ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


مستقبلنا من خلال ألازمة الحاضرة



يعد الإستعماريون الإنكليز والإفرنسيون كل الوسائل والأسلحة المادية والمعنوية للإعتداء على الوطن العربي ومحاولة ضرب النهضة العربية وتأخير سيرها. ومن هذه الأسلحة العتيقة الصدئة التي راحوا ينبشونها من مستودعات دعايتهم المسمومة، هي تهمة الطائفية والعنصرية والإقليمية يلصقونها بحركة التحرر العربي، فهم يصورون انطلاقة مصر في طريق الحرية والكرامة، ورفع مستوى الطبقة الشعبية، والتجاوب مع حركة الوحدة العربية، كما كانوا قبل عام وما زالوا يصورون ثورة الشعب العربي في الجزائر على الذل والظلم وأبشع أنواع الإستعمار، بأن هذه وتلك حركات رجعية يدفعها التعصب الديني تارة، والتعصب العنصري تارة أخرى، وتغذيها الروح الفاشية وأطماع السيطرة والتوسع. ولعل التاريخ لم يعرف حتى الآن مغالطة وتجنياً مفضوحاً على الحقيقة واستهتاراً بالعقل والمنطق بلغ الشأو الذي بلغته دعاية البريطانيين والإفرنسيين عندما يسمون نضال العرب للتحرر من الاستعمار عدوانا واستعماراً.


إن العرب يجتازون مرحلة تاريخية يرافقهم فيها الحق والحرية كأنهما قدر محتوم. وهذا ما يفسر انتصار جميع الشعوب الحرة وجميع أحرار العالم لقضية العرب العادلة في أزمة القناة، وانتصار جميع هذه الشعوب وهؤلاء الأحرار لثورة العرب البطولية المشرفة في الجزائر، دونما حاجة إلى أية دعاية من جانب العرب لقضيتهم. وفي هذه الظاهرة وحدها ما يكفي لدحض الدعاية الاستعمارية المتهافتة.


نقول إن هذا وحده كاف، لو لم يكن لنا إلا موقف واحد هو موقفنا من الإستعمار. ولكن لنا موقفاً آخر أكثر أهمية وأصالة، هو موقفنا من أنفسنا ومستقبلنا.


إننا لا نرضى لامتنا العربية أن يكون اتصالها بالحرية والحق رهناً بمرحلة زمنية هي هذه المرحلة الخطيرة التي نعاني فيها ظلم الإستعمار والإستعباد والعدوان علينا من قبل الطامعين الجشعين، بل إن نظرتنا العميقة إلى هذه المرحلة بالذات هي أنها تجربة جدية وامتحان لقدرتنا ليس على التحرر من الاستعمار فحسب، بل على إعادة النظر في أوضاعنا ومقاييسنا الفكرية والخلقية قبل ابتلائنا بالإستعمار وعلى التبصر الطويل بمستقبلنا ليأتي سليما من شوائب الماضي وتوفير الشروط اللازمة والقواعد المتينة والأرض الصالحة في نضالنا الحاضر لكي يولد فيه وينمو المستقبل الذي نريده.


إن موقفنا من أنفسنا كأمة عربية ذات رسالة لا يعني بوجه من الوجوه أن نقلل من شأن موقفنا من الإستعمار، وألا نعد لمجابهة الإستعمار كل ما ينبغي، إنما هو يعني أن نحاذر ما يمكن أن يتركه الإستعمار في نفوسنا وعقليتنا من أثر وعدوى، وأن نعطي لآلامنا المعنى الإيجابي الذي يزيدنا رسوخاً في الحق وإيمانا بالحرية وانفتاحاً للمحبة.


يهمنا أن نربح المعركة في نضالنا ضد الاستعمار دون أن نفرط بشيء من اتجاهنا القومي الإنساني. بل يهمنا أن نربح المعركة ضد الاستعمار بفضل حرصنا ومحافظتنا على اتجاهنا هذا.


قلنا إن الشروط الموضوعية لمرحلة نضالنا وتحررنا من ظلم الآخرين تجعل مقدراً علينا أن نسير في صف الحرية والحق. ولكننا لن نكتفي بهذا القدر الموضوعي الخارجي المؤقت. إننا نطمع في أن يكون التقاؤنا بالحرية والحق قدراً ذاتياً إراديا لكل مواطن في الوطن العربي، وبالتالي قدراً دائماً لأمتنا، وان نعالج أمراضنا الداخلية والنواقص التي ما تزال تشوب نهضتنا، لا بدافع الخوف من دعايات الإستعمار ودسائس المغرضين، بل بدافع الأمانة لأنفسنا والإيمان بمثلنا التي هي مثل الإنسانية الحرة.

7 أيلول 1956

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني