ميشيل عفلق

في سبيل البعث - الجزء الأول


القومية حب قبل كل شيء

 


اخشى ان تسف القومية عندنا الى المعرفة الذهنية والبحث الكلامي فتفقد بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة. كثيرا ما اسمع من الطلاب اسئلة عن تعريف هذه القومية التي ننادي بها: أهي عنصرية تقوم على الدم، أم روحية تستمد من التاريخ والثقافة المشتركة؟ وهل هي تنفي الدين أم تفسح له مكانا؟ !
وكأني بهم يعلقون ايمانهم بالقومية على درجة التعريف من الصحة والقوة. مع ان الايمان يجب ان يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل انه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها.


القومية التي ننادي بها هي حب قبل كل شيء. هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته، لان الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تفعم القلب فرحاً وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو ان الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق انانيته الضيقة وتقربه من افق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن ارادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. اذ ان الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه الى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق الى الانسانية الصحيحة... وكما ان الحب لايوجد الا مقرونا بالتضحية فكذلك القومية، والتضحية فى سبيلها تقود الى البطولة. اذ ان الذي يضحي من اجل أمته دفاعا عن مجدها الغابر وسعادة مستقبلها، لأرفع نفساً واخصب حياة من الذي يحصر تضحيته في شخص واحد.


ان الذي يحب لا يسأل عن اسباب حبه. واذا سأل فليس بواجد له سبباً واضحا. والذي لا يستطيع الحب الا لسبب واضح يدل على ان الحب في نفسه قد فتر او مات.


فكيف يجوز لبعض الشباب ان يتساءلوا عن الحجة الدامغة التي تقنعهم بان حبهم لامتهم العربية يجب ان يغلب حبهم لاي شعب اخر، ويرجح على كل ميل لهم نحو طائفة او عشيرة او اقليم؟ وكيف يجوز لهم ان يتساءلوا فيما اذا كان للعرب فضائل جديرة بالحب؟ ان الذي لايحب امته الا اذا كانت خالية من العيوب لا يعرف الحب الحقيقي. وفي رأيي ان السؤال الوحيد الذي يجوز للشباب ان يطرحوه على انفسهم وعلى اساتذتهم هو هذا: ما دمنا نحب امتنا بخيرها وشرها ففي اي طريق نستطيع ان نحول هذا الحب الى خدمة نافعة وعلى اي اسلوب؟


الحب، ايها الشباب، قبل كل شيء. الحب اولا والتعريف يأتي بعده. اذا كان الحب هو التربة التي تتغذى قوميتكم منها، فلا يبقى مجال للاختلاف على تعريفها وتحديدها. فتكون روحية سمحة بمعنى انها تفتح صدرها وتظلل بجناحيها كل الذين شاركوا العرب في تاريخهم وعاشوا في جو لغتهم وثقافتهم اجيالا فاصبحوا عربا في الفكرة والعاطفة. ولا خوف ان تصطدم القومية بالدين فهي مثله تنبع من معين القلب وتصدر عن ارادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصة اذا كان الدين يمثل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها .


ميشيل عفلق
عام 1940
 

الصفحة الرئيسية للجزء الأول