ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الثاني


كلمة في افتتاح المؤتمر التأسيسي

 

 

لم يلاق حزب (1) من الاحزاب العربية ما لاقاه "البعث العربي" من صعوبة النشأة والبداية. فقد مضت علية ثلاث سنوات وعدد أعضائه دون العشرة ثم تلتها السنوات الاربع الاخيرة. فكان نموه في نصفها الاول، أي في السنتين الاخيرتين من الحرب لايزال بطيئاً. ولم ينتعش الحزب بعض الانتعاش ويستمتع ببعض الحرية في العمل الا في العامين الاخيرين. ابتداء من اشتداد الازمة بين البلاد والافرنسيين عندئذ فرض الحزب نفسه على الحكومة فرضاً. لأن الشعب أخذ ينظر الى وجود "البعث العربي" كضرورة وطنية. فاتخذ الحزب لنفسه نادياً. وبعد عام من ذلك سمح له باصدار صحيفة. ان نوع الصعوبة التي يلقاها حزبنا مختلف عما هو معروف عن صعوبات العمل السياسي، فهي ليست صعوبة التضيق على الحرية وتحمل الاضطهاد والسجن والاعتقال_وان كنا قد عرفنا شيئاً من هذا كله_وهي ليست كذلك ما يلقاه المناضلون من آلام الحرمان والاعباء، ولكنها صعوبة الصدق. صدق التفكير وصدق العمل، في مجتمع اختلطت فيه المفاهيم والتبست القيم. وليس أدل على وجود هذا الالتباس وذلك الاختلاط من أن يكون حزبنا الذي يدعو إلى وحدة العرب وحريتهم، ويعمل في سبيل رقيهم ونهضتهم، مقاوماً في بلاد أعدت لتكون أخصب تربة لنمو الحركات العربية السليمة، لولا ابتلاؤها بطبقة زيفت حقيقتها، وباعدت بينها وبين مهمتها الاساسية.

لقد كانت العزلة أكبر تجربة مر بها "البعث العربي" في سنوات البداية الشاقة واخذ الآن يخرج منها ظافراً سليماً. هذه العزلة التي كان عليه ان يتحملها ويريدها ويدافع عنها مهما يطل أجلها وتشتد قسوتها. لم يكن ثمة سبب او مبرر ظاهري لانفصالنا عن الحركات التي لا تختلف عن حركتنا في العنوان والاهداف العامة الكبرى. ولكن صعوبة التمييز بين نوعين من الحركات المتشابهة في العنوان المتباينة في الجوهر، هي التي ضمنت لحزبنا ان يتألف من هذا النوع المتين المتفوق من الرجال الذين لم يقدروا على ذلك التمييز العسير والتفريق الدقيق الا لأنهم اختصوا بقدر كبير من سلامة الطبع ونفاذ النظر وحرارة الايمان بأمتهم، وصدق الغيرة على مصلحتها. هؤلاء الرجال الذين جاءوا الى "البعث العربي" كانوا مؤهلين لأن يدركوا ان مشكلة العرب لم تعد في الاختلاف على ارادة الاستقلال والوحدة والنهضة بل على سلوك الطريق المؤدي الى بلوغ هذه الاهداف. اي على نوع عقلية الفئة التي ترسم للامة طريقها، وتتقدمها في هذه الطريق وعلى مدى تجردها وتحررها من كل ما يعوقها عن متابعة السير والاستقامة فيه. وبكلمة مختصرة كان رجال "البعث العربي" مؤهلين لأن يدركوا ان مشكلة العرب الاساسية هي مشكلة القيادة القومية.

لم يكتف حزبنا بأن هيأ الجو الروحي والفكري والوسط العملي لظهور وتنشئة رجال القيادة الجديدة بل بذل جهداً كبيراً لمقاومة ضغط البيئة القديمة وبرهن على وعي وصلابة برفضه الاندماج مع الهيئات الاخرى ذات الافكار والاساليب المرتجلة والتركيب المصطنع، كما برهن على حكمة وبعد نظر بايصاده بابه في وجه الذين لم يقتنع بصدق تبنيهم لفكرته من الانتهازيين والوصوليين.

واليوم يستطيع الحزب أن يجني ثمار صبره وصلابته وحكمته. لأنه توصل بعدده القليل ووسائله اليسيرة الى أن يحتل المكان المرموق في نظر الشعب العربي. فهذه القوة المعنوية التي يملكها والتي هي ليست سوى التعبير عن قوة فكرته وقدرتها على صهر معتنقيها، ستسمح له بعد الآن ان يوسع نطاق دعوته، ويخوض ميدان العمل الشعبي الفسيح محققاً بذلك صفة من أثمن الصفات التي يتميز بها ويحرص عليها. ان شدة تشاؤمنا من القيادة القديمة التي لاتزال إلى الآن مسيطرة على مقدرات العرب في الحكومات والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ليعصف بها عظم تفاؤلنا بشعبنا العربي وطيب عنصره وخصب حيويته وشدة قابليته للتحرر والانبعاث. نقول ذلك ليس لمجرد اعتقادنا بأن التفاؤل بالشعب هو الشرط الاساسي الذي لاغنى عنه لكل من يتقدم للعمل القومي الجدي بل أيضاً وعلى الاخص لاننا لمسنا كما يستطيع كل ذي فكر حر وكل ذي شعور سليم أن يلمس ان الشعب ما برح منذ يقظتنا الحديثة يقدم البرهان على استعداده الكبير وامكانيانه الغنية التي عجزت القيادة المشغولة بمصالحها وأنانيتها عن إلافادة منها لمصلحة القضية القومية، بل كثيراً ما حاولت خنقها والحيلولة دون ظهورها.

لذلك كانت فكرتنا منذ ولادتها فكرة شعبية تعتبر الشعب أساسا وأصلا في بناء الامة وفي حمل القضية القومية وتوجيهها وتنظيمها. ايها الاخوان! لقد انبثقت حركة البعث العربي عن دوافع ثلاثة وهي:

1- يقيننا بحاجة الامة إلى الانقلاب.

2- شعورنا بأن الوقت قد حان للشروع في تحقيق هذا الانقلاب.

3- ايماننا بأن الجيل الجديد هو الاداة المهيأة لهذا التحقيق.

 

1- ان في الامة العربية حاجة حيوية قاهرة الى تحقيق انقلاب عميق مبدع شامل يبعث فيها طاقتها الروحية الاصيلة الكاملة التي أهلتها في الماضي لخلق أعظم الحضارات والتي تؤهلها اليوم لبناء مستقبل يكمل ماضيها ويتجاوزه ويتفوق عليه. والحاجة عندما تكون بارزة هذا البروز ملحة هذا الالحاح طاغية هذا الطغيان، انما تعني في الوقت نفسه القدرة، اي ان في الامة العربية القدرة اللازمة لتحقيق ما تحتاجه وتنزع اليه.

وينبغي ان نقرر هنا بأنه ليس بين الهيئات العاملة اتفاق على ضرورة الانقلاب ولا اتفاق على غايته ومرماه، ذلك لأن الرأي السائد بين هذه الهيئات هو القول بالتطور وهذا يعني ان المجتمع سليم الاسس ولكنه مقصر عن غيره ويحتاج فقط الى اصلاح الادارة التنفيذية والاستسلام إلى الزمن الذي هو كفيل بتحقيق الاصلاح المنشود.

ان هذا الموقف خاطىء لأنه يتجاهل حقيقتين ناصعتين:

اولاً- ان وضع الامة في ذاته لو كان سليماً لكان الاصلاح ممكناً دوماً ولما ازدادت عمقاً يوماً بعد يوم الهوة التي تفصل بين هذا الواقع الفاسد المنحدر وبين امكان الاصلاح.

ثانياً- هذا الموقف الخاطىء يضع الامة العربية في وضع غير طبيعي بالنسبة للعالم. اذ ان الاكتفاء بالاصلاحات الجزئية البطيئة في هذه الغمرة الدافقة التي تسيطر على العالم الخارجي وتحمله على التقدم السريع والانقلابات العميقة من شانها ان تضعنا في آخر القافلة البشرية وان تزيد الفارق بيننا وبين العالم بدلاً من أن تنقصه.

والتطور انما هو القناع الذي تتوارى خلفه الهيئات المحافظة ذات المصالح الكبرى التي تعيش على حساب الفساد الحاضر وتستر به تخوفها من الانقلاب الذي يهدد مصالحها واستغلالها.

 

2- يؤمن "البعث العربي" بأن الوقت قد حان للشروع بتحقيق هذا الانقلاب لأن التأجيل يضعف من امكانيات الانقلاب ويجعل توحيد الجهود القائمة متعذراً يوماً بعد يوم لأن المصالح الاقليمية والتمايز الطبقي ومؤامرات الاستغلال والاستثمار والتكتل الرجعي آخذة في الرسوخ والتقوَي إلى حد يزيد في انعزال الشعب عن الحركة القومية ويضعف من ايمانه بمثلها العليا ويقضي على بذور الانقلاب بالذبول والانكماش.

 

3- ان الجيل الذي شعر بهذه الحاجة في أمته شعوراً أسبق وأعمق وأقوى وأكثر جدية من غيره هو هذا الجيل العربي الجديد الذي استكمل شروطه وتهيأ تماماً لتحقيق الانقلاب المنشود. هذا الجيل الثوري يشق طريقه بالنضال ويلتقي بالشعب التقاء عميقاً ويقف واياه جنباً إلى جنب في صف المعارضة للاوضاع القائمة والنضال من أجل أهدافه الكبرى في الحرية والوحدة والنهضة.

5 نيسان 1947

(1) نشر في جريدة "البعث" في 5 نيسان 1947

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الثاني