ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


لبنان و العروبة

 

 

حسبما تكون نظرتنا الى مستقبل الاتجاه العربي الثوري نظرة متفائلة او متشائمة، ننظر ايضا الى موضع لبنان من العروبة، والى موقف العروبة من لبنان.

 

والواقع ان اكثرية الذين يسمون انفسهم ثوريين عربا بهم يأس من لبنان ومن امكانية انفتاحه على العروبة وانسجامه معها.

 

وسبب هذه النظرة سطحية وانحراف في ثورية هؤلاء "الثورين". فالعروبة الحديثة، أي العروبة الثورية، لا يجوز ان تيأس من جزء من اجزاء وطنها وشعبها، لان الثورة العربية ليست الا الانكباب على مواطن الالم واسباب التأخر والفرقة في مجتمعنا، ومعالجتها من الأعماق والجذور، بروح مشبعة بالايمان والتفاؤل، ايمان بمبادئ الثورة، وتفاؤل بقدرة شعبنا على التجاوب مع هذه المبادئ.

 

وأكثر من ذلك، فالروح الثورية انما هي التي تتخذ من المشاكل المعقدة مناسبات ودوافع لتعميق المبادئ وامتحانها، وتصحيح الأسلوب، واعطاء الرسالة كل معناها ومداها.

 

وفي وطننا العربي الكبير من المشاكل والأوضاع الشاذة المتراكمة ما يتحدى ثورية القومية العربية واصالتها كل يوم، ويدفعها باستمرار كيما تجعل من واقعها وعاءا شفافا للمبادئ التي نادت بها.

 

فالمغرب العربي تكوينه التاريخي الخاص الذي يجمع بين العرب والبربر، ثم هجرة اعداد ضخمة اليه من الاوروبيين في ظل الاستعمار الفرنسي... والعراق وأقلياته العنصرية، وخاصة تلك الاقلية الكبيرة من الاكراد... ولبنان وتكوينه الخاص الذي اعطى لفروق المذهب والدين معنى الاختلاف الحضاري، كل هذه الحالات تتطلب حلولا ثورية سليمة، تحفظ للعروبة كل اجزاء ارضها وشعبها، وتتحقق الوحدة الروحية والتفاهم والانسجام بين الجميع، بدلا من الحلول النابعة من اليأس التي تتراوح بين بتر الاجزاء المسببة للمشاكل، او الاحتفاظ بها بالقوة والقسر.

 

واذا قصرنا الآن كلامنا على لبنان نجد ان مشكلته لم تطرح حتى الساعة بشكل صحيح ونزيه، وأول ما يتوجب تصحيحه هو الاعتقاد بأن لبنان يكون مشكلة فريدة في الوطن العربي، مع انه احدى المشاكل الرئيسية وقد لا يكون اكثرها صعوبة.

 

ولكن الاهم من ذلك هو التخلي نهائيا عن الحكم على عروبة لبنان بمقاييس هذه الدولة العربية او تلك، والرجوع بدلاُ من ذلك الى مقاييس العقيدة القومية الثورية التي لم تتجسد بعد بصورة كاملة في اية دولة عربية، وان كان بعض الدول يقترب منها اكثر من بعضها الآخر.

 

في ضوء هذه الحقيقة يبدو لبنان اقل ابتعادا عن العروبة من عدد من الأقطار الاخرى. وعندما نتخلص من هذا الالتباس نكون في الوقت نفسه قد وضعنا حدا في لبنان للاعتقاد الخاطئ الذي يعتبر كل نقص او خطأ في تصرفات بعض الدول العربية نقصا في القومية العربية ذاتها. كما اننا، بالمنطق نفسه، نرفض تقسيم الشعب في داخل لبنان الى قسمين، قسم مع العروبة وقسم ضدها، ذلك ان الجميع في نظر المقاييس القومية الثورية، بعيدون عنها، ولو باشكال ونسب مختلفة. اذ انه لو صح التقسيم الاصطلاحي وكان نصف سكان لبنان "عروبيين" اي عربا ثوريين، لما بقي فيه مخاصما للعروبة غير القلة من الرجعيين، بل لما كان فيه تقدمي الا هو نصير لها مؤمن بها، لان مشكلة لبنان مع العروبة ليست الا مشكلة تقدمية العروبة.

 

وبهذا المعنى يصبح للبنان دور اساسي في تصحيح وتعميق وتكامل الحركة العربية الثورية، حتى لو كان الذين يخاصمون العروبة فيه لا يقصدون التصحيح من موقفهم السلبي العدائي، اذ المفروض في العروبة الحديثة ان تكون قادرة على قبول هذا التحدي والاجابة عليه بمزيد من توضيح تقدميتها وتعميق ايمانها بالحرية والانسانية.

 

عام 1960

 

 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول