضنا لم يستغل بعد أو لا يستغل في الطريق الصحيح، ولأن قضيتنا كلها لم تطرح بعد طرحاً عميقاً شاملاً واضحاً، وبالشكل الجدي الحاسم. فللاستعمار أن يحلم ما شاءت له الأحلام بإرجاع العرب إلى الوراء، أما نحن فمؤمنون بأن الوقت قد حان لاجتياز النصف الآخر من طريق انبعاثنا، ولم يكن معقولاً ولا ممكناً أن تتخذ أزمة تأميم شركة للملاحة هذا الاتساع وهذه الخطورة العالمية لو لم يكن وراءها تاريخ أمة بأسرها في حالة التكوين والإنضاج، ولو لم يكن ذلك مترابطاً ومتوافقاً مع حالة تكوين وإنضاج في تاريخ العالم كله، ولو لم يكن وراء ذلك قضية كبرى، تريد أن تعلن عن نفسها، هي في نفس الوقت قضية العرب وقضية الإنسان.


لا رجوع إلى الوراء إذن، فهذه المعركة التي يفرضها علينا الإستعمار ظلماً وعدواناً كفيلة بأن تفتح الوعي وتفجر ما بقي من قوى شعبنا في حالة الركود والكمون، وأن تحرج العناصر السطحية والنفعية وتضطرها إلى الاختيار، وتضطر الأمة كلها أن تقف الموقف الجدي اللائق بها، كما أنها كفيلة بتحريك الضمير العالمي واضطراره إلى أن يختار.


وإذا كنا مؤمنين بأن دخولنا المعركة لن يعرض نهضتنا لخطر الرجوع إلى الوراء، ما دامت إمكاناتنا وإمكانات الشعوب الحرة في نمو وصعود، وما دامت إمكانات الإستعمار تسير كل ساعة إلى الهبوط والزوال، فحري بنا أن نرفض كل تراجع عن دخول المعركة، إذ أن التراجع هو وحده الذي يحقق للاستعمار مآربه فينا إذ نتخلى عن قضيتنا ونقتل إمكانات المستقبل في أجيالنا. ومهما تكن النتائج المادية لهذه المعركة وخسائرها وأضرارها فان مجرد دخولها يحمل في طياته بذور الحياة والحرية وإمكانية النصر العاجل أو الآجل. أما التراجع فيعني، عدا الخسارة المحققة لكل ما يطمع الاستعمار في انتزاعه منا، ضياعاً للروح ومعنى الحياة.

14 أيلول 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني