ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


العرب والإتحاد السوفيتي
(على هامش زيارة شبيلوف)



عندما أفكر في السياسة الخارجية
(1) التي بدأت تنتهجها مصر وسورية منذ عام أجد لها أسساً وخطوطاً رسم حزبنا بعضها منذ حوالي عشر سنوات -كسياسة الحياد الإيجابي- ورسم بعضها الآخر قبل ذلك بسنوات -وأعني بها موقف العرب من الإتحاد السوفياتي.


ففي أحاديث حزبية طبعت عام 1944 تحت عنوان "القومية العربية وموقفها من الشيوعية" فرقنا تفريقاً واضحاً بين الشيوعية كنظرية وكحزب قائم في بلادنا ينطلق من نظرة ومقاييس غير نظرة هذه البلاد ومقاييسها القومية، وبين الاتحاد السوفياتي كدولة تقدمية كبرى يمكن أن يكون لها وزن خطير في دعم قضايا الشعوب المظلومة المستعمَرة وفي تعديل طغيان الدول الإستعمارية. فقد كتبنا في نهاية تلك النشرة المطبوعة قبل اثني عشر عاماً ما يلي: "فنحن نفرق بين هذه الدولة (الإتحاد السوفياتي) وبين الحزب الشيوعي كل التفريق، ونعلم أن العرب لا يرون أي موجب لمعاداة دولة عظيمة كروسيا السوفيتية ما تزال منذ نشوء نظامها الجديد تظهر العطف على الشعوب المناضلة في سبيل حريتها واستقلالها. بل أن العرب ليأملون أن تُنتج نوايا الدولة السوفيتية أثرا عملياً طيباً في السياسة الدولية، فتتوثق صداقتهم بها بقدر ما يلمسون من صدق هذه النوايا ومن اتفاقها مع مصلحتهم القومية".


وكتبنا عام 1946 في مقال نشر في جريدة "البعث" العدد(6) الصادر في 10 تموز تحت عنوان "علة الضعف في سياستنا الخارجية" ما يلي: "والسياسة التي لها وزنها الثقيل في الضغط على مقدرات العرب هي بصورة خاصة سياسة الدولتين الانكلوسكسونيتين، بريطانيا والولايات المتحدة. وليس لهذه السياسة ما يتكافأ معها في القوة والتأثير ويشكل معدلاً لخطرها إلا سياسة دولة كبرى تقف للاستعمار البريطاني والأميركي بالمرصاد، هي دولة الاتحاد السوفيتي، وان من أبسط القواعد السياسية ومن أولى الواجبات القومية التي تترتب على حكومات واعية لمصلحة بلادها حرة في تقرير موقفها السياسي الدولي هي أن تستعين على أعدائها، بأعداء أعدائها أو على الأقل أن تهدد بهم وأن تهتم بمكافحة العدو الجاثم على قسم كبير من أراضيها والعدو المعتدي على صميم قوميتها".


هذا ما كنا نراه منذ سنين عديدة، فلننظر إلى ما يجب أن يكون عليه موقفنا القومي على ضوء التطورات والتجارب التي تمت منذ ذلك الحين سواء في العالم أو في داخل بلادنا العربية. أما في العالم، فقد قويت وتعاظمت جبهة الشعوب المتحررة من نير الاستعمار والمتمسكة باستقلال سياستها عن سياسة المعسكرات العالمية. كما تطور الاتحاد السوفييتي نفسه في الإتجاه الذي كنا نتوقعه، وهو التعاون الحر الذي يحترم خصائص الشعوب وظروفها الخاصة ومشروعية إقامتها أو وصولها إلى الاشتراكية بطرقها الخاصة بها. وهذه كلها عوامل مطمئنة ومشجعة للشعب العربي وحكوماته التقدمية لكي يمضوا دون حرج وبمزيد من الثقة والجرأة في سياسة الحياد الايجابي والتعاون مع الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. فلقد غدا اليوم واضحاً أن مصلحة الأمة العربية ومصلحة الإتحاد السوفياتي تلتقيان، ولزمن غير قصير، في أكثر من نقطة حيوية. فالأمة العربية تناضل في سبيل التحرر السياسي والإقتصادي من الإستعمار الغربي. والإتحاد السوفياتي يرى في بقاء احتلال دول الغرب العسكري والإقتصادي للبلاد العربية خطراً مباشراً يهدد وجوده. وهو لذلك، إذ يدعم العرب ويمدهم بالسلاح والعون الإقتصادي لا يطمح إلى أكثر من إغلاق البلاد العربية في وجه الإستعمار الغربي ومنعه من استخدامها مسرحاً لعملياته الحربية ومورداً اقتصادياً لتغذية نفوذه وسيطرته. ولئن كان من واجب العرب أن يكونوا واقعيين فيعرفوا ما هي المصالح التي غيرت سياسة الإتحاد السوفياتي نحوهم وقربته من طريقهم وصداقتهم، فإن من الواقعية أيضا أن يدركوا الفارق الأساسي الذي يقوم بين الدول الاشتراكية من جهة، والدول الرأسمالية من جهة أخرى، وأن من ضمن مصالح الدول الإشتراكية أن تخلص لمبادئ مجتمعاتها القائمة على الحرية والعدالة والسلام والمتنافية مع الإستعمار والإستثمار.

29 حزيران 1956
 

(1) نشر في جريدة "البعث" في 29 حزيران 1956.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني