ميشيل عفلق |
في سبيل البعث - الجزء الأول |
في الحياد الإيجابي
ونقول انه ليس من مصلحة الامة العربية الآن ان ينهار أي من المعسكرين العالميين، لأن انهيار المعسكر الاشتراكي معناه ظفر المعسكر الرأسمالي الاستعماري وزيادة سطوته الاستغلالية على مواردنا وثرواتنا وانتقاصه من سيادتنا. كما ان انهزام المعسكر الرأسمالي يعني بالمقابل اكتساح الفكرة الشيوعية للعالم بما تتضمنه من انكار للقومية والحرية. فمصلحتنا هي في ان يتطور كل من المعسكرين، يتطور المعسكر الرأسمالي نحو الاشتراكية والتنازل عن الاستعمار، ويتطور المعسكر الاشتراكي نحو الحرية في داخل الاتحاد السوفياتي، ونحو الاعتراف بحقوق القوميات الاخرى في اختيار طريق تحقيقها للاشتراكية في خارجه، ولن ينفسح المجال لتحقيق هذا التطور بشقيه الا اذا امتنعت الحرب .
وقيام جبهة كبيرة من شعوب العالم بسياسة الحياد، أي برفض انهيار احد المعسكرين سريعا هو رفض للحرب واعتراف بضرورة السلم. وان النجاح الذي حققته سياسة الحياد حتى الآن هو دليل واضح على وجود نقص أساسي وخطر كبير في سياسة المعسكرات والانقسام المذهبي الضيق، إذ لو كان احد المعسكرين العالميين محقا في دعوته وسياسته لما وقف قسم كبير من العالم خارج هذا الصراع لا يرى فيه مشروعية ولا مصلحة. فسياسة الحياد تعني الحكم على كلا الطرفين بالخطأ، وان كان ذلك لا يشترط تساوي الخطأ ولا تساوي الضرر. وكون هذا الحياد (إيجابيا) يعني ان هذا القسم غير الصغير من العالم الذي اخذ بالحياد لا يكتفي بسلبية الرفض والتنصل من الخطأ وإنما يأتي بحل جديد. وبهذا المعنى تصبح فكرة الحياد الايجابي اشمل من عدد الشعوب الآسيوية والافريقية، وأعمق من المستوى السياسي البحت الذي يعبر به عادة عنها. فالحياد الايجابي -بمعنى التطلع الى موقف جديد شامل- يرتفع فوق ذلك التضاد بين الاشتراكية والرأسمالية، ويتعمق في المشكلات الإنسانية والعلاقات الدولية اكثر من ذي قبل، مستفيدا من جميع التطورات والتبدلات التي تمت منذ وضعت نظرية التضاد هذه، وخاصة منذ تبلور الانقسام والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي. وبالتالي، فإن هذا الموقف الجديد يشترط التحرر التام من كل نظرة مذهبية بغية اعادة النظر في جميع النظريات والمذاهب وفي الخطط والاساليب المستمدة منها، كما يتطلب توفير الجو والشروط التي تسمح بالتخلص النهائي من منطق الصراع بين هذه النظريات بشكل واقعي سلمي.
والفهم الدقيق لسياسة الحياد يقتضيها ان تتوافق مع المراحل الطبيعية الضرورية لنضج النضال القومي في كل نواحيه. واذا كان اول واجباتنا أن نعبئ كل القوى الممكنة لانهاء الاستعمار وتحقيق الاشتراكية في أسرع وقت، فأن هذه السرعة ليست غاية في ذاتها ، ولا يجوز ان ندفع ثمنا لها الارتماء في المعسكر الشرقي، مستعينين بقوة مصطنعة خارجة عنا، وهي بالتالي تحمل بذور أخطار جديدة علينا، ومتجاهلين ضرورة نضج الشعب في نضاله، هذا النضج الذي يضمن له وحده النضج في حماية مكاسبه. ان انضمامنا للمعسكر الشرقي قد يكون هو أقصر الطرق الى التخلص من الاستعمار، لكننا نضحي بالطريق الأقصر لكي نصل في النهاية الى الحل الافضل: التخلص من الاستعمار، والحرية في الداخل، وممارسة كل حقوقنا القومية. وهذا المنطق يؤدي بنا الى ان الموقف الوحيد السليم الذي يجب علينا التزامه في هذه المرحلة هو موقف الحياد الايجابى .
وبالتالي، من هذه الزاوية أيضا، يبرز اثر ايجابية الحياد على الصعيد الانساني. فهي في الواقع لا تهدف الى مجرد تأمين مصلحة الشعوب القائمة بهذه السياسة، بل تتجاوزها الى تأمين مصلحة شعوب المعسكرين المتناحرين ايضا. فهي، من جهة، تتيح لحكومات المعسكر الشرقي مجال تصحيح موقفها من شعوبها بالاتجاه نحو الحرية، ومن جهة اخرى تعمل، بانسجامها مع مصلحة الشعوب الغربية نفسها، على ان تزداد الهوة القائمة بين هذه الشعوب وبين حكوماتها الرأسمالية الاستعمارية، لتدفعها تدريجيا الى الاشتراكية، والى طرح الاستعمار والاعتراف بحقوق الشعوب وسيادتها. وسياسة الحياد لا تعني رفض التعامل مع الغرب، بل رفض احتكار الغرب لهذا التعامل، وتقبل بالتعامل مع الغرب والشرق على السواء، تحقيقا لمصلحة شعوبهما ومصلحتنا في وقت واحد .
ومن
هنا، يظهر
خطأ موقف الشيوعيين العرب من الحياد،
اذ يرون فيه كسبا دون ان يروا فيه الكفاية، متخذين في ذلك موقفا هو في الواقع رد
فعل يكشف عن ضعف ثقتهم بأمتهم. فكما كانوا في الماضي يعادون القومية والوحدة لانهم
لم يكونوا يؤمنون بإمكان قيام فكرة قومية او
دعوة للوحدة غير رجعية، كذلك
تراهم الآن لا يكتفون بالحياد للصمود في وجه الاستعمار، بل يبدون من طرف خفي
انحيازهم للمعسكر الشرقي، وموقفهم في الحالين موقف رد فعل لموقف الرجعيين وعملاء
الاستعمار، ولا يحاولون السمو عنه الى موقف استقلالي أصيل. ان هذا الموقف الأصيل هو
الحياد، الذي يحقق السلم
الداخلي حين لا يستبق المراحل في النضال ولا يفتح الباب لحرب اهلية في كل قطر من
اقطارنا، كما انه ييسر تعاون هذه الاقطار بعضها مع بعض. فالوطن العربي يضم اقطاراً
متحررة واخرى غير متحررة، أقطارا
بلغ فيها الوعي الشعبي حدا أوصل
معه الى الحكم او فرض على رجال الحكم عناصر
تقاوم الاستعمار، واقطارا اخرى
ما
تزال حكوماتها لا تقبل هذه السياسة
التحررية لان الشعب فيها لم يبلغ بعد المستوى اللازم من النضج النضالي ولان شروط
النضال والتنظيم فيها عسيرة، وسياسة الحياد تتيح لهذه الاقطار المتخلفة ان ينضج
فيها هذا النضال حتى تتساوى مع الاقطار الاسبق، ونحن نرى اليوم فائدة هذه السياسة. اذاً بالرغم من ان بعض حكوماتنا تنحاز صراحة الى الغرب، وبعضها ينحاز اليه انحيازا
خجولا يحاول ان يجد له المبررات،
فان سياسة الحياد هي التي تجعل
هذا الانحياز بهذا التردد وهذا الخجل، وتضغط على الحكومات كي تستجيب
للشعب في الانفكاك عن الاستعمار
والعمل للتحرر.
|