ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


في القومية العربية

 


إذا كان في اهتمام الشباب ببحث القومية ما يدعو إلى الاستبشار فان في طريقة بحثهم لها ما يدعو إلى كثير من الحذر والقلق. فلقد أصبحت القومية عندهم نظرية من النظريات، يمكن الأخذ بها كما يمكن رفضها، إن لم أقل موضوعا من موضوعات الإنشاء وبابا من أبواب الصحف والمجلات.


إن إقبالا شديدا كالذي نراه على هذا الموضوع ليخيف أكثر مما يطمئن، لأنه كثير الشبه بالإقبال على زي جديد من أزياء اللباس واللهو. والزي الجديد سرعان ما يصبح قديما ويهجر بمثل الشدة التي قبل بها.


كل ذلك لأن "قوميتنا" أيضا تأتينا من الخارج بدلا من ان تنبعث من أعماقنا. إن الشجرة التي تفصل عن الأرض -مهما عظم حجمها- لا تلبث أن تجف وتخف حتى تبددها الرياح وتستحيل هباء.. بينما البذرة التي تولد في الخفاء، ما تزال تنمو وتشتد حتى تزدهر ويملأ أريجها الفضاء... أنجعل قوميتنا وهي أساس حياتنا نظرية من النظريات فنتركها عرضة لتقلبات المنطق والذوق والهوى فننادي بها اليوم ونؤثر عليها الأممية والشيوعية غدا، ونعتنق الدعوة الدينية بعد غد؟ أنفهمها فهما ضيقا فنساويها بأجزائها وعناصرها ونخير بين أن نسخر لها الفكر والفن ونضحي من أجلها بالحرية وبين أن نستعظم التضحية فنقدمها ذبيحة لكل هذه الأشياء ؟.


أنحصرها في ساحة محدودة من الوعي ونسجنها في تعريف كما فعل علماء الكلام بالدين قديما، فنحكم عليها بالهزال والفقر، والنضوب والعقم، ونقضي على جذورها المستترة في ظلام الأرض، وبراعمها الخبيئة في وهج النور؟

 

ان هذه القومية التي تأتينا من أوروبا مع الكتب والمجلات تهددنا بخطر مزدوج، فهي من جهة تنسينا شخصيتنا وتشوهها، ومن جهة أخرى تسلبنا واقعنا الحي وتعطينا بدلا منه ألفاظا فارغة ورموزا مجردة. فبحث القومية على الأسلوب الأوروبي يعللنا بآمال كاذبة، فيوهمنا أننا نبلغ ما بلغته الأمم الأوروبية العظمى بأخذنا بعض مظاهرها -أي بضرب من السحر- كما أنه يورثنا أمراضا ومشاكل وهمية فنشعر بنفس الأمراض والمشاكل التي تعانيها تلك الأمم.


ان الخطر الأكبر هو الايغال في التفكير المجرد. التفكير المجرد يوهمنا ان الواقع جامد ساكن عام في مادته الأولى، نستطيع أن نحلله ونشرّحه الى عناصر مستقلة، نعيد تركيبها ونبدل بعضها من بعض كما يحلو لنا، مع ان الواقع الحي كل متماسك منسجم، حي بتماسكه ووحدته، سابق لكل تحليل ذو فردية كاملة بذاتها. التفكير المجرد يعرّي الأشياء من لحمها ودمها ويفقدها لونها وطعمها، ويبعدها عن الدقة والضبط، فالأضداد تتشابه، والمتفاوتات تتعادل، لأنها أصبحت كلها ألفاظا واللفظة تساوي لفظة مثلها.


أية آلة دقيقة محكمة الصنع هي هذه القومية التي تحتم، كلما عرضت مسألتها في مكان، أن تنتج عنها نفس النتائج وتجابه ذات المعضلات؟ إن الذين يدخلون القومية في هذا الجو المجرد المفرغ من الهواء، لا يخطر ببالهم أنهم بنقلهم لفظة من موضع إلى آخر يزعزعون الجبال ويزلزلون الأرض، وأنهم بإهمالهم لفظة أخرى يقطعون أوصال الحياة ويحزون في شرايينها، ويحلون في ساعة ما نسجه الزمن في دماء أجيال. وإن في مقارنة القومية بالدين والتقاليد والفن مثلا ما ينم عن إخلال بدقة التفكير وفهم جزئي للقومية كأنها شيء مستقل عن الدين والتقاليد والفن، مع أنها التربة التي تنمو فيها مواهب أمة ما في كل الميادين. وعلى هذا لا يعود جائزا أن تختلق خصومة بينها وبين أحد أجزائها الأصلية المنبعثة منها، ولا ان نساويها به. أن التفكير المجرد منطقي مع نفسه اذ يقرر أن القومية لا بد ان تصطدم بالدين مثلا لأنهما يختلفان في المنبع والمظاهر.


ولكن لنهجر اللفظ قليلا ولنسم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية (العروبة) وبالدين (الإسلام) تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن، بعيدة كل البعد عن السماء، حتى يعتبر الدين شاغلا عنها مبذرا لبعض ثروتها، بدلا من اعتباره جزءا منها مغذيا لها ومفصحا عن أهم نواحيها الروحية والمثالية؟

 

ان القومية العربية ليست نظرية ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته، وليست مستعبدة الفن بل نبعه وروحه، وليس بين الحرية وبينها تضاد، لأنها هي الحرية، اذا ما انطلقت في سيرها الطبيعي وتحققت ملء قدرتها.


ثمة فرق جوهري بين الجسم الحي، مهما كان ضئيلا بسيطا وبين الجسم الآلي الذي يريد تقليد الحياة والتشبه بها، مهما أتقن الصانعون صنعه وافرغوا فيه فنهم ومهارتهم. الآلة خارجة عن مجرى الحياة وغير متصلة بالزمان. فلا يحسب الذين يستعيرون النظريات القومية والفلسفية الأجنبية ويكدسونها بعضا فوق بعض ليركبوا منها القومية العربية، انهم بوضعهم الثياب الجميلة على عصا يوهموننا بأنها تحيا. اننا لا نزال نشعر أن هناك جسما حيا اهملوه وتعاموا عنه، انه مازال عاريا. قد يكون هزيلا ولكنه جميل، وجماله لا لشيء، سوى انه حي.


كثيرا ما نسمع: (أأنتم أفضل من هذه الأمة أو تلك! انها مرت على هذه المراحل ونجحت بهذه الأساليب!) لسنا ندعي اننا أفضل من غيرنا، لكننا مختلفون عنهم: وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا عربا ويجعلهم غير عرب. ولسنا نقول بضرر الاطلاع على النظريات الرائجة عندهم بل نعتقد ان فائدة هذا الاطلاع يجب أن تبقى سلبية، أي ان نعرف بواسطته كل الأشياء التي ليست لنا، فإن ذلك يقربنا من فهم حقيقتنا وحاجتنا.


كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث من صميمها، انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة يكون تفسيرا ضالا جامدا ميتا. وكل نظرية عن العروبة يصح أن تقال على السواء عن فرنسة القرن الثامن عشر وعن اليونان في عهد أفلاطون، نظرية زائفة آلية، لأنها لا تنبىء عن خصائص المكان ولا يستشف منها انسياب الزمن. وليكفوا عن التذرع بالأشياء الخالدة المشتركة اذ لا شيء خالدا ومشتركا بين البشر غير التحول والاختلاف.


لا يصبح العرب قوميين باعتناقهم فكرة القومية فهي ليست فكرة. ولا بعملية حب وإيمان وإرادة، فهي شروط لازمة للقومية ولكنها ليست إياها. جعل القومية فكرة تعتنق يضيف الى طوائف العرب طائفة جديدة ويضع على النفس العربية طلاء فوق القشور الموجودة التي تغشاها، ويزيدنا تفرقة ويباعد ما بين التجانس وبيننا. لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء جديد ليصبحوا قوميين، بل إلى إهمال كثير مما تعلموه حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الأصيل. القومية ليست علما بل هي تذكر، تذكر حي.


وهذه المعجزة التي يسعون اليها ويتلوون على ألف شكل لكي يعثروا عليها، ما عسى تكون دهشتهم عندما تظهر فيهم نقية، كاملة، بسيطة بساطة المعجزات، إذا هم تركوا الحياة تستعيد فيهم عفويتها وحريتها وتملأ كل سعتها. عبثا ينشدون قوميتهم بتحليلها من الخارج إلى عناصرها، وتركيبها تركيبا صنعيا مستوحى من الكتب والتفكير المجرد ومثال الأمم الأجنبية، انهم لن يجدوها الا في داخلهم مركبة وواحدة معا كما هي في الواقع وككل شيء حي متداخل الأجزاء، لا يفصل عنها جزء الا ويفقدها الحياة. هي في أعمالنا الماضية وآلامنا الحاضرة، في فضائلنا وعيوبنا، في تاريخنا المسطور في الكتب وتاريخنا المحفور على حنايا الضلوع، الذي يقرر أكثر اتجاهاتنا ويغذي معظم أحلامنا.

عام 1941
 

 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول