ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


تهليل القوى الاستعمارية
يدل على وجهة الخطوة الأخيرة



ما أحوجنا بين الحين والأخر إلى تنقية الجو السياسي من الارتجال والمهاترة والاتهام، فنعالج أمورنا الخطيرة بمنطق العقل وروح الأخوة القومية. والواقع انه ما كان لفرد أو جماعة أن يضطلعوا بمهمة الإصلاح والإنقاذ لو لم تكن نقطة انطلاقهم هذا الإيمان العميق الراسخ بان سلامة النوايا الشعبية ورجحان الإمكانيات الايجابية عند الجماهير هما الضمانة الأساسية لتفتح القوى المؤيدة للتقدم وتعاظمها حتى تتغلب على الفساد والمرض آخر الأمر.


والواقع أيضا أن كل خطوة يخطوها الشعب في طريق تحرره من قيود الإستعمار وتغلبه على أوضاعه المتخلفة يجب أن يرافقها ارتفاع مقابل في المقاييس القومية التي يهتدي بها في هذه الطريق الطويلة الوعرة، فمستوى الوطنية والإخلاص في زمن الانتداب، والاحتلال الأجنبي، قبل عشرين عاماً، يوم كان الوصول إلى عقد معاهدة مع فرنسا يمثل أقصى المطالب الوطنية، لا يصح أن يكون مستوى الوطنية والإخلاص الآن عندما يكون همنا تعزيز الإستقلال من الداخل بتقوية جيشنا وتصنيع بلادنا واستثمار ثروات أرضنا وتوحيد أجزاء وطننا العربي على أسس سليمة تكفل لنا إمكانية الدفاع عن وجودنا وقوميتنا أمام خطر "إسرائيل" والقوى الاستعمارية الداعمة لها.


فليس بديهياً إذن ولا ضرورياً أن يكون الذين كانوا يُعتبرون وطنيين قبل عشرين عاماً مثلاً، متلائمين مع شرائط الوطنية كما تقتضيها ظروف المرحلة الحاضرة. وليس من أحد يجهل أن الذين يتزعمون اليوم حملة التشكيك في قدرتنا على التحرر من سيطرة الغرب السياسية والاقتصادية وفي جدوى التعامل مع المعسكر الشرقي لتسليح البلاد وتصنيعها، ويثيرون الشكوك ويضعون العقبات في طريق الاتحاد مع مصر، ويقترحون إدخال العراق بوضعه الحالي المعروف في هذا الاتحاد، كانوا من زعماء الوطنية بمفهومها القديم.


فلو سلمنا بحسن النيات لما أغنانا ذلك شيئاً. والمقاييس القومية الجدية تفرض علينا معرفة الترابط الوثيق بين هذه القضايا كلها. فالتلكؤ في أخذ السلاح ووسائل التصنيع من الدول الشرقية هو إبقاء لسيطرة الغرب وبالتالي تقوية "لإسرائيل" وخطرها. والتلكؤ في تحقيق الاتحاد بين سورية ومصر هو إضعاف للبلدين ولكل السياسة القومية العربية التي يجسدان بها أهداف الأمة العربية، وبالتالي عودة للأحلاف الاستعمارية وتسهيل لقبولها.


وما يصح على "الوطنيين" من أعداء السياسة التحررية يصح أيضا على الذين تبنوا منهم السياسة تبنياً سطحياً دون أن يتراجعوا عن تصرفاتهم وأساليبهم العتيقة التي تعرّض هذه السياسة للنكسة والتراجع في مثل هذه الظرف الدقيق الذي يقف فيه الاستعمار المهزوم الحاقد "وإسرائيل" الباغية بالمرصاد لاستغلال اقل خلخلة واضطراب في صفوفنا.


وما النفع من أن يتعهد هؤلاء للشعب العربي بمقاومة الأحلاف الأجنبية ومؤازرة حركات التحرر والإيمان بالوحدة العربية، ومن أن يتبنوا بحماسة ظاهرة خطوة الاتحاد مع مصر، إذا كان دأبهم داخل سورية محاربة القوى الشعبية التي تقاوم الأحلاف وتناضل في سبيل التحرر وتعمل من أجل الاتحاد، وهل يجدي هذا الحماس شيئاً في منع الدول الاستعمارية "وإسرائيل" وأعداء الاتحاد الداخليين في سورية وغيرها من استغلال كل ذلك لتعطيل خطوة الاتحاد مع مصر؟.


إن إخلاص الشخص لا يعرف بالنية والإعلان فحسب، بل أيضا وعلى الأخص بالقوى التي يعتمد عليها لتحقيق سياسته، وبالأسلوب الذي يتبعه في تحقيق هذه السياسة. والخلص هو الذي يعرف دوماً في كل تصرف يقوم به أي القوى تستفيد من تصرفه؟ حتى لو لم يكن بينه وبينها علاقة أو صلة.


ولقد أصابت بعض الصحف كبد الحقيقة عندما استشهدت بما كتبته صحيفة انكليزية استعمارية عن الحدث الأخير
(2) واستبشار الاستعمار به كواسطة لإرجاع سورية إلى نير الغرب، وكبدء للتآمر على نهضة مصر ووضعها المتحرر.


إذن فكل تجاهل لأثر بعض التصرفات الداخلية في إنعاش قوى الإستعمار وآماله هو لا يقبل فيها عذر، وكل تصرف مثير للاضطراب والانقسام في الوقت الذي تباشر فيه البلاد تحقيق الخطوة الاتحادية هو غفلة تشبه الغدر.


ولا نريد لبلادنا إن تضيع قضيتها بين حسن نيات البعض وتآمر البعض الأخر. إن إيماننا بشعبنا وبإمكانيات الخير في كل فرد من إفراده لا يعني أن نستسلم للثقة العمياء والتفاؤل الرخيص ونقبل بالتصرفات المرتجلة والأساليب العتيقة الخطرة، بل أن هذا الإيمان هو الذي يدفعنا إلى التنبيه والتحذير، والى دعوة الشعب للدفاع عن الخطوات التي بذل في سبيل تحقيقها التضحيات الغالية.


ولنقل مرة أخرى ما كررنا ألف مرة في الماضي: أنه لا ضمانة لما حققه العرب من تحرر وتقدم جزئيين نسبيين، ولا قدرة لهم على دفع الأخطار الخارجية المتجمعة حولهم إلا بشق طريق الوحدة العربية بخطوة الاتحاد بين سورية ومصر، وان هذه الخطوة ـ على بساطتها تلقى المقاومة العنيدة من الاستعمار "وإسرائيل" ومن المصالح والمطامع التي خلقتها التجزئة في بلاد العرب، وانه في سبيل بحقيق هذه الخطوة قبلنا بقناعة عميقة أن نلتقي على صعيد قومي مشترك مع جميع الذين يخلصون لها ولو اختلفنا معهم في كثير من الأمور. وقد سجل الميثاق القومي الحد الأدنى الذي لابد منه لكي تكون السياسة الخارجية والداخلية منسجمة مع مشروع الاتحاد ومساعدة على تحقيقه. وسنتابع عملنا لنساهم مع غيرنا في تحقيق ما تعهدنا به أمام الشعب، مسلحين بقوة هذا الشعب نفسه.

13 تموز 1956


(1) نشر في جريدة "البعث" قي 13 تموز 1956.

(2) تنحية رئيس أركان الجيش الذي رافقه حشود إسرائيلية على حدود سورية ونشاط عملاء حكومة العراق وحلف بغداد.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني