ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


موقفنا من النظرية الشيوعية

 

 

ان قوة النظرية الشيوعية في البلاد العربية ناتجة عن ضعف الفكر بصورة عامة، وعن ضعف الفكرة القومية بصورة خاصة.

 

وسنتناول فيما يلي بعض النقاط التي تتعارض فيها الشيوعية مع الفكرة العربية. ونحن نعتقد ان تأثيرات النظرية الشيوعية ستبقى سلبية على القومية العربية، ما لم تعبر هذه القومية عن نفسها بنظرية علمية متماسكة شاملة، قابلة لان تتحقق في العمل المنظم.

 

1- الشيوعية غربية

 

الشيوعية هي وليدة الفكر الأوربي والأوضاع الأوروبية الحديثة. وكل الذين تناولوا الماركسية بالشرح والتصحيح أرجعوها إلى أصولها الأوروبية الصرفة، فهي في نظرهم تمثل النزعة "الانسانية" التي ظهرت في اوروبا في القرن السادس عشر كبعث وتجديد لروح الحضارة الاغريقية اللاتينية. وهي وليدة القرن الثامن عشر وفلسفته العقلانية المجردة التي تلخصت في مبادئ الثورة الافرنسية. وهي اخيرا نتيجة لتقدم الصناعة العجيب في القرن الماضي ولما رافقه من نظريات اقتصادية ومذاهب اجتماعية.

 

فالشيوعية تتصل بألمانيا بواسطة فلسفة "هيجل" وبفرنسا بواسطة مبادئ الثورة والمذاهب الاشتراكية التي تفرعت عنها، وبانكلترا بواسطة الثورة الصناعية وما انتجته من نظريات في الاقتصاد. اما في روسيا فللشيوعية صلة بروحها القومية الخالصة، يعرف ذلك من اطلع على كتابات تولستوي ودوستويفسكي. والحق ان الشيوعية في روسيا هي مزيج من التصوف الروسي والعلم الاوروبي.

 

2- الشيوعية رسالة تنفي الرسالة العربية الخالدة

 

ان الشيوعيين اذ يدعون العرب الى نظريتهم، يتجاهلون حقيقتين:

 

1 – ان للامة العربية تاريخا مستقلا عن التاريخ الغربي الاوروبي وان النظريات والانظمة المنبعثة من حضارة الغرب واوضاعه لا  تلبي حاجات البيئة العربية ولا تلقى فيها تقبلا.

 

2- ان الامة العربية ليست كأية امة صغيرة ثانوية، يمكنها ان تتبنى رسالة غير رسالاتها الخاصة، وان تسير في ركاب امة اخرى وتعيش من فضلاتها.

 

الشيوعية ليست مجرد نظام اقتصادي بل هي رسالة، رسالة مادية اممية تنفي حقيقة القوميات في العالم وتنكر الأسس الروحية والوشائج التاريخية التي تقوم عليها الأمة، فالعرب اذن مخيرون بين الاممية المصطنعة وبين انسانيتهم الحية المتحققة ضمن قوميتهم كنتيجة لنضج هذه القومية وتكاملها. وان حرص العرب على رسالتهم الخاصة بهم وعلى استقلال شخصيتهم لا يعني منهم تعصبا ورغبة في الانعزال والجمود، ففي حاضرهم وماضيهم ما يكذب هذه التهمة. ولكنهم مقتنعون بأن كل اصلاح او تقدم لحياتهم لا يستمد دوافعه وغايته من عقيدتهم القومية، ومن الايمان بوجود رسالة عربية خالدة سيكون تقدما سطحيا يعجز عن توحيدهم ورفعهم الى مستوى الابداع والبطولة، ويتركهم افرادا متنافرين، تستعبدهم الانانية وشهوة المادة.

 

3- الشيوعية تربط العرب بالعالم ربطا متحزبا خطرا

 

يقرر الشيوعيون ان العرب عاجزون عن تحقيق استقلالهم ونهضتهم القومية اذا لم يربطوا مصيرهم بمصير العالم، ولم يأخذوا بأسباب الحضارة الحديثة، ثم يستنتجون من ذلك نتيجة خاطئة مغرضة: وهي انهم وحدهم يستطيعون ايجاد هذا الارتباط المزدوج، بأن يلحقوا العرب فكريا بالنظرية الشيوعية وان يلحقوهم سياسيا بمنظمات الاممية الثالثة أي بسياسة الاتحاد السوفييتي. ولكن العرب لا ينكرون ضرورة اتصالهم بالعالم الحديث، الا انهم لا يرون امكان الافادة من الاتصال الثقافي الا اذا تكونت شخصيتهم القومية وبلغت حدا كافيا من النمو والوضوح والوعي لخصائصها يسمح لها بتمثل الافكار الاجنبية وتحويلها الى ما يزيد في نموها وتوضيح اتجاهها.  لذلك هم يشعرون بخطر الارتباط الفكري المتحزب عليهم، لانه من جهة يهدد بطمس شخصيتهم القومية او على الأقل يعوق تفتحها، ومن جهة اخرى يفرض على الفكر العربي الحديث، وهو بعد في اول يقظته، نظرة متحزبة تقضي على حريته ونزاهته، وتدفعه في طريق التعسف والتعصب والخطأ. اما من جهة الاتصال السياسي فالعرب لا يطلبون اكثر من ان يكون تحالفهم مع الدول حرا، وان يستلهموا فيه مصلحتهم القومية قبل كل شيء.

 

4- الشيوعية لا تفهم امراض المجتمع العربي

 

النظرية الشيوعية وليدة الغرب وقومياته المتعصبة المتناحرة، وصناعته المتضخمة. لذلك فهي في البلاد العربية تحارب امراضا غير موجودة، أي انها تلهي العرب عن محاربة امراضهم الحقيقية. فالشيوعية تريد ان تهدم العصبية القومية في امة لم تتكون قوميتها بعد، وتخشى من هذه العصبية على الامم الاخرى وعلى السلام العالمي في وقت لا يزال العرب فيه محكومين من قبل غيرهم.

 

واخيرا فالشيوعية تمنع العرب من التفكير في اشتراكيتهم والاهتداء اليها، لأنها بادعائها ان الاشتراكية هي الماركسية، وان لا اشتراكية الا فيها وبها، قد شوهت الاشتراكية الصحيحة التي يحتاجها العرب. والماركسية، كما رأينا، نظام كلي أممي يتجاوز السياسة والاقتصاد الى الاخلاق والدين وكل ناحية من نواحي الحياة، في حين ان الاشتركية ليست اكثر من نظام اقتصادي مرن متكيف مع حاجات كل امة. وليس بعسير على العرب ان يهتدوا الى اشتراكية عربية مستمدة من روحهم وحاجات مجتمعهم ونهضتهم الحديثة، تقتصر على ايجاد تنظيم اقتصادي عقلاني عادل يحول دون الاحقاد والنزاعات الداخلية ودون استغلال طبقة لأخرى وما ينتج عن هذا الاستغلال من فقر وجهل وشلل لنشاط أكثرية افراد الشعب العربي، وهكذا تكون هذه الاشتراكية خادمة للقومية العربية، وعنصرا هاما في بعثها وتحقيقها.

 

عام 1944

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول