ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


العلاقة بين الحكومات والشعب العربي



إذا رجعنا بأذهاننا إلى ما قبل عشر سنوات لنلقي نظرة على الوضع الحكومي في الوطن العربي نجد أنه كان ثمة ما يقرب من التناقض بين الشعب والحكومات. فالشعب كان ينظر إلى هذه الحكومات كأنها حكومات أجنبية، وكان يعتبرها بحق مندوبة عن الاستعمار وسياسته ومصالحه، وكان يرتاب في كل عمل تقوم به، ويناصبها العداء.


ولا حاجة أن أستعرض الآن مراحل النضال العربي خلال السنوات العشر الأخيرة، وكيف أن الشعب في أكثر الأقطار العربية استطاع أن يسقط الحكومات، ويفضح تآمرها، ويزيل الهالة التي كانت تحيط بها نفسها. هذا النضال كان يدور حول السياسة الداخلية والعربية والخارجية في آن واحد، فكان الشعب يناضل ضد كبت الحريات في الداخل، وضد تزوير الانتخابات، وضد استغلال الحكم لمصلحة أفراد وطبقة معينة وإهمال مصلحة العدد الأكبر من المواطنين. كما كان الشعب يناضل ضد سياسة التجزئة والتناحر بين الحكام العرب، وانحصارهم في أفق مصالحهم الشخصية، ونظرتهم الإقليمية، وتضحيتهم بمصلحة القضية القومية الكبرى في سبيل منافسات وزعامات ليست في مستوى تلك القضية.


كذلك كان الشعب في مختلف أقطارنا يناضل ضد السياسة المستسلمة للمستعمر.. الضعيفة.. المتآمرة في كثير من الأحيان مع المستعمر نفسه ضد مصلحة الوطن. ومن الطبيعي -بل من البديهي- في شعب كشعبنا أصبح من الواضح جداً أنه يجتاز انبعاث أن تكون معارك نضاله فعالة مؤثرة، وأن تأتي بثمار جدية، وهذا ما بدأ الشعب يلمسه في هذا الوقت الأخير.. وقد حصل تطور كبير في حياة العرب في هذه السنين، وإن كنا اليوم نلاحظ أن الهوة بين الشعب وبين بعض الحكومات -لا كلها- قد ضاقت، ووجد أخيرا شيء من التقارب أو التجاوب بين الشعب وحكوماته، فما ذلك إلا نتيجة ذلك النضال: النضال الواعي الذي رسمت خطوطه القيادات الشعبية الانقلابية والتقدمية في الوطن العربي.


وليس من مواطن واع يخطر بباله أن هذا التغيير في الوضع العربي وفي السياسة العربية الرسمية ناتج عن رغبة الحكام ووطنيتهم وبعد نظرهم، وعن كونهم قادة بالمعنى الصحيح، وإنهم يرسمون الطريق لشعبهم وأمتهم، لأن الواقع يكذب ذلك. كل ما جرى في هذه السنين العشر الأخيرة إذ لم نشأ أن نرجع إلى أبعد من ذلك كان نتيجة ضغط الشعب على الحكومات، وفرض الشعب لإرادته على تلك الحكومات، لا نتيجة وعي الحكومات وإخلاصها وتجاوبها الصادق مع الأماني القومية.
 

وفي شعب حي يجتاز مرحلة انبعاث -كما قلنا- لا تظل الأمور جامدة ساكنة، بل كل شيء يتغير ويتبدل ويتطور نتيجة حيوية الشعب، واندفاعه وتحسسه بحقوقه وبكيانه وبشخصيته الإنسانية وبدوره في التاريخ. لذلك فالحكومات أيضا تتغير.. تتغير بأشخاصها... وتتغير بعقليتها... ويتغير أفقها.. وتتغير علاقاتها مع الشعب.


وقد جرت في هذه السنوات هزات كثيرة وحوادث داخلية وخارجية خطيرة، وتبدل نوع الحكم في بعض الأقطار وقام حكم عسكري في سورية وتغير ثم تجدد وتعاقب ثم تغير، وقام حكم عسكري في مصر. وأهم هذه الهزات القومية -بلا ريب- هي معركة فلسطين، وتآمر الدول الاجنبية على القضية العربية عندما أقروا إقامة دولة للصهيونية في فلسطين.


وهذا الحادث، كما شعر بذلك المناضلون الواعون من أبناء امتنا عند حدوثه -أي منذ ثماني سنوات- وبدأ الشعب والكثرة الساحقة تلمس ذلك تدريجياً... هذا الحادث هو حادث تاريخي كان له وما يزال النصيب الأكبر في تحريك الكيان العربي، وفي كشف زيف الأوضاع التي كان عليها العرب، وفي تبديل أساسي عميق في نفوس العرب وعقليتهم، خطا بهم عشرات السنين إلى الأمام. وبكلمة مختصرة، إن كارثة فلسطين أدخلت العرب في العصر الحديث.


فماذا يمكن أن نستنتج من هذه النظرة في التبدل الذي حصل خلال هذه السنوات؟ هل نخرج بنتيجة متفائلة أو على العكس؟.. وإذا خرجنا بنتيجة متفائلة كيف يجب أن نفهم التفاؤل.. ما دمنا قررنا أن تطوراً كبيراً قد حدث.. قد تم.. وأن تكوين الحكومات في بعض الأقطار العربية قد تبدل، وأن عقلية الحكومات قد تغيرت، واقتربت نسبياً من حاجات الشعب وأمانيه.. فمن الطبيعي أن نتفاءل.. ولكن كيف يجب أن نتفاءل؟.. هل نسلم قيادنا بعد اليوم للحكومات، ونطمئن اطمئنانا أعمى، ونسير في ركابها مؤيدين مصفقين؟ أم بعد اليوم نستمر كما كنا في النضال، والضغط، ورسم الأهداف القومية الصحيحة، البعيدة، لكي تستمر هذه الحكومات في الاستجابة لمطالب الشعب، وتحسب حساباً لإرادته، وتزداد اقتراباً منه، ولكي نصل إلى اليوم الذي تصبح فيه الحكومات شعبية.. من صميم الشعب.. وثورية إنقلابية تضع الأهداف القومية موضع التنفيذ؟..


لاشك أن التفاؤل الذي يجوز لنا هو هذا الأخير مشروطاً باستمرار النضال، وباستمرار الضغط، وبرفع مستوى النضال. إذ أن نضالنا في السنين السابقة كان يراعي الإمكانيات الراهنة. وقد ازدادت هذه الإمكانيات زيادة كبرى، فمن الواجب أن تزداد مطالبنا علواً وبعداً وان يرتفع مستواها بنسبة ازدياد إمكانياتنا القومية الشعبية.

 

والضغط الشعبي لا يضير الحكومات عندما تكون مخلصة، إذ أنه قوتها الوحيدة.. وقوتها الكبرى. وكل حكومة تبقى مذعورة من الضغط، مرتابة فيه، تفصح في ذعرها وفي ارتيابها عن بعدها عن الشعب وعن نقص الصدق في سياستها وفي مماشاتها للشعب.


فكلنا يدرك بأن مجال الحكام هو أضيق من مجال المناضلين. الحكام هم في ميدان التنفيذ يراعون اعتبارات عدة لذلك لابد في هذه المرحلة أن يقصروا عن المطالب الشعبية الكاملة، فإذا سكت الشعب عن المطالبة، فان الحكومات تعجز حتى عن تحقيق مهمات هذه المرحلة التي ليست هي كل شيء، وليست إلا جزءاً من مراحلنا وأهدافنا القومية.


هذا ما كنا نقوله منذ سنين طويلة، ولم يكن الرسميون قادرين أن يستوعبوا ذلك أو يعترفوا بصحة هذا المنطق وهذا السير. كنا نقول دوماً منذ نشأة هذا الحزب قبل خمسة عشر عاماً -ومنذ المعارك النضالية الأولى، بأن الأمة العربية في هذا العصر ما زالت في حالة الإمكان، لم تتحقق بعد إلا تحققاً جزئياً، وكل قواها أو أكثر قواها وإمكانياتها ما زالت خبيئة مخزونة، ومن الواجب أن نراهن على هذه الإمكانيات الخبيئة، وأن نناضل من أجل تفجيرها والكشف عنها وتحقيقها، وبالتالي أن تكون سياستنا سياسة المستقبل، وأن ترمي دوماً إلى المستقبل، وأن نعتبر الحاضر وسيلة ومرحلة يجب أن تسخر لهذا المستقبل الغني بالقوى والإمكانيات وينتج من ذلك أن الفرق بين الشعب الذي هو مستودع هذه الإمكانيات وبين الحكومات التي تعالج الظرف الحاضر الراهن يجب أن يبقى بينهما فرق كبير، وأن تتحاشى الحكومات -إذا كان فيها ذرة من الإخلاص- إعتبار نفسها صورة صادقة عن الشعب لأنها بذلك تفقر الشعب إلى أبعد حدود الإفقار. لأن إمكانيات الحكومات ضئيلة وإمكانيات الشعب وفيرة.


واليوم -أيها الإخوان- ما زلنا نصطدم ببقايا تلك العقلية القديمة. ولئن تبدلت عقلية الحكام بعض الشيء فإنها لم تتبدل تبدلاً كلياً تاماً. وما زالت هناك رغبة عند الحكام في أن يعتبروا أنفسهم قادة للشعب، وأن يعتبروا أنفسهم ممثلين لحقيقة الإمكانيات الشعبية، وأن يجيزوا لأنفسهم بالتالي منع الضغط الشعبي -إذ لا مبرر للضغط الشعبي عندما تكون الحكومات المعّبر الصادق عن حاجات الشعب وإمكانياته. ولعلكم لاحظتم في البيان الذي صدر في القاهرة عن اجتماع الرؤساء الثلاثة روحاً تتأرجح بين الماضي والمستقبل، فبينما يعترف هؤلاء الرؤساء بفضل الضغط الشعبي -لم يقولوا الضغط الشعبي وإنما قالوا الوعي.. الوعي العربي.. وعي الرأي العام العربي- في نفس الوقت الذي اعترفوا فيه بفضل هذا الوعي حاولوا أن يظهروا بأنهم هم الذين خلقوه وأوجدوه، والصحيح أنه إنما خلق أثناء محاربة الشعب لهم ومقاومته لسياستهم ولعقليتهم الجامدة، ولنفسيتهم ولمكابرتهم، وفي بعض الأحيان وجد هذا الوعي في معزل عنهم تماماً ولم يكن لهم في خلقه أثر سلبي أو ايجابي.


ولا بد من التفريق أيضا بين هذا النوع من الحكومات الذي بدأ يساير الإتجاه الشعبي -فليست كل الحكومات السائرة اليوم في الإتجاه التحرري.. ليست كلها سواء..


وهنا نتعرض لسؤال طرح عن سياسة مصر وجمال عبد الناصر. فأعتقد أنه من الواضح أن سياسة العسكريين في مصر وخاصة زعيم هذه الفئة الرئيس جمال عبد الناصر سياسة لم تأت فقط من الضغط الشعبي وإنما فيها عنصر عفوي وصادق، وفيها تجاوب ذاتي مع حاجات الشعب وأماني الشعب، وبذلك نفرقها عن الحكومات الأخرى التي تسير في ركاب سياسة مصر، والتي إنما تسير مرغمة، وان هذه السياسة لا تنبع من نفسها، من أعماق نفسها، وإنما بضغط الظروف وجدت من المناسب أن تساير هذه السياسة. إذن من الإنصاف ومن مصلحة القضية القومية أن نتبين ونميز هذه الفروق. وهنا سأتوقف عند موضوع حكومة مصر لأعود إلى إكمال الجواب على السؤال الأول -إذ أن الموضوعات متشابكة- لأبين لكم كيف أن سياسة الحاكمين في مصر اليوم إن لم يجز أن تسمى سياسة إنقلابية كما نفهمها ويفهمها الشعب العربي فلا يجوز أيضا أن نساويها بسياسة الحكومات الأخرى فهي أرقى وأصدق من سياسة الحكومات الأخرى وإن كانت لم تبلغ مستوى السياسة الانقلابية.


قلت لكم أن أضخم حدث في حياة العرب في العصر الحديث هو كارثة فلسطين، وتآمر الدول الأجنبية على قضيتنا.. على حريتنا بصورة خاصة.. لقد كانت إقامة "إسرائيل" في قلب وطننا كارثة هزت بعنف وعمق بنياننا السياسي والاجتماعي والنفسي في آن واحد. وأصابت هذه الهزة قطراً عربياً كبيراً كانت السياسة الإستعمارية والسياسة الرجعية تعزلانه عن بقية الأقطار العربية، ولكن عنف الصدمة تخطىّ تلك الحواجز المصطنعة التي أقامها المستعمر وأقامها السياسيون الرجعيون في مصر. وبدأ الشعب العربي في مصر يشعر بوحدة قضيته مع أبناء العروبة كلهم، ونتج عن ذلك، الإنقلاب العسكري في مصر، على أثر الانقلابات العسكرية في سورية، وبما أنه لم يكن في مصر حركة شعبية إنقلابية تقوم على أساس عربي واضح كحركتنا، ولها نظرة شاملة تتناول القضية العربية من مختلف نواحيها الاقتصادية والتحررية والتوحيدية فكان ذلك مساعداً على أن يظهر في الجيش المصري شباب حاربوا في فلسطين، وعانوا بالتجربة الحية معركة العروبة في فلسطين، وعانوا في تلك المعركة بالتجربة المباشرة القاسية فساد الحكم وتآمر الحكام مع الاستعمار على قضية الشعب، فساعد ذلك على أن يحمل هؤلاء الرجال رسالة إلى الشعب العربي في مصر أولاً وإلى بقية أقطاره ثانياً. فكانوا استجابة لرغبات الشعب ولآلامه، وهم لا يشبهون بحال من الأحوال الحركات العسكرية التي ظهرت في سورية، لأنها كانت مشبوهة منذ البدء، ولم يكن لوجودها مبرر، ما دامت الحركة الانقلابية الحية قد وجدت في هذا القطر والشعب سائر وراءها، ويتعاظم عدده ونضاله في طريقها.. كانت الحركات العسكرية في سوريا متهمة بأنها أتت لتقاوم الحركة الشعبية الإنقلابية وتقطع الطريق عليها لا لتحقق حكم الشعب. أما في مصر فلم يكن ثمة مثل هذه الحركة وكانت عناصر الإخلاص والسلامة متوافرة أمام تلك المجموعة من ضباط الجيش لكي يحسنوا الإصغاء إلى أماني الشعب ويستجيبوا لها بأمانة، وهكذا رأيناهم يبدؤون أعمالا فذة، وينقذون مصر من حكم الملك ومن الملكية وفسادها، وينقون الجو، ويبادرون إلى تلبية أمس الحاجات الشعبية.. إلى العناية بمستوى العدد الأكبر من أبناء الشعب فوزعوا الأراضي وشقوا طريقاً إلى الإصلاح الاجتماعي، ثم بعد تردد مدة من الزمن أدركوا صلتهم بالحركة العربية العامة، وأدركوا موضعهم الخطير من هذه الحركة، فتجرؤوا وساروا في اتجاه عربي وحدوي تحرري ـ لا نقول انه غاية الغايات، ولا نقول أنه الإتجاه الإنقلابي الذي نسعى إليه، ولكنه بلا شك خطوة كبيرة على طريق اتجاهنا..


12 نيسان 1956
 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني