ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


نريد أهدافاً ايجابية



لم يعد احد
(1)، بعد نكبة فلسطين، يخدع بالمظاهر التي لا ترتكز على الحقائق، ولم يعد العدد وكثرته، بعد انهزام الدول العربية السبع أمام عصابات اليهود، ليغني عن الكيفية والنوع. فكل اتحاد يزمع العرب تحقيقه، بعد التجارب والمحن القاسية التي مروا بها، يجب أن تتوافر فيه عناصر الحياة، أن تراعى فيه الكيفية لا العدد والشكل والمساحة. وبكلمة موجزة، يجب أن يقوم على اتحاد قوى الشعب في سبيل زيادة الإنتاج وزيادة قوى الدفاع، ورفع مستوى الوعي السياسي والقومي الذي هو بمثابة الإنتاج الروحي والدفاع الروحي، إلى جانب الإنتاج المادي والدفاع العسكري.


وكما أن الاتحاد يكون وهماً خداعاً إذا اقتصر على الأشكال والمظاهر ولم يحمل في جوهره معنى ايجابياً خلاقا يصهر النفوس ويطلق القوى الكامنة، ويجدد النظم والأساليب البالية، فكذلك "الجمهورية" التي تريد بعض الفئات أن تظهرها اليوم كنقيض للاتحاد، والتي هي في الواقع متممة له ومساعدة عليه، يجب أن تحوي ايضاً هذا المعنى الايجابي.


قد يكون النظام الجمهوري بالنسبة إلى الكثرة من السياسيين شيئاً يسير القيمة والاهمية تسهل التضحية به في سبيل أي نظام آخر ولكن هذه الكثرة غير الواعية هي التي لا قيمة لرأيها في نظرنا، إذ المعول على الطليعة القومية التي تمثل النضال الشعبي الصاعد في بلاد العرب، والجمهورية في نظر هذه الطليعة تمثل أكثر من نظام للحكم، ففيها معني التقدم، وضمان الحرية، والتمهيد لحكم الشعب، وللمجتمع الاشتراكي ولا عبرة للمغالطات التي تدعي بأن النظام الملكي إذا كان دستوريا مقيدا يستطيع أن يؤدي هذه الأغراض كلها. فبلادنا ليست شبيهة ببلاد الانكليز الذين توصلوا خلال قرون إلى التوفيق بين تحرر الشعب وبقاء الملكية والعرب اليوم في مفترق الطرق، فإما تحرر جذري عميق حاسم، وإما رجعة وفناء.


فالنظام الجمهوري الذي أنشئ في سوريا مصادفة واتفاقاً، قد جاء تلبية صادقة لحاجة عميقة عند الشعب العربي، وشرطاً ضرورياً من شروط النهضة الحديثة، لذلك كان بقاؤه في سوريا شيئاً ضرورياً وحيويا للعرب جميعاً.


إلا ان الوقوف عند الأشكال والمظاهر، وتجاهل المعاني الايجابية التي ينطوي عليها هذا النظام، والتنكر لها، ذلك هو الخطرالحقيقي الذي يهدد الجمهورية أكثر مما تهددها مؤامرات الملكيين والاستعماريين.


ولئن كان اليوم في البلاد عدد غير قليل يقف وقفة اللامبالاة من الصراع القائم بين فكرة الجمهورية وفكرة الملكية، فجريرة ذلك تقع على اولئك الذين شوهوا الجمهورية ومسخوها طوال السنوات السبع الأخيرة. وإذا تعرضت الجمهورية في غد للخطر، فالمسؤولية تقع على "أبطالها" الجدد الزائفين الذين قبلوا اليوم ان يقرنوها بالإقطاعية والرجعية والخيانة، فتركوا الشعب، القوة الايجابية الحقيقية، ولجأوا إلى الدول الاستعمارية وعملائها، ليجعلوا من هذا النظام الذي أوجد لتحرير الشعب وضمان رخائه، ستاراً لاستعباد الشعب وضعفه، بما سيدفعونه لتلك الدول من امتيازات وتأمين مصالح وإرجاع نفوذ بائد!

4كانون الثاني1950

(1) نشر في جريدة "البعث" في 4 كانون الثاني 1950.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني