ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


للأمة العربية عمل شعبي واحد

 

أيها الإخوان (1):

في هذا الاجتماع الذي نعقده اليوم لتكريم وفد كريم لقطر عربي شقيق، يحلو لي إن أبدا كلامي بشعور شخصي شعرت به دوماً في نفسي، وهو أنني لا أتصور قوميتي العربية تصوراً واضحاُ قوياُ إلا عندما اتصل بعرب بعيدين عن سورية، أو أشارك في العمل لقضية قطر عربي بعيد. في مثل هذه الحالات تتجسم في نفسي هذه الصلة القومية العميقة التي تفوق الوصف، ويمتلئ طريق العمل أمامي بالنور، وتبدو الأهداف واضحة جلية. هذا ما شعرت به قبل ست سنوات عندما أعلن العراق حربه الجريئة على بريطانيا، وقبل ثماني عشرة سنة عندما جمعتنا أيام الدراسة والنضال بإخواننا عرب المغرب في أوروبا، ومنذ عهد قريب عندما اخذ مناضلو المغرب العربي يفدون علينا في هذه البلاد، وفي هذه الأشهر الأخيرة عندما وردت إلينا رسائل من أحرار اليمن المضطهدين يؤيدون فيها حركة البعث العربي ويذكرون لصحيفة "البعث" اهتمامها بقضية الشعب العربي في اليمن، وفي هذه الأيام الأخيرة التي سنحت فيها لنا الفرصة بأن نلقى إخواننا الآتين من السودان، هذا القطر العربي العزيز الذي كادت صلتنا به تنقطع مع الأيام، بالرغم من انه موطن شعب عربي أصيل وقبائل عربية معروفة.

إنني في مثل هذه الحالات اتجه بفكري وقلبي إلى الله احمده واشكره على أن خلقنا عرباً وجعل الوطن العربي في مثل هذا الاتساع، فجعل بذلك النفس العربية واسعة رحبة الأرجاء.

أيها الإخوان:

إن وفد السودان يأتي ليشرح لإخوانه العرب شكاة طالما عرفها العرب وشكوا منها ليس في السودان فحسب، بل في أكثر أقطارهم، وخاصة في سوريا ولبنان ألا وهي المهزلة الأزلية التي يصطنعها المستعمر اللئيم، انكليزياً كان أم أفرنسيا أو ايطالياً؟ مهزلة التجزئة والانفصال فهل نحن غرباء عن هذه المآسي التي ظلت سورية إلى الأمس القريب مسرحا لها، وهل نحن حقاً بحاجة إلى الاطلاع على أكاذيب الاستعمار وأراجيفه، وهو الذي يختلق أقليات وهمية يدعي الغيرة عليها، ويصطنع أقاليم يتظاهر بالحرص على استقلالها ونمو شخصيتها؟

إن كلمتنا للاستعمار هي واحدة لم تتغير منذ اليوم الأول الذي دنست فيه أقدامه أرضنا وعكرت أكاذيبه صفاء جوّنا: إننا لا نعرف للاستعمار دافعاً غير دافع النهم والجشع، ولا نعرف لاحتلاله صفة غير صفة العدوان والإجرام. ولم نصدق في يوم من الأيام أن الاستعمار، وهو المدفوع بالشهوات الحقيرة، المشحون بأساليب المكر والعدوان، يمكن أن يكون أكثر منا غيرة على أنفسنا، وحرصاً على حرية بعض أجزاء وطننا وبعض فئات شعبنا. انه مفضوح في عدوانه وروغانه، فلنكن صرحاء في جهاده ومحاربته.

تلك كلمتنا للاستعمار: أما كلمتنا لأنفسنا فهي: إن الحركة العربية الواعية لا يمكن إن تتساهل في أمر الوحدة القومية أو تسكت عن مزاعم الانفصال، سواء أكان ذلك في مصر والسودان، أم في سورية ولبنان. أما ما يتذرع به أعوان الأجنبي القلائل وبعض الإفراد والفئات المخدوعة بحججهم من دفاع عن الحرية، وخوف من طغيان قطر على آخر وفئة على أخرى فجوابنا عليه هو: إن للعرب حرية كبرى، هي مصدر وضمان لجميع الحريات الجزئية: الحرية القومية التي تضمن لهم خلاصهم من الاستعباد، وإنقاذ ثروات أرضهم من سلب الأجنبي، وإنقاذ عقولهم ومواهبهم من الخنق والتشويه، الحرية التي تسمح لهم باستلام مصيرهم بأيديهم من جديد.

ولكن هذه الحرية القومية الكبرى لن تتحقق ما دام الشعب العربي بعيداً عن استلام مقدراته بيده، إذ الواقع إن الشعب بعيد عن قضيته حتى في الأجزاء التي استقلت وتخلصت كل التخلص أو بعضه من نير الاستعمار. فالطبقة الحاكمة في البلاد العربية هي بحكم تركيبها وتربيتها ومصالحها عاجزة ـ إن لم نقل كارهة ـ عن تحقيق التحرر القومي التام، وتحقيق الوحدة بين أجزاء ارض العرب، لأنها عاجزة عن تحقيق الوحدة بين قلوب العرب.

إزاء هذا الواقع المؤسف المؤلم ليس أمام الشعب العربي إلا طريق واحد، انه لن ينتظر من الحكومات والفئات الحاكمة ان تفسح له مجال العمل، بل عليه إن يدخله، ومتى دخل الشعب خرجت الفئات الاستغلالية. ثم شيء واحد يقوي حق العرب في تدعيم نضالهم في الطريق الشعبي الحر، فتكون هكذا كل خطوة من خطى هذا النضال، بإضعافها لحكم الاستئثار والاستغلال مضعفة لحجج الناقمين وذرائع المنكمشين الانفصاليين، كما تكون مقوية لارتباط المواطنين العرب بقضيتهم. وكاشفة عن قوى الشعب العربي الحقيقية التي ما يزال أكثرها دفيناً مهدوراً والتي هي وحدها قادرة على اكتساح قوى الاستعمار الأجنبي الغاشم، وتطهير الأرض العربية المقدسة من ادرانه وآثامه. هكذا تعود الأشياء إلى طبيعتها وتظهر على حقيقتها ويقتنع العرب والعالم بأن في الكيان الحي السليم، الذي هو كيان الأمة العربية ويتحقق ماعز تحقيقه على الكثيرين، إلا وهو: ائتلاف حرية الفرد والجماعة مع وحدة الأمة، وانسجام حق المواطن مع قوة الدولة.

إن التعبير العملي عن هذه الفكرة هو تشكيل حزب عربي واحد في اتجاهه وقيادته وخططه في جميع الأقطار العربية، لأن الأمة العربية غدت في أمس الحاجة إليه لكي تظهر قواها وإمكانياتها كاملة.

وان هذه القوة والإمكانيات كفيلة ليس بتحرير العرب من كل استعمار فحسب بل بأن تنشي وتقدّم للعالم حضارة عربية جديدة.

 

11آذار1947

(1) نشر في جريدة "البعث" في 11 آذار 1947.

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني